ترجمة وتحرير: نون بوست
في التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر، أجرى السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة، حسام زُملط، مقابلة مع مذيعة “بي بي سي”، كيرستي وارك. وأخبرها السفير قائلًا: “لقد تم قصفهم بكل بساطة. لقد دمّر المبنى بأكمله”. وقبل ساعات فقط من المقابلة، وقع ستة من أفراد عائلته ضحية للعدوان العسكري الإسرائيلي الذي أسقط المزيد من القنابل على قطاع غزة الصغير المكتظ بالسكان في أقل من أسبوع واحد مما أسقطته الولايات المتحدة على أفغانستان خلال سنة كاملة، وكانت القنبلة الأخيرة أكبر بـ 1800 مرة من غزة.
وصرّح زُملط قائلًا: “قُتلت ابنة عمي آية وطفلاها وزوجها وحماتها واثنين من أقاربها على الفور، ويوجد الآن اثنان من أطفالهما الأصغر، توأم يبلغ من العمر سنتين، في العناية المركزة”. وكان أفراد عائلته من بين الآلاف الذين قتلوا في الهجوم على أكبر سجن مفتوح في العالم، حيث يعيش 2.2 مليون شخص محاصرين. وقد أجابت وارك قائلة “آسف على خسارتك الشخصية. أعني، هل يمكنني أن أكون واضحة، لكن لا يمكنك التغاضي عن قتل المدنيين في إسرائيل، أليس كذلك؟”.
لم يكن رد فعل وارك على خسارة زُملط المروعة قاسيًا فحسب، بل إنه يكشف عن ظاهرة مثيرة للقلق في وسائل الإعلام الرئيسية، ألا وهي معيار الصناعة الذي ينطوي على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، فحزننا لا يكاد يذكر، وغضبنا غير مبرر. إن موتنا أمر يومي للغاية لدرجة أن الصحفيين ينقلون خبره كما لو أنهم ينقلون أخبار الطقس. سماء غائمة، وأمطار خفيفة، و3000 قتيل فلسطيني في الأيام العشرة الماضية. وكما هو الحال مع الطقس، فإن الله وحده هو المسؤول: وليس المستوطنين المسلحين، وليست ضربات الطائرات المسيّرة.
لقد كنتُ أنا وعدد قليل من الفلسطينيين نتنقل بين القنوات التلفزيونية ومحطات الراديو للحديث عن الفظائع التي تتكشف في غزة، والتي غاب معظمها عن العناوين الرئيسية، وقد واجهنا عداءً مماثلًا. يبدو أن المنتجين يدعوننا ليس لإجراء مقابلات معنا من أجل تجاربنا أو تحليلاتنا أو السياق الذي يمكننا تقديمه، ولكن لاستجوابنا. إنهم يختبرون إجاباتنا ضد التحيز المتأصل لدى المشاهد، وهو التحيز الذي تغذى جيدًا عبر سنوات من الإسلاموفوبيا والخطاب المناهض للفلسطينيين. إن القنابل التي تنهمر على قطاع غزة المحاصر تصبح ثانوية، إن لم تكن غير ذات صلة على الإطلاق، بالنسبة لمحاكماتنا المتلفزة.
ورغم أنني لا أتوقع مجاملات على الهواء، إلا أنني أريد تقارير دقيقة. في الأسبوع الماضي، على إذاعة “إل بي سي” في المملكة المتحدة، أخذت المذيعة راشيل جونسون (شقيقة رئيس الوزراء السابق) استراحة من المقاطعة المتكررة لاستجوابي – في الواقع، توجيه الاتهام إلي – حول تقارير شفهية لم يتم التحقق منها عن مقاتلين فلسطينيين “يقطعون رؤوس الإسرائيليين ويغتصبونهم”، ولم تذكر مقاطع الفيديو المختلفة لإسرائيليين وهم يقومون بتشويه جثث الفلسطينيين والدوس عليها والتبول عليها، والكثير منها متاح بسهولة لـ 83 ألف مشترك في قناة إسرائيلية على تطبيق تيليغرام تحمل اسم “الإرهابيون_يموتون”.
