استعاد الاحتلال الإسرائيلي أسلوبه المعتاد لمواجهة صمود الفلسطينيين، للرد على عملية “طوفان الأقصى”، إذ يقصف بشكل همجي ومكثف أحياء وبيوت المدنيين ومستشفياتهم ومساجدهم ومراكز إيوائهم ويعمد إلى تهجيرهم من منازلهم في مختلف مدن قطاع غزة.
ودشّن الاحتلال الإسرائيلي عملية “السيوف الحديدية” لمواجهة طوفان المقاومة الفلسطينية، الذي وجّه صفعة استخباراتية وأمنية غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو حتى في تاريخ المواجهات بين الاحتلال ومختلف الدول العربية منذ عام 1948.
لكن وبالعودة إلى الوراء قليلًا، فإن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، تمنّى أن يبتلع البحر الأبيض المتوسط غزة بأهلها مطلع تسعينيات القرن الماضي، في إشارة إلى الدور المقاوم والفاعل الذي يلعبه القطاع الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلومترًا مربعًا.
الحديث عن تهجير أهل غزة وإعادة توطينهم ليس وليد الساعة، إذ كثر الحديث من جانب الاحتلال الإسرائيلي حولها بعدة سيناريوهات وصيغ، سواء بشكل دائم أو مؤقت، حيث يعود تاريخ طرح الفكرة مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، مرورًا بسلفه محمد حسني مبارك وحتى الآن، ودائمًا ما كانت تقابَل برفض مصري فلسطيني.
وخلال العدوان الإسرائيلي الحالي على القطاع، أعاد الاحتلال طرح هذه الفكرة من خلال الطلب من سكان الشمال ومدينة غزة في القطاع الانسحاب نحو مناطق جنوب وادي غزة، وهي المناطق الوسطى وجنوب قطاع غزة، تحت ادّعاء ومزاعم التقليل من الخسائر البشرية.
غير أن الكذب الإسرائيلي يتضح من خلال المجزرة التي ارتكبها في صفوف النازحين خلال اليوم الأول للانتقال نحو المناطق الوسطى والجنوبية للقطاع، بعد أن استهدف حافلة نازحين فلسطينيين أدّت إلى ارتقاء 70 فلسطينيًّا وإصابة أكثر من 200 آخرين بجراح متفاوتة.
مؤخرًا، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الجاري على قطاع غزة، نزح بحسب الأمم المتحدة نحو مليون أو يزيد من عدة مناطق، لا سيما في المناطق الشمالية للقطاع، وذلك جرّاء القصف الانتقامي الذي تنتهجه قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد عملية “طوفان الأقصى”.
وقد غادرت بالفعل آلاف العائلات منازلها تجنُّبًا للقذائف والصواريخ التي تنهال على المدن والبلدات الفلسطينية، بما يشبه عملية تفريغ منهجية للسكان، وحشرهم في بقعة جغرافية أضيق داخل غزة نحو الجنوب، فضلًا عن النزوح نحو المدارس الفلسطينية.
مخطط “الترنسفير” القديم الجديد
يعتقد العديد من السياسيين الإسرائييلين، وتحديدًا الجناح اليميني المتطرف، أن هذا الأداء سيجبر الفلسطينيين على الرحيل بمنطق القوة لإنجاز مشروع “الترنسفير” (الترحيل) القديم الجديد، وذلك بتخييرهم بين الموت أو اللجوء، حيث لجأت الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو لاستراتيجية مخالفة لجميع الحكومات السابقة، تقوم على “حسم الصراع” بدلًا من إدارته.
وخلال عهد الحكومة الحالية، برز سيناريو تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية نحو الأردن وسكان القطاع نحو سيناء، بما يعني إنهاء أي حضور فلسطيني على التراب الفلسطيني، وهو ما أثار رفضًا شعبيًّا ورسميًّا على المستوى الفلسطيني منذ اللحظة الأولى.
ويوجّه مشروع “الترنسفير” وتهجير أهل غزة الأعين نحو سيناء، التي تعدّ المنفذ البري الوحيد للفلسطينيين على العالم الخارجي، باعتباره المكان الذي يمكن أن يلجأوا إليه لتجنُّب قصف الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن عدة تصريحات صدرت من مسؤولين إسرائيليين أبرزها تصريحات أحد المتحدثين العسكريين باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، عندما نصح الفلسطينيين بالتوجه إلى مصر، قبل أن يعدل عنها لاحقًا.
