تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي، لليوم السابع عشر على التوالي، قصفها الوحشي لقطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 5 آلاف شهيد (70% منهم من الأطفال والنساء وكبار السن) وهدم عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، ونزوح نصف سكان القطاع تقريبًا، وسط رفض إسرائيلي كامل لكل المناشدات والمطالب الإنسانية بوقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات للمدنيين داخل القطاع، بعدما وصلت الأوضاع الإنسانية هناك إلى مستويات كارثية، وفق تحذيرات “الأونروا” وغيرها من المنظمات الإغاثية.
جاء ذلك ردًا على عملية “طوفان الاقصى” التي نفذتها المقاومة الإسلامية بقيادة حركة حماس، وأحدثت جروحًا غائرة في صفوف الاحتلال لم يتعرض لها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فقد سقط قرابة 1400 قتيل وما يزيد على 1500 مصاب، فضلًا عن أسر 210 ما بين إسرائيلي ومزدوجي الجنسيات.
وهزت عملية الطوفان صورة الكيان المحتل محليًا وإقليميًا ودوليًا، إذ مرغّت كبرياءه بالوحل ولطخت سمعته العسكرية، الأمر الذي دفع المعسكر الغربي بقيادة أمريكا إلى الانتفاضة غير المسبوقة لدعم حليفهم الجريح، الذي يؤدي دور المندوب السامي لهم لخدمة مصالحهم في المنطقة، فكان التسليح والدعم العسكري والاقتصادي واللوجستي على المسارات كافة.
ومن ثم جاء رد الفعل همجيًا، مستهدفًا الأطفال والنساء في المقام الأول، عبر قصف المشافي والمساجد والكنائس دون أي اعتبارات لقانون دولي أو مبادئ حقوقية، في ظل الغطاء السياسي الممنوح لهم من أمريكا ومعسكرها.
وأمام الصور الموجعة لقتل الأطفال والنساء، وتسوية غزة بالأرض، والتهديد باجتياح بري وشيك، خرجت بعض الأصوات لتحمل المقاومة مسؤولية ما وصل إليه الوضع، واتهامها بأنها السبب الرئيسي في تلك الدماء والأشلاء المتناثرة بين شوارع وأزقة وتحت ركام البنايات في القطاع، ليبقى السؤال: هل بالفعل تتحمل المقاومة مسؤولية ما حدث؟ وهل هي بالفعل من تسببت فيه؟
سياق مهم لفهم الأحداث.. ماذا قبل “الطوفان”؟
قبيل بدء حماس معركة “الطوفان”، لم يكن الوضع أفضل حالًا على المستوى الميداني، إذ كثفت قوات الاحتلال انتهاكاتها بشكل يومي، وكان العامان الماضيان تحديدًا من أكثر الأوقات تكريسًا لنظرية الاستيطان الجديدة وفرض معادلة جديدة تسعى من خلالها دولة الاحتلال إلى توسيع نفوذها على حساب الفلسطينيين.
ومع سيطرة اليمين المتطرف على حكومة بنيامين نتنياهو زادت وتيرة التوحش والعنصرية، فتم التعدي على المسجد الأقصى ودُنست معظم المقدسات الإسلامية في القدس، وطُرد المصلون من المسجد ومنعوا من أداء الصلاة، في الوقت الذي سُمح لليهود والمستوطنين بممارسة طقوسهم الدينية بشكل كامل وتحت حماية الأمن الإسرائيلي.
كما كثف المحتل غاراته واجتياحه لمناطق في جنين والضفة والقدس وخان يونس وغيرها، وأسقط عشرات الشهداء فيما اعتقل المئات، كل هذا وسط صمت إقليمي ودولي ملحوظ، ما جرأ حكومة الاحتلال على التوسع أكثر وأكثر في انتهاكاتها طالما لا يوجد رادع لها.
المعركة شهدت استعدادًا استخباراتيًا متطورًا، فأخفت المقاومة استعداداتها كافة وأوهمت المحتل بهدوئها الذي أثار الجدل في كثير من الأوقات
ومع اتساع حظيرة التطبيع بدخول بعض الدول العربية منذ اتفاق أبراهام سبتمبر/أيلول 2020، الإمارات والبحرين ثم المغرب والسودان، زادت وتيرة التغول العسكري الإسرائيلي، وتوهمت تل أبيب أنها بذلك مُنحت الضوء الأخضر لتوسيع استيطانها دون أي مراقبة أو مساءلة، خاصة في ظل الانبطاح العربي الفاضح، والتواطؤ – بقصد أو دون قصد – في تضييق الخناق على المقاومة وشل حركتها قدر الإمكان لتعبيد الطريق أمام الاحتلال لتنفيذ مخططاته بأريحية.
وتشير التقارير إلى أنه قبيل السابع من الشهر الحاليّ، كانت حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو تخطط لعملية برية واسعة في غزة لغض الطرف عن فشلها الداخلي ولتحقيق انتصار زائف يداري به رئيس الحكومة عوراته التي انكشفت لدى الشارع الإسرائيلي الغاضب من سياسات الحكومة المتطرفة والمطالب بإقالتها فورًا.
