أُقرت التعديلات الدستورية في تركيا، وسط مخاوف شديدة من مؤيدي أروغان وحزبه، من ألا تمر بشكل سلس، كما هو الحال في كل الانتخابات والاستفتاءات التي خاضها الحزب طيلة مسيرته السياسية السابقة في تركيا.
فتركيا اليوم تمر بتحديات خارجية وأخرى داخلية ليس أقلها الانقلاب العسكري الفاشل والذي لم يمض عليه سوى سبعة أشهر، ثم الهجمة الإعلامية العنصرية التي شنتها أوروبا على تركيا قبيل الاستفتاء، ثم التحديات الأمنية التي تفرضها الحرب المتواصلة في سوريا والعراق، ومع كل ذلك أقدم حزب العدالة والتنمية على تقديم مشروع التعديلات الدستورية، للاستفتاء وهو لديه علم اليقين بصعوبة المرحلة وأهميتها، ذلك لأن المرحلة التي تمر بها تركيا الآن ومستقبلًا، لا ينفع معها نظام دستوري كالنظام الحالي الذي ينظم الحياة السياسية في البلد اليوم، غامر واستطاع النجاح بتمرير التعديلات، ولكن السؤال الآن ماذا ستفعل تركيا بعد نجاح تمرير حزمة التعديلات الدستورية؟
المرجح بشكل قوي أن الحكومة التركية ومنذ الآن ستعتمد لغة تصالحية جديدة مع أطياف كثيرة كانت متخوفة من المرحلة المقبلة
من المرجح بشكل قوي أن الحكومة التركية ومنذ الآن ستعتمد لغة تصالحية جديدة مع أطياف كثيرة كانت متخوفة من المرحلة المقبلة، واحتمالية تحول النظام السياسي الجديد في تركيا لنظام ديكتاتوري، وهي من أبرز مخاوف الأتراك وحتى الموالين لحزب العدالة منهم.
تخفيف نبرة الخطاب القومي التركي
فرضت الحالة التي مرت بها تركيا بعد الانقلاب الفاشل على الحكومة التركية أن تتخذ لغة خطاب داخلية قومية مختلفة عن اللغة التي كانت بالسابق، لغرض توحيد الصف التركي أمام التحدي الذي فرضه الانقلاب الفاشل على البلد، فكلنا رأينا كيف التحم الشعب التركي وبكل تياراته السياسية والاجتماعية حول قيادتهم رفضًا للانقلاب، بينما التزم الصمت الحزب الذي يمثل الأكراد والذي كان يمني نفسه بحدوث انفراجة لحزبه لو أن الانقلاب نجح.
حزب العدالة لم يجد بُدًا من تصعيد لغة الخطاب القومية بشكل استثنائي لحين تمرير حزمة التعديلات
وحينما عزم حزب العدالة على تمرير حزمة التعديلات سانده حزب الأمة بقيادة بهجلي ذي الميول القومية، بالإضافة إلى أحزاب أخرى، وبالتالي فإن حزب العدالة لم يجد بُدًا من تصعيد لغة الخطاب القومية بشكل استثنائي لحين تمرير حزمة التعديلات، خشية انفضاض المؤيدين القوميين والإسلاميين عنه، كما أوقف في هذه الفترة إجراءات تجنيس السوريين والتي يتحسس منها القوميون، حتى لا تصبح مادة دسمة للمعارضين للتعديلات لاستغلالها في دعاياتهم ضد المشروع، ولكن بعد نجاح حزب العدالة في تمرير التعديلات، فلا نتوقع أنه سوف يستمر بنفس تلك اللغة القومية.