إن موتنا أمر يومي للغاية لدرجة أن الصحفيين ينقلون خبره كما لو أنهم ينقلون أخبار الطقس. سماء غائمة، وأمطار خفيفة، و3000 قتيل فلسطيني في الأيام العشرة الماضية
وكانت مثل هذه الادعاءات غير المؤكدة ولا تزال تُعرض في جميع مصادر الأخبار، وقد نشرت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية على صفحتها الأولى تقارير كبير مراسليها الدوليين، بيل ترو، “التي يتعذّر التحقق منها” عن “نساء وأطفال مقطوعي الرأس”.
من جانبه، أفاد جونا غولدبرغ، كاتب العمود في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، أنه قام بعد ذلك بحذف كلمة “مغتصبين”. وعلى شبكة “سي إن إن”، أكدت سارة سيدنر، بعينين دامعتين، على الهواء مباشرة، استنادًا إلى مصادر رسمية إسرائيلية، أنه “تم العثور على أطفال ورضّع مقطوعي الرأس”، ثم اعتذرت على تويتر – المسمى “إكس” حاليًا – بأنها “تم تضليلها”، بعد بيان، ومرة أخرى، من مصادر رسمية إسرائيلية تعترف بعدم وجود معلومات تؤكد الادعاء بأن “حماس قطعت رؤوس الأطفال”.
وهذه هي قواعد اللعبة المألوفة؛ حيث يتم تعميم المطالبة دون دليل، وقد نشرها الصحفيون الغربيون كالنار في الهشيم. ويردد الدبلوماسيون والسياسيون ذلك، ويتم بناء السرد، وعامة الناس يصدق ذلك، ويحدث الضرر.
قد يبدو من السخيف إعطاء مثل هذه الأهمية لطريقة القتل، نظرًا لحقيقة القتل، لكن مثل هذه اللغة لا تخلو من العواقب. يوم الإثنين، هاجم مالك عقار في ولاية إلينوي مستأجرين أمريكيين من أصل فلسطيني، مما أدى إلى إصابة امرأة بجروح خطيرة ومقتل طفلها البالغ من العمر 6 سنوات، وصرخ وهو يطعنهم أكثر من اثنتي عشرة مرة: “أنتم أيها المسلمون، يجب أن تموتوا”.
وقال جو بايدن إنه “شعر بالصدمة والاشمئزاز” من الهجوم، كما لو أنه يستطيع أن ينأى بنفسه عن ادعاء كان قد أطلقه قبل أيام بأنه رأى “صورًا لإرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال” (وهو ادعاء تراجع عنه بهدوء بعد ساعات).
في الواقع؛ يتغذى استحضار الاغتصاب وقطع الرؤوس على الاستعارات المعادية للإسلام. وفي الوقت نفسه، فهو يعمل إلى جانب إستراتيجية العلاقات العامة التي ينتهجها النظام الإسرائيلي، والتي سعت إلى مساواة حماس بتنظيم الدولة في مخيلة الجمهور، مما يؤدي إلى إحياء الثقافة التي أدت إلى ظهور “الحرب على الإرهاب”.
وربما يكون ضباب الحرب هو الذي دفع المراسلين إلى تكرار الافتراءات (أو، على الأقل، الإبلاغ عن ادعاءات لم يتم التحقق منها باعتبارها حقيقة)، أو ربما يكون هفوة في الحكم هي التي تدفعهم إلى مقارنة هجوم حماس بأحداث الحادي عشر من سبتمبر دون النظر إلى تداعيات مثل هذه المقارنات. أو يمكن للمرء أن يجادل بأنه سوء ممارسة صحفية. وعلى أي حال، من خلال التخلي عن أخلاقيات مهنتهم، يُنذر الصحفيون بالوحشية التي تقترب من الشعب الفلسطيني في غزة: إبادة جماعية محتملة.
