انسحب الاحتلال الإسرائيلي من مستوطنات قطاع غزة في خطوة أحادية الأجانب في سبتمبر/ أيلول 2005، بعد أن أجبرته المقاومة الفلسطينية في القطاع على ذلك، وألحقت به خسائر بشرية ومادية لم يعد بمقدوره مواجهتها، خاصة أن المستوطنات كانت تقع بين المدن والأحياء الفلسطينية، ما شكّل استنزافًا للاحتلال دفعه إلى الرحيل.
حينها، علّق مدير مؤسسة “منتدى الشرق الأوسط”، دانيال بايبس، بأن إجلاء الاحتلال لمستوطنيه يعد “أبشع خطأ ارتكبته أية ديمقراطية على الإطلاق، وما يزيد هذه الخطوة سوءًا هو كونها لم تأتِ بسبب ضغوط أمريكية”، مشيرًا إلى أن الفلسطينيين الذين ينظرون إلى الانسحاب الإسرائيلي تمامًا كما نظر اللبنانيون إلى خروج الاحتلال من جنوب لبنان، لن يزيدهم هذا الانسحاب إلا تصميمًا على استخدام مزيد من القوة “لانتزاع الضفة الغربية، فالقدس فحيفا فتل أبيب، فـ”إسرائيل” كلها”.
بعد 18 عامًا من الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، وفي ذكرى الانسحاب في سبتمبر/ أيلول 2023، احتفل الفلسطينيون في قطاع غزة بـ “يوم المقاومة”، ونظّمت المقاومة الفلسطينية وكتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، مناورة أسمتها “الركن الشديد”، والتي كانت تدريبًا عمليًّا لما سيجري بعد شهر من المناورة، لعملية انسحاب إسرائيلي آخر مؤقت، ومن كل الجبهات.
في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أطلقت كتائب القسام عملية “طوفان الأقصى”، بدأتها في جبهة الاحتلال الجنوبية في مستوطنات غلاف غزة، وأكدت أكثر من مرة أنها ستكون حربًا من كل الجبهات، قبل أن تشتعل الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان، بعمليات اشتباك وتسلل وإطلاق صواريخ، وبين الجبهتَين الجنوبية والشمالية وجد الاحتلال نفسه أمام أكثر من نصف مليون مستوطن كما أعلن جيش الاحتلال، فرّوا من مكان سكنهم بحثًا عن أمان في أراضٍ محتلة، كما أعلن عن خطة “هبوب الريح” لإخلاء المستوطنات الحدودية.
أكبر مستوطنات الغلاف.. سديروت فارغة
في اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، اقتحم مقاومو كتائب القسام 22 مستوطنة وكيبوتسًا من مستوطنات غلاف غزة، واشتبكوا مع القوة العسكرية لشرطة الاحتلال وجيشه، وأفقدت الغلاف حصنه المنيع فأخرجت فرقة غزة في جيش الاحتلال عن الخدمة، وعرضت لمستوطني الغلاف المعنى الحقيقي لعدم الأمان في الأراضي المحتلة.
بعد نحو أسبوعَين من معركة “طوفان الأقصى”، أكد إخلاء جميع سكان مستوطنات غلاف غزة، والبالغ عددهم نحو 70 ألف مستوطن موزعين في أكثر من 50 مستوطنة وكيبوتسًا زراعيًّا صغيرًا على امتداد الغلاف، ومن ضمن هذه المستوطنات مستوطنة مدينة سديروت، أكبر مستوطنات الغلاف بثقل سكاني يصل أكثر من 35 ألف مستوطن.
وبدأت مغادرة مستوطني سديروت في مطلع عملية “طوفان الأقصى” واستمرت حتى إعلان الإخلاء الرسمي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتكلف عملية الإخلاء خزينة الاحتلال في الأسبوع الواحد فقط قرابة 20 مليون دولار، كما أن وزارة مالية الاحتلال بدأت بالفعل في تمويل مساكن بديلة لآلاف من المستوطنين الفارّين من المستوطنات.
مستوطنة سديروت التي تبعد نحو 30 كيلومترًا إلى الشمال من قطاع غزة، تعتبَر من أكبر التجمعات الاستيطانية في المنطقة التي يطلق عليها الاحتلال “غلاف غزة”، وهي المستوطنات التي أقامها مكان البلدات والقرى التي كانت تتبع لقضاء غزة وبئر السبع قبل النكبة، ومثّل تهجيرها ضربة على المستوى النفسي والميداني، كما يؤكد قادة سابقون في المنظومة الأمنية في دولة الاحتلال.
وحول عملية الإخلاء، قال رئيس جهاز الموساد السابق، إفرايم هيلفي، إن إخلاء سديروت بالكامل “سابقة خطيرة في تاريخ “إسرائيل”، حسب وصفه، ووجّه نقدًا شديدًا لحكومة الاحتلال قائلًا: “كان علينا أن نفكر 1000 مرة ومرة قبل ارتكابه”.
شهدت هذه المستوطنة ثقل اليوم الأسود كما وصفه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وظهرت من هذه الأرض المحتلة أولى صور اقتحام مقاومي القسام، كما لم تهدأ صواريخ القسام بالنزول على منازل المستوطنين، والصور التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية للمستوطنة أظهرت حجم الدمار الذي لحق بها، بفعل عمليات المقاومة العسكرية، خاصة مركز شرطة الاحتلال فيها الذي نجحت مجموعات النخبة في السيطرة عليه وقتل عدد من عناصر شرطة الاحتلال فيه.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرنوت” عن أحد مستوطني البلدة، قوله إنه قرر ترك البلدة بعد تحولها إلى بالغة الخطورة مع استمرار سقوط الصواريخ عليها، وذكر أنه يعيش في البلدة منذ 66 عامًا ولم يتركها في أي من الجولات السابقة، إلا أنه قرر هذه المرة الرحيل في ضوء اقتحامها والخشية من الأيام القادمة.
