لقد فعلها قبل يومٍ من المسيح، هذا ما عقّب به المترجم العالمي صالح علماني عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” يوم 17 من أبريل عام 2014، بعدما تأكد نبأ وفاة “ماركيز”.
فالأديب العالمي والحاصل على جائزة نوبل عام 1982، جابرييل جارسيا ماركيز، كان قد أُصيب بعدوى بكتيرية تنفسية، استدعت احتجازه في مستشفى المكسيك في أول خميس من شهر الغبار والأكاذيب أبريل، ثم استقرت حالته الصحية وأعادوه إلى المنزل الذي عاش واستقر فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي في مدينة المكسيك، في اليوم التاسع من نفس الشهر، ليشهد أسبوع الآلام في بيته ثم يرحل في صمتٍ مهيب لا يتماشى مع الضجيج الذي أحدثه في هذا العالم، في الساعات الأخير من خميس العهد، الذي يسبق الجمعة العظيمة التي مات فيها المسيح طِبقا للعقيدة المسيحية.
السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة، ليست لها فرصة أخرى على الأرض
صورة كبيرة لماركيز يعلقها أحد العمال على واجهة قصر “بيلاس أرتيس” في مكسيكو سيتي، حيث أقيمت مراسم تأبينه
في عام 2012، أعلن “جايمي ماركيز” الأخ الأصغر لـ “جابو” من خلال مؤتمر صحفيّ، أن أخيه الذي ملأ الدنيا ضجيجًا وصخبًا، تم تشخيصه بالخرف Dementia، وأنه سيتوقف عن الكتابة وسيلزم عزلة أبديّة ربما تتفوق عن تلك التي عاشتها سلالة الكولونيل بوينديا في ماكوندو، لأن السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة، ليست لها فرصة أخرى على الأرض.
وقتها عرف العالم أن “جابو” لم يعد لديه من يُكاتبه، وأن رفقاء ذاكرته الذين رافقوه منذ كان في الرابعة من عمره وأحياهم على الورق كي يؤنسوا رحلته الطويلة، قد غادروه إلى غير رجعة.
وجابرييل جارسيا ماركيز، المولود في منزل جديه لأمه، في أراكاتاكا /كولومبيا في 6 مارس 1927، قضى معظم حياته في المكسيك وأوروبا، حظى بشهرة خرافية، بعد نشر عبقريته “مئة عام من العزلة”، والتي أهّلته عن جدارة للحصول على جائزة نوبل عام 1982، بالإضافة للعديد والعديد من الروايات الأخرى الناجحة، التي بيعت وتُرجمت للغات عِدة حول العالم، حيث تقدر عدد النسخ المباعة من رواياته نحو 65 مليون نسخة، ويعرف قُراءه المخلصين، أنه يتعامل مع شخصيات قصصه كما لو أنهم حقيقيون من لحم ودم.
أحد الحضور الذين اصطفوا يوم 20 من أبريل عام 2014، أمام قصر الفنون الجميلة في مكسيكو سيتي، من أجل تأبين ماركيز
يستحضرهم وقتما يشاء من قصص قديمة، بعدما ظهروا كضيوف شرف، أو يخلقهم في قصة ثم يستدعيهم لاحقًا بعد أعوام طويلة في رواية، مثلما حدث في قصة “يوم بعد السبت” من مجموعته القصصية “جنازة الأم الكبيرة”، عندما خلق “ماركيز” مسقط رأس عزلته الشهيرة بلدة “ماكوندو”، وبث الروح في “خوسيه أركاديو بوينديا” والكولونيل “أوريليانو بوينديا” و الجدة “أورسولا” والكاهن الـمُعمِّر “أنطونيو إيسابيل”، الذين صاروا لاحقًا أبطال روايته الملحمية “مئة عام من العزلة”.
