يعد النسيان من الأمور الشائعة في الحياة اليومية للإنسان، ولا يكاد يخلو يوم إلا ويتعرض الفرد لحالات من زلات الذاكرة التي قد تكون بسيطة جدًا وغير ضارة، كأنْ تنسى أين وضعت مفتاحك أو أن ترجع لصديقك باتصال هاتفي كما وعدته، أو قد يكون أكثر خطورة وله بعض العواقب السلبية، كأنْ ينسى الشاهد تفاصيل يجب أن يرويها في المحكمة مثلًا.
ربما قد اعتمدت يومًا أو تعتمد دائمًا على تسجيل الملاحظات في أجندة يومية أو جدولة أعمالك على هاتفك حتى لا يكون مصيرها النسيان والتبخر، وربما كنت من الأشخاص الذين يعانون من النسيان المتكرر للأحداث والأشياء والذين يكثرون من الأسئلة التي على غرار: أين وضعت مفتاحي؟، هل رأيتم نظارتي؟ “هل لك أن ترن على هاتفي؟ لقد نسيت أين وضعته! فهل فكرت يومًا لماذا ننسى؟ وماهية النسيان وتفسيراته؟
قام علماء النفس على مدى سنوات طويلة بوضع العديد من النظريات التي تسعى لتفسير ظاهرة النسيان
لنتفق أولًا أن النسيان ليس فقدانًا فعليًا للمعلومات من الذاكرة أو محوها كليًا، وإنما هو فشل باسترجاع المعلومات من جزء الدماغ الخاص بالذاكرة طويلة الأمد، إذ يصبح لسببٍ أو لآخر غير قادر على استرداد المعلومات وتذكرها.
قام علماء النفس على مدى سنوات طويلة بوضع العديد من النظريات التي تسعى لتفسير ظاهرة النسيان، كان أولها ما قام به عالم النفس الألماني “هيرمان إبينهاوس” عام 1885 من خلال عدة تجارب أجراها على نفسه، حدد من خلالها العلاقة المباشرة بين الوقت الذي نستغرقه لحفظ وتعلم معلومات جديدة وقدرتنا على الاحتفاظ بها وتذكرها أو نسيانها.
في إحدى تجاربه، أعد إبينهاوس قائمة من كلمات لا معنى لها، تتكون من ثلاثة أحرف فقط، ثم عمل على حفظها ومحاولة تذكرها، ثم اختبر ذاكرته بعد فتراتٍ زمنية تتراوح بين 20 دقيقة و31 يومًا ونشر نتائجه في بحثه الأول الذي أسماه “عن الذاكرة: مساهمة في علم النفس التجريبي”.
غالبًا ما نفقد المعلومات بسرعة في بداية تعلمها
كشفت نتائج تجربته والتي عرفت فيما بعد باسم “منحنى النسيان” إلى وجود علاقة رئيسية بين النسيان والوقت، فغالبًا ما نفقد المعلومات بسرعة في بداية تعلمها، بالإضافة إلى حديثه عن العوامل الأخرى التي تلعب أدوارًا في مدى سرعة فقدان المعلومات مثل كيفية تعلم المعلومة أساسًا ومدى تكرارها، أظهر “منحنى النسيان” أيضًا أن النسيان لا يستمر في الانحدار حتى يتم فقدان جميع المعلومات، فعند نقطة معينة تتوقف عملية النسيان، مما يعني أن المعلومات ستبقى مستقرة في الذاكرة طويلة الأمد دون أي تهديد لضياعها.
ومن بعد ما قام به إبينهاوس” تابع العلماء وضع الفرضيات ودراستها والوصول إلى النظريات التي من شأنها تفسير النسيان والعوامل المؤدية إليه، لعل أهمها أربع نظريات اعتمدت كل منها على عامل معين، وهي: فشل استرجاع المعلومة، فشل تخزين المعلومة، التشوش عند حفظ المعلومة، والمحفزات المختلفة التي تؤدي للنسيان.
نظرية “التداخل”
لو أنك سألت علماء النفس في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي عن سبب النسيان، لربما حصلت على إجابةٍ واحدة، وهي “التداخل”.
تنص النظرية على أن ذكرياتنا تتداخل مع ما تعلمناه في الماضي أو ما يمكن لنا أن نتعلمه في المستقبل، وتقترح أن المعلومات الموجودة في ذاكرتنا طويلة المدى قد تختلط جنبًا إلى جنب مع المعلومات الحديثة التي نعمل على حفظها، مما يؤدي إلى تشويه أو عطلٍ في الذاكرة، فمن الصعب عليك أن تتذكر ما حدث معك في اليوم الجامعي الثاني مثلًا لأن كثيرًا من الأحداث والذكريات قد مرت على ذاكرتك بعدها وتداخلت ببعضها البعض.
النسيان يحدث لأن الذكريات تتداخل مع بعضها البعض وتعطل بعضها البعض
ووفقًا لعالم النفس البريطاني ألان باديلي، فإن نظرية التداخل تنص على أن النسيان يحدث لأن الذكريات تتداخل مع بعضها البعض وتعطل بعضها البعض، وبعبارة أخرى نسيان ذكرى ما أو معلومة ما يحدث بسبب تدخل من ذكريات ومعلومات أخرى موجودة في دماغنا.