هذه ليست جزءًا من نظرية المؤامرة المتطرفة. ففي 13 تشرين الأول/ أكتوبر، أكد مركز الحقوق الدستورية أن النظام الإسرائيلي، من خلال اتخاذ إجراءات “لتدمير مجموعة كليًا أو جزئيًا، بما في ذلك عن طريق القتل أو خلق ظروف معيشية لتدمير تلك المجموعة”، يرتكب إبادة جماعية في قطاع غزة. وبعد يوم واحد، أصدر معهد ليمكين لمنع الإبادة الجماعية نداء استغاثة حذر فيه “من أنه دون جهود صنع السلام الفورية، فإن المجتمع الدولي في غزة على مشارف الإبادة الجماعية وسيكون متواطئًا فيها”. وقد وصفها راز سيغال، الأستاذ المتخصص في دراسات المحرقة والإبادة الجماعية، بأنها “حالة نموذجية من الإبادة الجماعية التي تتكشف أمام أعيننا.
وإذا كان هذا الأمر يبدو شنيعًا، فذلك على وجه التحديد لأن وسائل الإعلام المؤسسة كانت تحمي – أو تمنع – القراء والمشاهدين من التصريحات الهائلة التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون والتي تشير إلى أن الإبادة الجماعية جارية.
فعندما نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تعليمات وزير الدفاع الإسرائيلي بتشديد الحصار على غزة من خلال قطع المياه والكهرباء والغذاء عن القطاع، حذفت الصحيفة ببساطة وصفه للفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”. وعندما حاول الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، تبرير الهجوم العنيف على غزة بحجة الإبادة الجماعية القائلة بأن “الأمة بأكملها مسؤولة”، نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” في البداية قوله: “ليس صحيحًا هذا الخطاب حول عدم وعي المدنيين، وعدم تورطهم”، ولكن سرعان ما حذفت الصحيفة ذلك التصريح وبقية بيانه الكاشف من المقال.
وفي الوقت نفسه، قام جندي إسرائيلي “بتصحيح” مذيعة شبكة “سي إن إن”، آبي فيليب، قائلا لها إن “الحرب ليست فقط ضد حماس، ولكن ضد جميع المدنيين”، ولكن لم تكن هناك عناوين رئيسية. وقال جندي احتياط إسرائيلي مشهور شارك في مذبحة دير ياسين سنة 1948 للقوات إن الفلسطينيين هم “حيوانات” يجب إبادة “عائلاتهم وأمهاتهم وأطفالهم”. وقال إنه “إذا كان لديك جار عربي، فلا تنتظر، اذهب إلى منزله واطلق النار عليه”، لكن تصريحه لم يتصدر عناوين الأخبار. وفي أكثر الشوارع ازدحامًا في تل أبيب، علق الإسرائيليون لافتات كتب عليها “الإبادة الجماعية في غزة”. ولم تنشر أي عناوين لذلك.
أشك بصدق في أن المواطن الأمريكي العادي يعرف أن الجيش الإسرائيلي أمر بإخلاء 22 مستشفى فلسطينيًّا، أو أنه ضرب مستشفى الدرة للأطفال في شرق غزة بالفسفور الأبيض
والأكثر أهمية من إعلانات الإبادة الجماعية هي أعمال الإبادة الجماعية، التي لم تحظ أيضًا إلا بقدر ضئيل للغاية من التغطية، مثل التهديد بقصف مبعوثي المساعدات إذا حاولوا دخول غزة، في الواقع تم قصف سيارات الإسعاف، وقتل (واستهداف، كما يقول الكثيرون)، الأطباء والصحفيين، وقصف معبر رفح بشكل متكرر، وإبادة عائلات بأكملها من السجل العام.