وماركيز الذي بدأ حياته كمراسل صحفي ولطالما أعلن اعتزازه بصفته الصحفية، لم يدرس الصحافة أو الإعلام، بل اضطر لدراسة القانون، نزولاً على رغبة أبيه، لكنه عاد وترك الجامعة دون أن يُتم تعليمه ويحصل على شهادة عليا، بسبب أحداث شغب دامية وقعت بعد مقتل الزعيم الشعبي “خورخي إليثيير جايتان”، أدت إلى غلق الجامعة آنذاك، ليرحل ماركيز إلى بارانكويلا، ويبدأ حياة الصحافة، حيث عمل ككاتب عامود ومراسل صحفي لصحيفة إل هيرالدو.
صورة من مراسم استلام ماركيز لجائزة نوبل في الآداب عام 1982
في هذا التقرير، جمعنا لكم بعض الخفايا التي لا تعرفونها عن جابرييل جارسيا ماركيز وعن كواليس كتابته لأعماله الخالدة، والتي ذكرها بنفسه في سيرته الذاتية “عشت لأروي” أو في بعض مقالاته المجموعة في كتاب “غريق على أرض صلبة” أو في حواره الطويل مع بيلينيو ميندوزا في كتابه ” رائحة الجوافة” أو في سيرته الذاتية التي كتبها “جيرالد مارتن” وأشرف عليها ماركيز بنفسه طول أكثر من عقد من الزمان، أو في خُطبه التي كُتبت بنية أن تُقرأ على جمهور، منذ أن كان في السابعة عشر، والتي جمعها “كريستوبال بييرا” في “ما جئت لإلقاء خطبة”، أو في كتابه “ورشة سيناريو” والذي دوّن فيه ما دار في ثلاث ورش “كيف تُحكي حكاية/ نزوة القص المباركة/ بائعة الأحلام”، أقامها لكتابة السيناريو.
جابرييل ماركيز.. ابن أُمّه!
والدا ماركيز: جابرييل إيليخو جارسيا ولويسا سانتياجا ماركيز
اختار ماركيز أن يبدأ سيرته الذاتية “عشتُ لأروي”، بالحديث عن “لويسا سانتياجا ماركيز” المرأة التي اختار اسمها ليكون كنيته، ليحكي عن علاقته الأبدية المعقدة بها.
فـ “لويسا سانتياجا ماركيز”، وُلِدت في يوم القدّيس “لويس سانتياجو” فأطلقوا اسمه عليها، هذا الاسم الذي كرهته وظلت تخفيه طول عمرها، ظنًا منها أنه اسم ذكوري، إلى أن جاء ابن عاق وذكره في رواية.
يحكّي ماركيز أنها كانت حكّاءة بالفطرة، ولا يعلم أين ومتى أتقنت ألاعيب الحكي، ولا يدري من أخبرها بالتقنيات التي يُدّرسونها في ورشات الكتابة وتتطلب حياة كاملة من الشخص كي يتعلمها، حيث كانت تُجلسهم لتحكي لهم قصصًا خيالية، فتعرف متى تُهيء ضربة مؤثرة، فتذكر أحد الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالحكاية، ومن ثَمّ تواصل الحكي دون أن تُشير إليه مرة أخرى.
ثم فجأة وقبل النهاية تمامًا، تُخرجه من كُمّها كحاوٍ قدير، قادر على إخفاء أرنب في حقيبته ثم إخراجه من أنفه أمام التماعة عيون الأطفال وشهقاتهم. حيث كان ماركيز يتباهي دومًا، أن نصف الحكايات التي بدأ بها تكوينه السحري، قد سمعها عن أمّه.
والدا ماركيز يتوسطان بعض أفراد أسرته بعد إعلان فوزه بنوبل
يجهل الكثيرون، أن رواية “الحب في زمن الكوليرا” – والتي تم تحويلها لفيلم -، هي قصة حب أبيه وأمّه، وأن المرأة القوية القادرة فيرمينا داثا بطلة الرواية هي نفسها أمّه لويسا سانتياجا، التي غذّت مخيلة ابنها الحكّاء، بالحديث شبه اليومي عن قصة ارتباطها بأبيه ورفض جده – أبيها الكولونيل – لهذا الارتباط ومحاربته وإرسالها بعيدًا كي يتوقفا عن اللقاء ولكي تهدأ فورة هذا الحب.