وفي تلك الوضعية الحرجة التي بات فيها اجتياح غزة والتعرض لخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات مسألة وقت لا أكثر، رأت المقاومة أن خير وسيلة للدفاع قد يكون الهجوم، وأن استباق الضربة بأخرى موجعة في العمق الإسرائيلي خطوة ربما تعيد التوازن في معادلة القوى بين المحتل والمقاومة، ومن هنا جاءت عملية “طوفان الأقصى”، لكن يبقى السؤال: هل كانت حماس مستعدة بالفعل لتلك العملية وتعي بدقة تداعياتها المحتملة، أم أن ما حدث كان غير مدروس وعشوائي الأمر الذي قد يفاقم من الوضعية الحرجة؟ السؤال بمعنى آخر: كيف يمكن تقييم إدارة حماس للمعركة على مختلف المسارات؟
كيف أدارت حماس المعركة؟
استنادًا إلى تصريحات المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، في 12 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، فإن “معركة طوفان الأقصى بدأت من حيث انتهت معركة سيف القدس عام 2021″، ما يعني أنها استكمال لمعركة قديمة وليست أخرى جديدة تم استحداثها فجأة، وفي ذلك إشارة إلى الاستعداد المسبق والتهيئة الكاملة للعملية.
عسكريًا.. تعد “طوفان الأقصى” إحدى أكثر عمليات المقاومة تطورًا على المستوى العسكري العملياتي في تاريخها بالكامل، وذلك عبر مسارات الاستخبارات والتسليح والأداء العام، ومن ثم الإنجازات التي تحققت، وهو ما لم يتحقق في العمليات السابقة.
المعركة شهدت استعدادًا استخباراتيًا متطورًا، فأخفت المقاومة استعداداتها كافة وأوهمت المحتل بهدوئها الذي أثار الجدل في كثير من الأوقات، لكنها وعلى مدار عامين كاملين، منذ انتهاء “سيف القدس” عام 2021 كثفت جهودها التدريبية وباتت على قدر كبير من الجهوزية، وعلق أبو عبيدة على تلك الجهود الاستخباراتية المبذولة بقوله: “القسام مارست على الاحتلال خداعًا إستراتيجيًّا بدأ منذ أوائل عام 2022”.
وقبيل انطلاق العملية جهزت المقاومة فرقة متطورة قوامها 4500 شخص، 3 آلاف مقاتل داخل الكتائب و1500 لعمليات الدعم والإسناد، واستطاعت في غضون ساعات قليلة من الهجوم على 10 مناطق تمركز عسكري للمحتل دمرت خلالها 150 نقطة عسكرية، وأسقطت المئات وأسرت العشرات، وأحكمت سيطرتها بالكامل على بعض النقاط، الأمر الذي أصاب المحتل بالجنون والصدمة التي هزت أركانه وأفقدته عقله واتزانه.
بتلك العملية أسقطت المقاومة أسطورة “إسرائيل” الوهمية، ولطخت صورتها الذهنية التي أنفقت لأجلها الكثير على مدار السنوات الماضية، كما أنها أجبرتها لأول مرة منذ بداية الاجتياح عام 1948 على إسكان مستوطنيها بالخيام في إيلات، وحققت حماس نجاحًا على حساب الاحتلال لم يكن متوقعًا على الإطلاق، عبر عنه المحلل الإسرائيلي الشهير بن كسبيت بقوله: “حماس سعت للحصول على صورة نصر إلا أنها عادت بألبوم كامل”.
سياسيًا.. لعبت المقاومة دورًا سياسيًا جيدًا قبيل البدء في تنفيذ العملية، وهو ما يشير إلى حجم النضج الذي وصلت إليه في إدارة معاركها ونشاطها بصفة عامة، فشهد العامان الماضيان تحركات دبلوماسية إقليمية لحركة الحماس مع العديد من البلدان العربية والإسلامية خاصة قطر ومصر وتركيا وإيران، نجحت من خلالها في ترسيخ حضورها وكسب الدعم السياسي بعد سنوات من الجفاء مع بعض العواصم.
هذا بخلاف توسعة حضورها العسكري عبر أدوات السياسة، حين نجحت في تعزيز إمكانياتها من خلال بناء أرضية مشتركة وخندق عمليات موحد مع قياداتها في لبنان وسوريا وإيران تحديدًا، وهو ما ساعدها في إنعاش ترسانتها التسليحية رغم التضييق المفروض عليها، سواء من الجانب الإسرائيلي أم المصري.
واتضح هذا النضج السياسي بشكل لافت مع إدارة ملف الأسرى والرهائن، حيث فرضت المقاومة حربًا نفسيةً من نوع خاص على المحتل عبر هذا الملف، الذي استطاعت من خلاله تفنيد ادعاءات حكومة الاحتلال وحلفها الغربي الداعم وكشف كذبهما وتزييفهما للحقائق من جانب، وإجباره على إعادة حساباته وإحداث حالة من الارتباك في صفوفه وفقدان الثقة بين قياداته السياسية والعسكرية من جانب آخر.