محاولة إعادة الحوار مع الأكراد
ومن الإجراءات المتوقعة لحكومة العدالة والتنمية في الفترة الانتقالية والتي تتوافق مع تخفيف نبرة الخطاب القومي، فإننا نرجح أن تقوم الحكومة التركية ولحين تطبيق بنود التعديلات الدستورية، بالتقرب من الشعب الكردي، ومحاولة امتصاص النقمة التي تكنها صدور بعضهم إزاء الخراب الذي خلفته المعارك الأخيرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، ولا نستبعد أن يكون للزعيم الكردي عبد الله أوجلان المسجون بالمؤبد، دور مرة أخرى لإعادة التفاوض مع حزب العمال وعقد هدنة جديدة وبدء جولة مفاوضات جديدة.
يرجح أن تقوم الحكومة التركية بفتح قنوات حوار مع مُمثلِين آخرين للأكراد غير حزب الشعوب الديمقراطية الكردي
كما ويرجح أن تقوم الحكومة التركية بفتح قنوات حوار مع مُمثلِين آخرين للأكراد غير حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، (الذي يعاني زعماؤه من مشاكل مع القضاء بتهمة التعاون مع الإرهاب)، وذلك لبناء عملية سياسية جديدة ووضع حلول جذرية للمشكلة الكردية في تركيا.
ظهور معارضة سياسية جديدة
نتيجة الخسارة القاسية لكل الأحزاب التي حاولت جاهدة إفشال تمرير الإصلاحات الدستورية، فإن من المتوقع أن ينفض الكثير من جماهيرها عنها، بل إنها ربما لن تتمكن أن تتعدى العتبة الانتخابية التي تمكنها من دخول البرلمان والبالغة 10%، والمقصود بها هنا حزب الشعب الجمهوري، وحزب الشعوب الديمقراطية (الكردي)، وهذا ما سيهيء الساحة لصعود أحزاب أخرى ذات ميول أخرى بعيدة عن التوجهات الغربية، لكي تلائم ذوق الناخب التركي المحافظ، وستحاول الأحزاب الجديدة أن تتقرب أكثر وأكثر من تلك الميول لغرض كسب صوته.
وبالتالي فإن أحزاب مثل حزب الأمة بقيادة بهجلي وأحزاب أخرى التي ناصرت حزب العدالة، سيكون لها تمثيل أكبر في البرلمان القادم، أما بالنسبة للأكراد، فمن المتوقع أن تتصدر للواجهة السياسية الكردية أحزابًا جديدة هي أقرب للتوجه المحافظ، لتكون بديلًا للأحزاب اليسارية التي كانت تتصدر المشهد السياسي في الفترة السابقة.
وهنا يجب التأكيد، على أن المشهد السياسي التركي إذا ما ترتب بالشكل المتوقع، فإنه سيكون أكثر استقرارًا وسينعكس ذلك لا محالة على تحسن الاقتصاد التركي.
لغة خطاب جديدة مع أوروبا
من المتوقع أن تتبنى الحكومة التركية لغة خطاب سياسي جديدة مع أوروبا ومع الغرب بشكل عام، وبنفس الوقت فإننا نتوقع لغة خطاب جديدة من الغرب تجاه تركيا، فأوروبا ورغم الحملة الشديدة التي شنتها ضد أردوغان وحزب العدالة، خلال فترة التحضير للاستفتاء في محاولة منها للتأثير على رأي الناخب التركي، من خلال الإيهام بأن التعديلات الدستورية الجديدة ستصنع ديكتاتورًا جديدًا، وأن الاقتصاد سوف ينحدر بشدة وغيرها من الشبهات التي كانت تروجها وسائل الإعلام الغربية، لكنها لم تفلح في مساعيها تلك.