لكن أبو ماركيز، والذي كان في البداية عامل تلجراف، حارب من أجلها، ودرس الصيدلة وتحول لصيدلاني كي ينال مباركة ورضا الكولونيل نيكولاس ريكاردو ماركيز والد لويسا، وظل يلاحقها برسائل التلجراف وقصائد الحب وألحان الكمان الرومانسية، حتى استسلم الكولونيل ووافق على إتمام هذا الزواج.. ليُنجبا لنا فيما بعد، جابو!
غلاف إحدى الطبعات من رواية الحب في زمن الكوليرا
تتجلى علاقة ماركيز بأمّه واحترامه لها في القصة وراء كتابته لرواية “قصة موت معلن” والتي صدرت في عام 1981، حيث إنها مستوحاة من أحداث حقيقية، حدثت قبل عشرين عامًا من إصدار الرواية، كان ماركيز وقتها صحفيًا يتابع أحداث جريمة قتل حدثت في “سوكري” عام 1950، لأحد جيرانهم، إلا أنه كان غائبًا خارج البلدة من أجل دراسة الحقوق – كما أراد له أبويه -، وأتاه الخبر في رسالة مقتضبة تركتها له “مرسيدس بارتشا” – التي صارت زوجته الأبدية فيما بعد في مقر الصحيفة الذي كان يعمل فيها دون علم أهله – “لقد قتلوا كايتانو”.
وبعد أن جَمَع كل المعلومات وحان وقت نشرها في ريبورتاج صحفي، اتصلت به أمّه والتي كانت صديقة مقربة من أم القتيل “خولييتا تشيمنتو” وعرّابة أخو ماركيز الصغير “هريناندو”، وأخبرته: إياك أن تتجرأ وتنشر حرفًا واحدًا عن الحادث، ثم أغلقت الهاتف، فوضع ماركيز الهاتف وأضاع على نفسه سبقًا صحفيًا لمجرد الامتثال لطلب أمّه، على الرغم من أنه وكما ذكر في سيرته الذاتية، لم يمر عليه يومًا واحدًا إلا وكانت أصابعه تتحرق لهفة إلى كتابة ذلك التحقيق، وخلال 20 سنة، وضع جابرييل السبق الصحفيّ الذي أضاعه على نفسه جانبًا، دون أن يجرؤ أن يفاتح أمه في نشره.
غلاف إحدى الطبعات من رواية “قصة موت معلن”
حتى سافر إلى الجزائر وشاهد في المطار أميرًا عربيًا يحمل فوق ذراعه صقرا مغمّم العينين، فتذكّر القتيل بطل القصة التي حدثت قبل 20 سنة والذي كان مولعًا – أيضًا – بالصقور، فاتصل بأمّه وطلب منها أن تسمح له بكتابة رواية مستوحاة من حادثة القتل، خاصة أن أم القتيل نفسها كانت قد رحلت منذ فترة بعيدة، فصمتت لويسا لفترة اعتقد ماركيز أنها الأبد، ثم قالت: ولكن عِدني أن تكتب عنه كما لو أني أنا أمّه، فمنحها الوعد، وجلس ليكتب الرواية.
وأبرّ ماركيز بقسمه، بل واختار اسمها – لويسا سانتياجا – ليكون اسم الجارة وأم القتيل – أيضًا – بالعمادة، ولم يذكر طول أحداث الرواية، أن من ساعد في قتل البطل عن غير قصد، كان أمّه، حين أغلقت الباب الخلفي للمنزل لحماية ابنها من القَتَلة؛ دون أن تعلم أن ابنها ليس في المنزل ولا يزال يركض في الشارع محاولاً الوصول للمنزل كي يحتمي فيه، ليُقتل سانتياجو نصّار أم باب بيته المُغلق في الصفحة الأخيرة من الرواية، في محاولة من ماركيز كي لا يسمح لنفسه أو للقارئ في الحديث عن هذا الأمر، وتحميل الأم الأرملة مسئولية مقتل ابنها الوحيد.