وفي هذا الصدد، يُنقل عن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات رفضه هذه الطروحات، وسار على نهجه الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، الذي شهد عهده مفاوضات مضنية لاستعادة الأراضي المصرية بعد اتفاق كامب ديفيد، وقد أُعيد تسويق الفكرة أخيرًا، لا سيما في إطار خطة “صفقة القرن” التي جاء بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي كانت تنصّ على توطين اللاجئين الفلسطينيين في دول اللجوء مقابل حوافز اقتصادية ومادية كبيرة.
تاريخ المشروع.. متى بدأت الحكاية؟
يشير تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه عقب خضوع قطاع غزة لحكم “إسرائيل” عام 1967، شجّع مسؤولون إسرائيليون على هجرة الفلسطينيين، من خلال إجبار المسافرين من غزة على ترك بطاقات الهوية الصادرة عن الحكم العسكري آنذاك، والتوقيع على وثائق تنصّ على أنهم يغادرون بمحض إرادتهم، وأن عودتهم ستكون مشروطة بالحصول على تصريح من الحاكم العسكري.
جراء هذه السياسة التي امتدت من العام 1967 حتى العام 1994، وهو تاريخ إنشاء السلطة الفلسطينية، ألغت “إسرائيل” الاعتراف بإقامة نحو 140 ألف فلسطيني، منهم 42 ألفًا من قطاع غزة، تحت ذريعة مخالفة وتجاوز فترة الإقامة المسموح بها في الخارج، ولا يزال جزء منهم عالقًا في الخارج دون أن يستطيع إثبات هويته.
مشاريع التهجير
لا يزال كثير من الفلسطينيين في الخارج بلا وثائق تثبت هوياتهم، وترفض “إسرائيل” أن تمنحهم الحق في لمّ الشمل الذي أوقفته منذ العام 2000، فيما قدمت مؤسسات إسرائيلية مختلفة مشاريع لتهجير الفلسطينيين من غزة ودفعهم نحو الخارج، منها:
خطة وزارة الخارجية والكونغرس عام 1968
طرحت وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 1968 مشروعًا يقوم على مبدأ شروع سلطات الاحتلال في تعزيز انتقال الفلسطينيين من غزة للانتقال والعيش في الضفة الغربية، ومنها لاحقًا إلى الأردن ثم مناطق أخرى في العالم العربي، دون أن يظهر الأمر موجَّهًا ومدبَّرًا من “إسرائيل”، بل بصورة عفوية تلقائية، لكن المشروع لم يجد نجاحًا يُذكر في ضوء عدم تشجُّع فلسطينيي القطاع للذهاب إلى الضفة الغربية التي خضعت، كما القطاع، للاحتلال الإسرائيلي للتوّ.
في العام ذاته، ناقشت لجنة في الكونغرس الأمريكي خطة لتهجير طوعي تتضمن نقل 200 ألف فلسطيني من غزة للانتقال والعيش في دول، بينها ألمانيا الغربية والأرجنتين وباراغواي ونيوزيلندا والبرازيل وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الخطة لم تنجح بسبب رفض كثير من الدول القبول باستضافة الفلسطينيين على أراضيهم.
مشروع العريش عام 1970
عام 1970، سعى قائد المنطقة الجنوبية بجيش الاحتلال أرئيل شارون، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء، لتفريغ قطاع غزة من سكانه، إذ نقل المئات من عائلات غزة في حافلات تابعة للجيش وألقى بهم خلف قناة السويس من جهة سيناء التي كانت تحتلها “إسرائيل” في ذلك الوقت، وجزء آخر تمّ توجيهه نحو العريش على حدود غزة.
وكانت خطة العريش تتضمن منح من يريد المغادرة من غزة إلى مصر للدراسة والإقامة والعمل الإذن مع حوافز مالية، لمحاولة خلق واقع سكاني جديد في غزة بهدف تصفية المقاومة، وتفريغ ازدحام السكان الذين كان عددهم آنذاك 400 ألف مواطن.