مستوطنات شمال فلسطين المحتلة
بالتوازي مع إخلاء مستوطني غلاف غزة، بدأ الاحتلال يشعر بثقل الضربة حين توترت الأمور على جبهته الشمالية، هذه الجبهة التي كانت منذ حرب تموز 2006 تحافظ على هدوء نسبي، بدأت تشتعل فيها الأحداث من اشتباكات وإطلاق صواريخ كورنيت وعمليات تسلل من جنوب لبنان، وتبادلت في تبنّي العمليات كل من كتائب القسام في لبنان، وسرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، و”حزب الله”، وقوات الفجر الذراع العسكرية للجماعة الإسلامية – الإخوان المسلمون في لبنان.
على إثر ذلك، أعلن الاحتلال إخلاء أكثر من 43 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلة، في ظل التصعيد المتواصل والتخوفات من حرب إقليمية قد تكون الجبهة الشمالية إحدى عناوينها الرئيسية، خاصة بعد أن أسفر هذا التصعيد عن مقتل مستوطن وعدد من جنود الاحتلال وإصابة آخرين حتى اللحظة.
وجاءت عملية الإعلان عن الإخلاء بعدة مراحل، ابتدأها الاحتلال بإعلان بدء إخلاء 28 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلة، والتي تبعد مسافة تصل إلى 1.9 كيلومتر عن الحدود، إحدى هذه المستوطنات -وهي شتولا- تعرضت لهجوم صاروخي من “حزب الله”، ما أدى إلى مقتل مستوطن بحسب وسائل إعلام عبرية.
لاحقًا لذلك، شهدت مستوطنة كريات شمونة، القريبة من الحدود اللبنانية، والتي يبلغ عدد سكانها 28 ألف مستوطن، قصفًا صاروخيًّا من جنوب لبنان، ما دفع الاحتلال إلى ضمّها هي الأخرى إلى خطة الإخلاء، وأرسل حافلاته وجنوده ليبدأ بإجلاء مستوطني الاحتلال.
وما زال التصعيد والاشتباكات وتبادل القصف يشتدّ كل يوم في الحرب أكثر من سابقه، حتى أعلن الاحتلال من جديد إضافة سكان 14 مستوطنة تقع بالقرب من الحدود مع لبنان إلى خطة إجلاء مستوطنات الشمال، وقد امتدت هذه المرة إلى مستوطنات تقع على بُعد 2 كيلومتر فأكثر من الحدود مع لبنان، وبحسب وسائل إعلان عبرية، إن عددًا كبيرًا من مستوطني الشمال غادروا مناطقهم بمبادرة منهم.
عسقلان.. حيث التهجير بالتهجير أصبح حقيقة
على عكس المستوطنات الحدودية في غلاف غزة أو في شمال فلسطين المحتلة، شهدت مدينة عسقلان المحتلة هي الأخرى قصفًا صاروخيًّا مكثفًا من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والتي تبعد عنها نحو 21 كيلومترًا، وبمساحة 45 ألف دونم، وهي ثالث أكبر مدن جنوب فلسطين المحتلة، وفيها ميناء دولي ويمرّ منها خط أنابيب الغاز للتصدير.
تصدرت مدينة عسقلان المشهد في “طوفان الأقصى” يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في أعقاب استهداف الاحتلال لأبراج سكنية في قطاع غزة على رؤوس المدنيين، ودفع الاحتلال سكان غزة إلى الرحيل من شمال القطاع إلى جنوبه، وإثر ذلك خرج الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة، ليمهل سكان عسقلان ساعتَين ليغادروها قبل أن يتم القصف، وأعلن شعار “التهجير بالتهجير”.
لم تصمد المدينة المحتلة أمام قصف المقاومة أكثر من 9 أيام، قصفتها خلالها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة 26 مرة حتى 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث أعلن الاحتلال تمويل إخلاء مدينة عسقلان، والبالغ عدد سكانها 156 ألف مستوطن، وأن المدينة انضمت إلى خطة “هبوب الريح”، وعرض على من يرغب الرحيل من المدينة الاستضافة في الفنادق أو لدى أقاربه في الوسط أو الشمال.
في وسط حالة الهروب من المستوطنات والخروج منها طوعًا أو خوفًا من صواريخ المقاومة، أعلنت بلدية إيلات المحتلة في جنوب فلسطين على البحر الأحمر والحدود المصرية، على أنها قدمت مخططًا لحكومة الاحتلال الإسرائيلي من أجل إقامة مدينة خيام على المدخل الشمالي للمدينة، وفق ما ذكرته صحيفة “معاريف” العبرية.
وأضافت الصحيفة العبرية بتاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أن الخطة تأتي لاستيعاب الأعداد المتزايدة من مستوطني غلاف غزة الذين هجروا الغلاف بعد اندلاع الحرب، وذكرت الصحيفة أن مدينة إيلات استوعبت 50 ألف مستوطن من الغلاف منذ بدء الحرب، ولم يعد هناك متّسع لاستقبال المزيد، حيث جرى تقديم مخطط لإقامة مدينة خيام على مساحة 150 دونمًا لتستوعب المزيد من مستوطني الغلاف.
ويأتي ذلك في ظل الأزمة الخانقة التي تعيشها الفنادق في الداخل المحتل، مع الطلب من سكان مستوطنات خط المواجهة مع لبنان لإخلائها، إضافة إلى إخلاء مستوطنات غلاف غزة ومدينة عسقلان.