من المرجح أن تقوم أوروبا منذ الآن وصاعدًا بالتعامل مع الأمر بواقعية سياسية، وتنتهج لغة خطاب جديدة مع أردوغان وحزبه
فمن المرجح أن تقوم أوروبا منذ الآن وصاعدًا بالتعامل مع الأمر بواقعية سياسية، وتنتهج لغة خطاب جديدة مع أردوغان وحزبه، الذي أصبح عمليًا يسيطر على المشهد السياسي ولسنوات عديدة قادمة في تركيا، ذلك لأن أوروبا لا تستطيع التخلي عن تركيا، فهي دولة مهمة جدًا لها اقتصاديًا وأمنيًا، وهي الرابط البري بينها وبين دول غرب أسيا، وكونها تسيطر أيضًا على مضيق البوسفور المهم والذي ستستعيد تركيا سيطرتها عليه مجددًا سنة 2023، بالإضافة لكون تركيا تعتبر حائط صد بينها وبين عالم مضطرب أمنيًا وسياسيًا، والمتمثل بسوريا والعراق، وبالتالي فإن أوروبا لا تستطيع أن تغامر بفقدان تركيا تمامًا.
وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تعمل أوروبا على ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، إلا إنها ستحتفظ بها كشريك تجاري وسياسي ببعد استراتيجي، كما ومن المرجح أن تعمل أيضًا على تجديد تعاملها مع معارضة تركية جديدة غير الحالية والتي اُستُهلِكت ولم تعد تؤثر في الناخب التركي.
من المستحيل أن تغامر تركيا بالتخلي عن أوروبا، وستعمل بجدية للتخلص من العزلة الدولية التي تعيشها حاليًا
ومن المتوقع أن تعمل أوروبا على إحداث انشقاقات في أحزاب المعارضة التركية، أو استحداث أحزاب معارضة جديدة، تكون لها لغة خطاب جديدة مختلفة عن لغة خطاب حزب الشعب الجمهوري مثلًا، لتبقي تأثير حاضرًا داخل الساحة السياسية التركية.
أما بالنسبة لتركيا فإن أوروبا تعتبر الشريك الاقتصادي رقم واحد، وسوقًا رائجة لتصريف منتجاتها الزراعية والصناعية، كما أن الاستثمارات الأوروبية كبيرة جدًا في تركيا، فمن المستحيل أن تغامر تركيا بالتخلي عن أوروبا، وستعمل تركيا بجدية للتخلص من العزلة الدولية التي تعيشها حاليًا، من خلال التقارب مع الدول الأوروبية.
خطاب سياسي جديد مع الولايات المتحدة وبريطانيا
وفيما يخص الولايات المتحدة وبريطانيا فإننا نعتقد أن مهمة الأتراك سوف تكون أقل صعوبة، فمع التغيرات التي حصلت على سياسة الولايات المتحدة بعد وصول ترامب لسدة الرئاسة، وكذلك التغير الحاصل في بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي، فإن هذين البلدين يجدان أن مشتركاتهما مع القيادة التركية أكبر بكثير من نقاط خلافهما، وستلعب تركيا على هذين المتغيرين، من خلال تعزيز القناعات الأمريكية بضرورة إيجاد منطقة آمنة في شمال سوريا، وهو الحد الأدنى الذي تطمع تركيا بالحصول عليه من الأمريكان، واستثمار التغير الحاصل بالتوجهات الأمريكية للملف السوري.
رد الفعل الروسي الضعيف إزاء الضربات الصاروخية الأمريكية على حليفه الأسد، يجعل تركيا تتوجه بقوة لأمريكا لتصل معها لتلك الأهداف المشتركة
كما أن رد الفعل الروسي الضعيف إزاء الضربات الصاروخية الأمريكية على حليفه الأسد، يجعل تركيا تتوجه بقوة لأمريكا لتصل معها لتلك الأهداف المشتركة، ذلك لأن المنطقة الآمنة في سوريا تعني لتركيا الكثير للتخلص من الثقل الكبير الذي يشكله اللاجئون السوريون على الحكومة التركية واقتصادها.