وكان من إنجازات هذا النضج السياسي أن فرضت حماس والجهاد وغيرها من الفصائل الفلسطينية نفسها على المائدة السياسية العربية والإسلامية كفصائل مقاومة مشروعة بدلًا من شيطنتها واتهامها بالإرهاب، كما أزاحت المقاومة السردية الإسرائيلية في التعاطي معها عربيًا، وباتت أعلامها وهتافاتها حاضرة بقوة في شوارع العالم العربي والإسلامي، بل والأوروبي كذلك.
إعلاميًا.. تبنت المقاومة إستراتيجية إعلامية متزنة خلال تلك الحرب، مستندة في ذلك إلى المعلومات ولغة الأرقام، فكانت حاضرة بشكل مقبول في المشهد من الناحية الإعلامية، تصريحات متلفزة بين الحين والآخر لأبي عبيدة، ثم كلمات موازية من قادة المقاومة في بيروت وغزة.
وحرصت في خطابها الإعلامي على العزف على 3 مسارات رئيسية: أولها التأكيد على سيطرتها على الميدان من خلال استمرار عملياتها في العمق الإسرائيلي بما يفند ادعاءات الاحتلال، ثانيها توعد المحتل بإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر والتشديد على أن العواقب ستكون وخيمة، بل وصل الأمر إلى الحرب النفسية من خلال الإعلان عن مواعيد محددة لاستهداف أماكن بعينها في الأراضي المحتلة وتنفيذها بطبيعة الحال، كما هو الحال في عسقلان وغيرها.
أما المسار الثالث فهو التخندق إلى جانب الشارع العربي والإسلامي الثائر ومخاطبته للتحرك والخروج لدعم القضية الفلسطينية من خلال الضغط على حكومات العالم، وهو ما تم بشكل غير متوقع، في رد فعل ربما يكون الأول من نوعه خلال العقود الأخيرة، أن يستجيب الشارع العربي والإسلامي لنداءات المقاومة.
هل تورطت المقاومة بالفعل؟
ربما تكون الخسائر في صفوف الفلسطينيين كبيرة نسبيًا، لكن كان هذا متوقعًا في ظل الضربة القاضية التي تلقتها دولة الاحتلال، كما أن الاستهداف بحق أبناء فلسطين لم يتوقف، قبل العملية وفي أثنائها، ولن يتوقف بعدها بطبيعة الحال، فهذا ديدن المحتل.
لكن ما تحقق حتى اليوم وبلغة الأرقام يشير إلى انتصار كبير حققته المقاومة، أعادت من خلاله ترتيب المشهد، وفرضت معادلة جديدة للتوازن والقوى، معادلة تقوم على أن لكل فعل رد فعل، وأن التفوق العسكري الإسرائيلي سيقابله تفوق من نوع آخر في صفوف المقاومة، والدم الإسرائيلي ليس بأفضل من الدم الفلسطيني، وهي المعادلة التي نسفت بشكل كبير معظم أركان المعادلة القديمة التي تقول وفق الأرقام والإحصاءات أن القتيل الإسرائيلي يقابل 27 شهيدًا فلسطينيًا، لتصبح اليوم 1 إلى 3 على أقصى تقدير.
وعلى المستوى السياسي فقد أعادت عملية الطوفان زخم القضية الفلسطينية للشارع مرة أخرى، ولأول مرة منذ أكثر من عقد كامل تخرج المظاهرات الداعمة لفلسطين في مصر وبعض بلدان أوروبا، بجانب الخطاب الإعلامي العربي والإسلامي الذي لأول مرة يميل بشكل كبير لصالح القضية على حساب دولة الاحتلال.
ومع افتضاح الخذلان العربي والإسلامي إزاء الحرب الدائرة الآن في غزة، في ضوء الحسابات والمواءمات البرغماتية، بات من الواضح أن المقاومة هي غرفة الإنعاش الوحيدة لإبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة، وجدارها الصلب وسط الركام المتناثر من مواقف ركيكة ومتضاربة ومنبطحة.
المقاومة بتلك العملية نجحت في تعرية المجتمع الغربي وفضح نفاقه على الملأ، كذلك كشفت عن همجية المحتل وزيف ادعاءاته بشأن السلام، بما يعيد ترتيب المشهد مرة أخرى وفق تلك السردية الجديدة، ويطيح باتفاقات أبرهام شكلًا ومضمونًا، وهو الإنجاز الذي ما كان له أن يتحقق دون “الطوفان”.
لا ينكر أحد أن الضريبة كبيرة وربما فادحة، لكنها الضريبة التي اعتاد الفلسطينيون دفعها بين الحين والآخر، الفارق هذه المرة أنها تدفع بمقابل كبير وليس مجانًا كما كانت في السابق، وبصرف النظر عما يمكن أن تحدثه الهمجية الإسرائيلية من خسائر، لكن ما كان قبل “طوفان الأقصى” لن يكون كما بعده بأي حال من الأحوال.