رواية رواء رواية
غلاف إحدى الطبعات الإسبانية من رواية مئة عام من العزلة
وُضِعت روايته الأسطورية “مئة عام من العزلة” ضمن أفضل مئة رواية في التاريخ، وتُرجِمت إلى أكثر من 30 لغة، وبيع منها بصورة رسمية حول العالم – بعيدًا عن ملايين النُسخ الأخرى المزروة – ما يزيد على 30 مليون نسخة، وعلّقت صحيفة النيويورك تايمز بعد صدور الطبعة الإنجليزية منها بـ قليلة هي الروايات التي تغير حياة الناس وهذه واحدة من تلك الروايات، وقال عنها النُقّاد إنها أول عمل أدبي، بجانب سفر التكوين، يجب على البشرية كلها قراءته.
في تسعينيات القرن الماضي، كتب “ماركيز” مقالاً تحت عنوان “رواية رواء رواية” في عموده اليومي في مجلة كامبيو الكولومبية والتي كان يرأس تحريرها آنذاك، ليحكي عن ملابسات كتابة هذه الملحمة الأسطورية، بعدما عُرضت في إحدى صالات المزادات ببرشلونة إحدى المسودات الأصلية للرواية العالمية “مئة عام من العزلة” والتي تحتوي على 1026 تصويبًا بخط يد “ماركيز”، ومكتوب عليها بخط يده، إهداءً للصديقين جانيت ولويس ألكورثيا “من أكثر صديقًا أحبكما في هذا العالم”.
اضطر ماركيز بسبب هذه الرواية أن يتوقف عن العمل كي يتفرغ لها تمامًا، وتكفلت زوجته مرسيدس بكل المسائل الحياتية اليومية والمادية
قال ماركيز في هذا المقال، أن فكرة “مئة عام من العزلة” والتي ظلت تؤرقه لفترة، لم تكن تختلف عن أفكار رواياته السابقة فقط، ولكنها كانت تختلف تمام الاختلاف عن كل ما قرأ في حياته، وأن هذه الفكرة التي كانت تلح على رأسه وتشغل باله في أثناء الإجازة القصيرة التي قضاها مع أسرته على الشاطئ – ولم ينعم فيها بلحظة واحدة من الهدوء – كانت تُسبب له نوعًا من الرعب غير معروف المصدر.
“حين عُدنا للمكسيك، جلست أمام آلة الكتابة لأُسجّل جملة البداية التي لم أعد أحتمل الاحتفاظ بها في داخلي أكثر من ذلك.
بعد عدة سنوات وأمام فصيلة الإعدام، كان على الكولونيل أورليانو بوينديا أن يتذكر ذلك اليوم البعيد الذي اصطحبه فيه والده ليتعرف على الثلج.
ومنذ تلك اللحظة لم أتوقف يومًا عن الكتابة حتى السطر الأخير من الرواية، وكأنه حلم مسيطر“.
اضطر ماركيز بسبب هذه الرواية أن يتوقف عن العمل كي يتفرغ لها تمامًا، وتكفلت زوجته مرسيدس بكل المسائل الحياتية اليومية والمادية، حيث كان لهما حسابًا مفتوحًا لدى الجزار والبقال وعليهما شهور إيجار متأخرة لصاحب المنزل.
أمّا الأصدقاء المخلصون فقسّموا أنفسهم في زيارات يومية حاملين معهم مستلزمات ضرورية للبيت وكتب ومجلات، وفي المقابل كان عليه أن يحكي لهم الفصل الذي كَتَبه، لكنه كان يجتهد ليبتكر لهم قصصًا أخرى بعيدة كل البعد عمّا يكتب، فقد كان يظن أن قَصْ ما يكتبه، يُخيف العفاريت، حتى إنه وبعد الانتهاء من الرواية أعطاها لصديقه المقرب، الشاعر “ألبارو موتيس” كي يقرأها، فاتصل به غاضبًا ليُخبره أنه جعله كخرقة بالية، فالذي ظل يحكيه له طول 18 شهر لا يمت بأية صلة للرواية، لكنه عاد وأكّد الرواية أفضل بكثير.