مشروع غيورا آيلاند عام 2000
قدّم اللواء في الاحتياط الذي ترأس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، غيورا آيلاند، مشروعًا أطلق عليه “البدائل الإقليمية لفكرة دولتَين لشعبَين”، ونشرت أوراقه في مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية.
وينطلق المشروع من افتراض أن حلَّ القضية الفلسطينية ليس مسؤولية “إسرائيل” وحدها، لكنه مسؤولية تقع على عاتق 22 دولة عربية، وبموجبه ستقدم مصر تنازلًا عن 720 كيلومترًا مربعًا من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة، وهذه الأراضي عبارة عن مستطيل ضلعه الأول 24 كيلومترًا، يمتد بطول الساحل من مدينة رفح غربًا وحتى حدود مدينة العريش في سيناء، والضلع الثاني طوله 30 كيلومترًا من غرب معبر كرم أبو سالم ويمتدّ جنوبًا بموازاة الحدود المصرية الإسرائيلية.
وتعادل المنطقة المقترحة ضعفَي مساحة قطاع غزة البالغة 360 كيلومترًا مربعًا، وهي توازي 12% من مساحة الضفة الغربية، وفي مقابل ذلك سيتنازل الفلسطينيون عن المساحة ذاتها المقترحة للدولة الفلسطينية في سيناء من مساحة الضفة الغربية، وضمّها إلى السيادة الإسرائيلية.
أما مصر فستتحصّل على تبادل للأراضي مع الاحتلال من جنوب غربي النقب (منطقة وادي فيران) بالمساحة ذاتها، مع منحها امتيازات اقتصادية وأمنية ودعمًا دوليًّا، وظل اقتراح آيلاند حبيس المشاورات الإسرائيلية الأمريكية، ورغم التركيز الإسرائيلي على هذا المشروع لكن توقيت صدوره شكّل سببًا في فشله، لأنه جاء عقب تعثُّر مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك، واندلاع انتفاضة الأقصى، وإغلاق صفحة المفاوضات الثنائية لسنوات طويلة.
مشروع يوشع بن آريه عام 2004
قدّم الرئيس السابق للجامعة العبرية، يوشع بن آريه، مشروعًا تفصيليًّا لإقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء، ينطلق من مبدأ تبادل الأراضي الثلاثي بين مصر و”إسرائيل” وفلسطين، والذي عُرف سابقًا بمشروع غيورا آيلاند.
وتنطلق الفكرة من تسليم أراضٍ لدولة فلسطين من منطقة سيناء، وهي منطقة العريش الساحلية، مع بناء ميناء بحري عميق المياه، وقطار دولي بعيد عن “إسرائيل”، ومدينة كبيرة وبنى تحتية، ومحطة للطاقة الكهربائية ومشروع لتحلية المياه.
أما مصر فستحصل على أراضٍ من صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة بالمساحة ذاتها التي ستمنح من سيناء للفلسطينيين بحدود 700 كيلومتر مربع، مع ضمانات أمنية وسياسية إسرائيلية بأنّ لا بناء استيطانيًّا في المنطقة الحدودية مع مصر، مع السماح لمصر بإنشاء طريق سريع وسكك حديدية وأنابيب لنقل النفط والغاز الطبيعي.
ورغم أن هذا المشروع اقتبس كثيرًا من أفكار مشروع آيلاند، إلا أن تزامن إعلانه مع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وفوز حماس في الانتخابات التشريعية ثم سيطرتها على غزة، وبدء الحصار الإسرائيلي لها، وضع العديد من العصي في دواليب نجاح المشروع.
مشروع “صفقة القرن” عام 2018
آخر مشاريع التصفية بالنسبة إلى قطاع غزة هو مشروع “صفقة القرن” الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020، تحت عنوان “السلام على طريق الازدهار”، ولم يختلف مشروع “صفقة القرن” عن سابقه من مشاريع التصفية التي طُرحت سابقًا، إذ تضمّنت المحاور ذاتها، وأهمها أن تتنازل مصر عن أراضٍ في سيناء لغرض إقامة مطار ومصانع ومراكز للتبادل التجاري، ومشاريع زراعية وصناعية تساهم بتشغيل مئات آلاف العاملين، وتقام الدولة الفلسطينية في هذه المنطقة بشرط أن تكون منزوعة السلاح.