وهناك طريقتان يمكن للتداخل فيهما إحداث النسيان: التداخل الاستباقي الذي يحدث عندما نعجز عن حفظ معلومة ما بسبب أخرى تم حفظها سابقًا منذ زمن، حيث تعطل الذكريات القديمة الحديثة منها، مثل تتداخل أرقام الهواتف القديمة بالجديدة، أما التداخل الاسترجاعي فيحدث حينما نعجز عن تذكر معلومة حفظناها سابقًا بسبب أخرى تم حفظها مؤخرًا، وبمعنى آخر يتداخل التعلم الجديد مع التعلم المبكر، حيث الذكريات الجديدة تعطل الذكريات القديمة، كأنْ تتعلم الفرنسية وتلاحظ تأثيرها على لغتك الإسبانية التي تعلمتها سابقًا.
ومن الجدير ذكره أن الأحداث الفريدة والمميزة أقل عرضة للتأثر بالتداخل، فممن المرجح أنك تستطيع استدعاء ذكريات تخرجك من المدرسة الثانوية أو الجامعة، ذكريات زفافك، أو ذكريات ولادة طفلك الأول.
نظرية التلاشي أو الاضمحلال
ترى هذه النظرية أن الذاكرة تتدهور تدريجيًا مع مرور الزمن على حفظ المعلومات، فبالتالي يحدث النسيان بسبب تلف المعلومات المدخلة إلى الذاكرة طويلة الأمد وتآكلها نتيجة إهمالها لفترة طويلة دون استخدامها أو استرجاعها.
تخيل أنك لم تر شخصًا ما أو تتواصل معه منذ زمنٍ بعيد جدًا وحدث أن رأيته فجأة، حتمًا ستجد صعوبةً في تذكر اسمه أو المكان الذي تعرفت عليه، لأن ذاكرتك عملت خلال تلك المدة على محو المعلومات المتعلقة به بسبب عدم استخدامك لها لفترة طويلة.
الزمن وحده لا يستطيع تفسير النسيان رغم أنه قد يسبب بعض التغيرات التي تؤدي إليه
هناك عدة مشاكل واجهت هذه النظرية أهمها ما توصل إليه العلماء بأن الزمن وحده لا يستطيع تفسير النسيان رغم أنه قد يسبب بعض التغيرات التي تؤدي إليه، فلم تستطع هذه النظرية تفسير السبب في أن الأشخاص لا ينسون السباحة مثلًا حتى بعد مرور سنواتٍ طويلة دون أن يسبحوا فيها أبدًا أو يتلقوا أي تدريب، بالإضافة إلى مشكلة عدم استطاعتها الإجابة على سؤال لماذا بعض الأحداث والذكريات تتلاشى بسرعة كبيرة في حين تصمد بعضها وتبقى في الذاكرة.
نظرية الاسترجاع
والتي توصلت إلى أن النسيان عندما يحدث لا يعني بالضرورة أن المعلومات فقدت نهائيًا من الذاكرة، بل إنها لم تجد المحفزات والمؤثرات الكافية التي تسمح باسترجاعها، مما يعني أن درجة التذكر تعتمد على توافر بعض المفاتيح والتلميحات لاسترجاع المعلومات المخزنة، وقد تكون هذه المفاتيح والتلميحات عبارة عن رائحة معينة، موسيقى أو أغنية ما، منظر مألوف وغيرها الكثير، فلا شك بأنك مررت بحالة شبيهة كأنْ تتذكر موقفًا حدث معك في السابق بمجرد أنك سمعت أغنية معينة.
الزمن يشكل عاملًا رئيسًا في النسيان ومع مروره يصبح الوصول للمعلومات والذكريات أكثر صعوبة كما ذكرت نظرية الاضمحلال
وبالإضافة لهذه النظريات الثلاثة، هناك الكثير غيرها والتي حاولت شرح كيف ولماذا ننسى ولماذا لا نستطيع التذكر، وتبعًا للنظريات التي ذكرنا، فالزمن يشكل عاملًا رئيسًا في النسيان ومع مروره يصبح الوصول للمعلومات والذكريات أكثر صعوبة كما ذكرت نظرية الاضمحلال، عوضًا عن أن التزاحم الضخم والتنافس الشديد للمعلومات في عقولنا قد يخلق نوعًا من المنافسة بين المعلومات القديمة والجديدة، مما قد يؤدي إلى نسيان إحداها كما توصلت نظرية التداخل.
وفي حين أن النسيان – غير المرضي – يعد جزءًا عاديًا من الحياة، إلا أن هناك العديد من الأمور التي يستطيع الإنسان فعلها لتحسين ذاكرته، مثل التركيز وإعادة المعلومة وربطها بالمعلومات السابقة أو بمواقف حياتية، والابتعاد عن المشتتات التي قد تبعثر التفكير، بالإضافة إلى الحصول على قسطٍ وفيرٍ من النوم لإراحة مركز الذاكرة في الدماغ.