منزل جد ماركيز في أراكاتا بعدما تحول لمتحف قومي
بعدها، وفي أوائل أغسطس عام 1966، ذهب ماركيز ومرسيدس إلى مكتب بريد سان أنجل في المكسيك ليُرسلا النسخة النهائية المكتوبة من روايته الجديدة إلى دار نشر في بيونس أيرس، كانت تكلفة إرسال النسخة نحو 82 بيزو، في حين أن كل ما كانا يملكانه هو 53 بيزو، فما كان من مرسيدس إلا أنها قسّمت الرواية لنصفين وأرسلت الجزء الأول، كانا قد اعتادا على مثل هذه الأزمات اليومية بعد عام كامل من الأزمات المادية الطاحنة، وكانا قد رهنا كل ما هو ذو قيمة في صالة معروضات “مونت دي بيداد”، ولم يتبق لهم غير الألة الكاتبة، التي كان من المستحيل رهنها، فهي مصدر الرزق الوحيد لهما. وبعد بحث مضني عمّا يمكن رهنه لإرسال الجزء الآخر من الرواية، اضطروا آسفين إلى رهن خاتمي الزواج – رغم ما يُمثّله ذلك من فأل سيء – وعادا لمكتب البريد، ليكتشفا أن ما سبق وأرسلاه كان النصف الثاني من الرواية، لا الأول، لكن مرسيدس لم تعبأ بالأمر، حيث إن كل ما كان يشغل بالها وقتها هو ألا تكون الرواية جيدة.
ماركيز مع زوجته مرسيدس وابنيهما
كانت عبارة ملائمة لثمانية عشر شهرًا من الكفاح لإنهاء هذه الرواية التي كانت يُعلّقان عليها كل الآمال، فكل ما حصده ماركيز في ست سنوات عن أربع كتب منشورة، كان “أفضل من لا شيء”.
كانا وقتها يعيشان في منزل للطبقة المتوسطة على رابية سان أنخل وكان ماركيز يعمل كمنسق عام لمجلتي “سوثسيسوس” و”لا فاميليا” بالإضافة لعمله في مراجعة النصوص للنشر وإعلانات التليفزيون وكتابة الأغاني، وكان ذلك يكفي للعيش بشكل معقول، لكنه كان يمنعه من مواصلة كتابة الروايات والقصص القصيرة.
جدارية في أراكاتا مسقط رأس ماركيز، والتي حولها ماركيز إلى المدينة المتخيلة “ماكوندو” في الرواية
فيما بعد وبعد استلام ماركيز ومرسيدس النسخ الأولى المطبوعة من الرواية في يونيو 1967، أتلفا النسخة الأصلية المكتوبة بخط اليد والتي نسخت عنها السيدة “بيرا” النسخ الثلاث الأخرى بالكربون، ولم يكونا على علمٍ وقتها أن هذه النسخة الأصلية من الممكن أن تكون أعلى قيمة من أية نُسخ أخرى، لما تحمله من تصويبات وفصل ثالث غير مقروء بأثر ماء المطر، لكن ماركيز اعترف لاحقًا، أنه حين مزق المسودة الأصلية لم يكن غرضه بريئًا، بل فعل ذلك حتى لا يتمكن أحد من كشف سر الصنعة.
ليس لدى الكولونيل نيكولاس ماركيز من يُكاتبه
غلاف النسخة الإنجليزية من رواية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه
في العام 1961، نشر ماركيز روايته القصيرة “ليس لدى الكولونيل من يُكاتبه”، تلك القصة الطويلة التي استلهم فكرتها الرئيسية من قصة انتظار الكولونيل نيكولاس ماركيز – جده لأمه الذي وُلِد في بيته في أراكاتاكا واختار اسمه الأخير/ ماركيز ليكون لقبه الذي عُرف به – لتسميته رسميًا برتبة “كولونيل” بعدما ناضل باسم الحزب الليبرالي فيما يعرف بحرب الألف يوم (1899- 1902).
ذلك الانتظار الذي دام طويلا جدًا، 35 عامًا من الانتظار، منذ العام 1902 وحتى وفاته في عام 1937، ذلك الخطاب الذي لم يصله أبدًا وذلك التكريم العسكري والتعويض الماديّ الذي لم يحصل عليه إلا في عام 2004، بعدما تقدّمت أربع جهات خاصة مكرسة للمطالبة بالحقوق التاريخية، بطلبٍ للقضاء الكولومبي في إطار السعي لإنصافه تاريخيًا.