وقد استغلت المعارضة التركية هذا الموضوع لتأجيج الرأي العام التركي ضد حكومة العدالة والتنمية، إضافة لمنع تسلل الإرهابيين للداخل التركي، كما وفيه ضمانة للحيلولة دون توحيد الشريط الكردي صوب البحر الأبيض المتوسط، لتشكل كانتون كردي شمال سوريا، يمكن أن يكون تهديدًا جديًا للأمن القومي التركي، وقد أبدت الحكومة التركية استعدادها لتقديم الدعم العسكري لأي تحرك أمريكي بسوريا، بعد الضربة الصاروخية الأمريكية.
وفيما يخص بريطانيًا التي تحاول أن تجعل لها خارطة تحالفات جديدة تتناسب مع وضعها الجديد وهي خارج الاتحاد الأوروبي فهناك فرصة كبيرة لتوسعة العلاقات التجارية معها، والتي ستنعكس حتمًا على العلاقات السياسية بين البلدين، فكما يبدو أن السياسة البريطانية بقيادة حكومة تيريزا ماي مختلفة عن سابقيها، فهي تبحث عن علاقات تجارية مع دول المنطقة مثل دول الخليج وتركيا، وبالمقابل فإنها على استعداد لاتخاذ مواقف مؤيدة لسياسات تلك الدول بالمنطقة، متمثلة برفض النفوذ الإيراني في دول المنطقة، ويمكن لتركيا أن تستغل تحسين علاقتها مع بريطانيًا لكسبها حليفًا ولاعبًا قويًا بما يخص الشأن السوري، وضد تمدد النفوذ الإيراني فيه.
العلاقة مع الروس
من غير المرجح أن تتطور العلاقات التركية الروسية إلى أفضل مما هي عليه حاليًا، ولكن تركيا ستحرص على عدم تدهور تلك العلاقة، ذلك لأن اللاعب القوي في الساحة السورية من الآن وصاعدًا سيكون الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي الدول الغربية، وروسيا منذ الآن وصاعدًا ستكون في موقف سياسي صعب إلى حد ما، بعد الضربة الكيمياوية التي قامت بها طائرات الأسد، لذلك فإن تركيا ومنذ الآن، ليست لها مصالح مع الروس غير العلاقات الاقتصادية، وكثير من أجندات تركيا في سوريا، يمكن الترتيب عليها الآن بالتعاون مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
على الصعيد الخارجي الإقليمي
من المرجح بشدة أن يكون هناك تقاربًا كبيرًا بين تركيا والدول الخليجية وسوف تشهد الفترة المقبلة، استثمارات خليجية كبرى في تركيا، وستشهد العلاقة بين الجانبين تطورًا سياسيًا جديدًا، بسبب التحدي المشترك الذي تمثله إيران وحلفاؤها من المليشيات، وكذلك التحدي الذي يمثله إرهاب داعش والتنظيمات المرتبطة بالقاعدة.
بالنسبة لمصر، فمن غير المتوقع أن تشهد العلاقة تطورًا إيجابيًا، بسبب المواقف المصرية المناكفة لتركيا
وبنفس الوقت فإننا نرجح أن تشهد العلاقة التركية الإيرانية تدهورًا كبيرًا وتدريجيًا نتيجة التنافس بين البلدين على المنطقة، وستحاول أن تُركز تركيا في الفترة المقبلة على حماية مصالحها القومية في العراق، من خلال كسب المكون السنّي واستمالة العبادي قدر الإمكان، بل ربما يصل الأمر للتدخل العسكري داخل العراق، لكسر شوكة حزب العمال الكردستاني الموجود على الأراضي العراقية، ناهيك عن استمرار تأكيد تركيا على ضرورة إسقاط الأسد وعائلته من الحكم في سوريا، ودعم المعارضة السورية بشتى السبل.
أما مصر فمن غير المتوقع أن تشهد العلاقة تطورًا إيجابيًا، بسبب المواقف المصرية المناكفة لتركيا، والجهود السعودية ربما لا يمكنها أن تردم الهوة الكبيرة بين مصر وتركيا قريبًا.