ولم ترد أنباء تذكر عن اتهامات بأن الجيش الإسرائيلي استخدم قنابل الفسفور الأبيض في غزة وجنوب لبنان، رغم الحظر الدولي على استخدامها في المناطق المكتظة بالسكان. ولم تكن هناك عناوين رئيسية حول البلديات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة التي بدأت في تسليح المستوطنين الإسرائيليين (المسلحين بالفعل) بآلاف البنادق أو حقيقة أن عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين قتلوا على يد المستوطنين أو الجنود منذ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر قد تجاوز الـ 50. ومن يدري ما الذي سيحدث في المستقبل؟
أشك بصدق في أن المواطن الأمريكي العادي يعرف أن الجيش الإسرائيلي أمر بإخلاء 22 مستشفى فلسطينيًّا، أو أنه ضرب مستشفى الدرة للأطفال في شرق غزة بالفسفور الأبيض، أو أنه أمر بطرد أكثر من مليون فلسطيني من شمال غزة في غضون 24 ساعة، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي (أدرجت هذا هنا فقط لأن السياسيين الذين يهتفون لهذا الهجوم يحبون الاستشهاد به).
وعندما حاول الآلاف الانتقال من الشمال إلى الجنوب، قصفهم الإسرائيليون أثناء فرارهم. وعندما أبلغت قناة “إم إس إن بي سي” عن المذبحة التي وقعت، ألقت القناة ظلالاً من الشك على براءتهم، واصفة إياهم بـ “من يبدو أنهم تم إجلاؤهم”.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، قامت صحف مثل “ديلي تلغراف” بربط صور الأبراج السكنية الفلسطينية التي دمرتها الطائرات الحربية الإسرائيلية بعناوين يبدو أنها توحي بأنها مباني إسرائيلية، في حين نشرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية صورة لأطفال فلسطينيين جرحى مع عنوان رئيسي يوحي بأنهما إسرائيليان (فقط نظرة فاحصة على التفاصيل الدقيقة للتعليق تكشف أنهما فلسطينيان).
عندما يتعلق الأمر بفلسطين، فإن التعتيم والافتراء مسموحان. الصوت السلبي هو الطاغي. ويختفي الالتزام بالحقيقة
واليوم فقط، نشرت وكالة “أسوشيتد برس” مقالاً يحتوي على عدة فقرات مذهلة – ثم قام الموقع الإخباري بحذفها بعد ذلك – تصف كيف “أصبح الدبلوماسيون الأمريكيون “منزعجين بشكل متزايد” من تعليقات الإبادة الجماعية التي أدلى بها “نظرائهم” الإسرائيليين”. وتتعلق هذه التعليقات “بنيتهم منع دخول الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود إلى غزة، فضلاً عن حتمية وقوع خسائر في صفوف المدنيين”، وتضمنت ملاحظات مفادها أن “القضاء على حماس سيتطلب أساليب استخدمت لهزيمة قوى المحور في الحرب العالمية الثانية”.
إن تغطية “الحرب” دون التعريف بجذورها للقراء أمر غير دقيق، كما أن تجاهل الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ 17 سنة أو التظاهر بأن النظام الإسرائيلي لا يملك أي سيطرة على حدوده وموارده (كما يتضح من القدرة الإسرائيلية على منع المياه والغذاء والكهرباء) يعتبر أمرًا خبيثًا، كما أن حذف عقود من العنف الاستعماري أمر ينطوي على ازدواجية. أما بالنسبة لرفض الاعتراف بأن 70 بالمئة من الفلسطينيين في غزة ينحدرون من الأراضي التي تتمركز فيها حاليًا العديد من المستوطنات الإسرائيلية – وهي الأراضي التي طردتهم منها الميليشيات الصهيونية – فليس لدي أي وصف لهذه الإبادة.
وللأسف، عندما يتعلق الأمر بفلسطين، فإن التعتيم والافتراء مسموحان. الصوت السلبي هو الطاغي. ويختفي الالتزام بالحقيقة، وكذلك العناية الواجبة. كنت أعتقد ذات يوم أن الصحافة تمثل صناعة “عدم الإضرار” و”قول الحقيقة للسلطة”، لكن المراسلين يشبهون في كثير من الأحيان كاتبي الاختزال ووزراء الدولة، الذين يضخمون الدعاية الإسرائيلية دون قصد (أو عن عمد)، وأيديهم ملطخة بالدماء.
المصدر: ذا نايشن