في هذه الرواية القصيرة، أرخ ماركيز انتظار “الكولونيل بوينديا” طيلة 15 عام، رسالة تثني على خدماته وتؤكد له ترقيته إلى رتبه عسكرية أعلى، مما يضمن له ولأسرته تعويضًا ماديًا يكفي لإعالتهم، بلا جدوى، ذلك الكولونيل بوينديا الذي عاد ماركيز في عام 1967 وأخرجه مرة أخرى وحكى عنه وعن سلالته المحكومة بالعزلة في روايته الشهيرة مئة عام من العزلة.
تحكي الرواية عمّا آلت إليه حياة الكولونيل، ذلك الشخص المحنك الذي انتهى دوره السياسي وأصبح خارج اللعبة بانتهاء الحرب الأهلية، وينتظر في ألم ويأس وقليل من أمل، قرار المحكمة بضم اسمه لقدماء المحاربين.
هذه الرواية، رصد فيها ماركيز حياة الكولونيل اليومية – والتي عايش تفاصيلها بنفسه في بيت جده نيكولاس ماركيز – واصفًا البؤس وضنك الحال والاضطرار لبيع كل شيء وأي شيء قد يُؤمن لهم ثمن حفنة أرز أو دقيق، فالرجل الذي أمضى حياته عسكريًا مرموقًا في ظل الديكتاتورية التي تحكم بلدًا من بلدان العالم الثالث، كان لا يجد ما يسد به رمق جوعه هو وزوجته العجوز.
الكولونيل “نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا” جد ماركيز، وجدته ترانكيلينا أجواران كوتس أو “الجدة مينا”
كان للكولونيل نيكولاس ماركيز والذي صار في رواياته الكولونيل بوينديا، عظيم الأثر في حياة ماركيز وتكوينه، فالمحارب الليبرالي القديم، كان يحظى باحترام كبير بين أقرانه في الحزب، واشتُهر برفضه السكوت عن مذبحة إضراب عمال مزارع الموز، ذلك الحدث الشهير الذي أدى إلى وفاة قرابة المئات من المزارعين على يد القوات المسلحة الكولومبية في 6 ديسمبر من عام 1928 خلال إضراب عمال مزارع الموز، والذي تحدث عنه “جابو” في روايته مئة عام من العزلة.
كما كان الكولونيل راويًا مخضرمًا، وعلم حفيده الاستعانة الدائمة بالقاموس، وكان يأخذه للسيرك كل عام، حيث كان هو من عرفه على معجزة الجليد المذكورة في رواية العزلة، وكان دائمًا ما يقول له “لا يمكنك أن تتخيل كم يزن قتل شخص”، مشيرًا بذلك إلى أنه لم يكن هناك عبئًا أكبر من قتل شخص، وهو الدرس الذي لطالما أقحمه “جابرييل” لاحقًا في رواياته.
القصة التوراتية بين غانيات ماركيز وجميلات كاواباتا
الأديب الياباني العظيم ياسوناري كاواباتا
عندما التقى ماركيز ببعض الكُتّاب اليابانيين بناءً على طلبهم من الناقد والشاعر الفرنسي “آلان جوفروا”، أخبروه أن القرّاء اليابانيين يعتبرونه أديبًا يابانيًا، الأمر الذيّ حيره كثيرًا ودفعه للذهاب في اليوم التالي إلى أحد المكتبات في باريس وشراء كل ما توفر له من أدب ياباني، عَكف على قرائته لمدة عامين، لم يقرأ فيهما أي شيء آخر، وقتها شعر ماركيز بالرابط الخفيّ الذي يربط بينه وبين الأدب الياباني، رغم أن زيارته الوحيدة لليابان لم تُظهر له – آنذاك – أي وجه شبه بينه وبين اليابانيين.
وفي عام 1982، اعترف ماركيز في مقاله “حسناء الطائرة النائمة”، أن الرواية الوحيدة التي تمنّى لو أنه كتبها، هي رواية “منزل الجميلات النائمات”، التي كتبها الأديب العظيم “ياسوناري كاواباتا” وأول ياباني يحصل على جائزة نوبل في الآداب، سنة 1961.
فرغم كم الأعمال الأدبية الغزيرة التي قرأها، لم يتأثر “جابو” برواية كما تأثر بجميلات كاواباتا، ثم جاءت تجربة الجلوس بجوار حسناء نائمة في الطائرة المنتقلة من أميركا نحو فرنسا، لتُحيي في نفسه أحداث الرواية، وجعلته يظن لساعات أنه كاتب ياباني يبلغ من العمر 92 سنة.
غلاف النسخة الإنجليزية من رواية “منزل الجميلات النائمات”
الأمر الذي بقى يلح عليه، حتى استطاع في عام 2004 أن يحرره على الورق ويكتب هو الآخر عن رؤيته للقصة التوراتية المعروفة التي تحكي عن أحد ملوك بني اسرائيل، الذي بلغ من العمر عتيا، ووهنت صحته، فأشار عليه خَدّمه أن يستعين بعذراء شابة عفيّة، لتقوم على شؤونه وتنام بجواره، ليسترد عافيته المفقودة من صحتها الحاضرة، تحت عنوان “ذاكرة غانياتي الحزينات”.
ورغم أن الطبعات المُترجمة من رواية “منزل الجميلات النائمات” تحمل في مقدمتها مقال ماركيز “حسناء الطائرة النائمة”، والذي أشار فيه لشغفه بهذا العمل الأدبي العظيم، رغبة من الناشر الأجنبيّ في التسويق للعمل لدى قارئ ربما يعرف ماركيز أكثر من كاواباتا، فإن ماركيز صَدَّرَ روايته باقتباس من رواية “كاواباتا” واعترف صراحة ودون أي مواربة أن “ذاكرة غانياتي الحزينات” – والتي صارت روايته الأخيرة – ما هي إلا تحية إجلال وتقدير منه لياسوناري كاواباتا.
رواية “ذاكرة غانياتي الحزينات” التي كتبها ماركيز
وجدير بالذكر، أنه في السادس عشر من أبريل عام 1972، انتحر “ياسوناري كاواباتا”، وبعد ذلك التاريخ بيومٍ واحد واثنان وأربعون سنة و بالتحديد في 17 أبريل 2014، رحل “جابرييل جارسيا ماركيز” بهدوء تام على عكس الصخب الذي ملأ به الدنيا.
وأن كلا من الأديبين حصل على نوبل، وطبعت بلادَهُما، صورتيهما على طوابع بريدية تكريما لما قدماه، وتُرجمت أعمالهما وقُرءا في كل اللغات الحيّة تقريبًا.
قصيدة الدمــية.. رسالة ماركيز الأخيرة
ماركيز مع دميته والشاعر المكسيكي جوني ولش
في السنوات الأخيرة، وقبل إعلان إصابته بالخرف، انتشرت على المواقع الإلكترونية العربية، رسالة بعنوان “الرسالة الأخيرة لماركيز”، ثم انتشرت بصورة أكبر في الأيام التي تلت وفاته، بالرغم من أن لغة هذه الرسالة، مختلف كليةً عن لغة ماركيز المعروفة في خطاباته.
وترجع قصة هذه الرسالة الملفقة، إلى عام 1999، عندما كان ماركيز يخضع للعلاج من سرطان الغدد اللمفاوية، ونشرت صحيفة “لا ريبوبليكا” البيروفية، هذه القصيدة، مدعية أنها رسالة وداع ماركيز للعالم، لكن ماركيز أعلن في نفس العام، ومن خلال مقابلة صحفية، أجرتها معه صحيفة “إل تيمبو” الكولومبية اليومية، أن كاتب هذه القصيدة شاعر مكسيكي يُدعى “جوني ولش”، كتبها على لسان دمية ماركيز.
ورغم ذلك، لا زالت بعض المواقع العربية تتداول هذه القصيدة الملفقة وتنسبها لماركيز على أنها رسالته الأخيرة.