تعيش تونس هذه الأيام على وقع الاستعداد لأولى الاستحقاقات الانتخابية المحلية، وهو ما أوجد حركية سياسية داخل جل التشكيلات الحزبية، وظهرت نوايا بعض الأحزاب إلى الدخول في تحالفات واصطفافات وتشكيل كيانات موسعة تساعد الأطراف المشكلة لها بعضها البعض في هذا الموعد الانتخابي الحاسم لاستكمال مسار الانتقال الديمقراطي.
الانتخابات المحلية في تونس تقوم على انتخاب أعضاء المجالس البلدية في 350 منطقة بلدية و24 مجلسًا جهويًا موزعًا على مختلف الولايات
هذه الانتخابات المحلية تقوم على انتخاب أعضاء المجالس البلدية في 350 منطقة بلدية و24 مجلسًا جهويًا موزعًا على مختلف الولايات، وتتنافس الأحزاب على ما يقارب 7224 مقعدًا، فيما خصصت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس موازنة للانتخابات تقدر بـ68 مليون دينار.
ومنذ أيام، قدم السيد شفيق صرصار رئيس الهيئة جدول مواعيد تنظيم الانتخابات البلدية القادمة، مؤكدًا أن إمكانية تنظيمها في العام الحالي لا تزال قائمة بعد مصادقة مجلس نواب الشعب التونسي على مشروع قانون الانتخابات المحلية والاستفتاء، والشروع قريبًا في التداول في مشروع مجلة الجماعات المحلية التي تعتبر الركيزة الأساسية والأهم لإجراء الانتخابات المحلية، لأنها القانون الوحيد المحدد لماهية الجماعات المحلية واختصاصاتها وصلاحيتها وتكوين مجالسها وتحديد مواردها وكيفية مراقبتها والآليات المتاحة لها ولفض نزاعاتها.
ورغم انطلاق الفاعلين المدنيين والهيئات المستقلة والقضاء المالي والإداري في إجراء الترتيبات الضرورية لهذا الموعد التاريخي كأول استحقاق محلي حقيقي في تاريخ تونس، لا تبدو المؤشرات مبشرة في خصوص مشاركة الناخيبن بكثافة، فقد أجمعت جل استطلاعات الرأي عزوف الناخب التونسي عن المشاركة.
استطلاع رأي: أعرب 54% من المستجوبين أنهم لن يشاركوا في الانتخابات البلدية القادمة ولن يدلوا بأصواتهم
ففي قراءة سريعة لاستطلاع رأي أنجزته مؤسسة “أمرود كونسلتينغ” بالتعاون مع “دار الصباح” خلال الفترة الممتدة بين 27 من فبراير و3 من مارس الماضيين، أعرب 54% من المستجوبين أنهم لن يشاركوا في الانتخابات البلدية القادمة ولن يدلوا بأصواتهم، فيما عبر 28% عن نيتهم في التصويت، وما زال 18% من المستجوبين لم يقرروا بشأن مشاركتهم في هذه الانتخابات.
ويرى أكثر المحللين للشأن السياسي أن قرار عدم المشاركة في الانتخابات البلدية يعكس حالة من العزوف عن كل الاستحقاقات الانتخابية القادمة، حيث ترجع أسباب ذلك إلى خيبة أمل يشعر بها أبناء الشعب تجاه السياسيين، نظرًا إلى عدم الإيفاء بالوعود التي تم إطلاقها خلال الحملات الانتخابية، بالإضافة إلى تأثيرات ظاهرة الاغتراب السياسي للشباب أو عزوفهم عن المشاركة الحزبية والسياسية.
فئة الشباب بين 18 و40 سنة الأبرز بنسبة 60% من كتلة الناخبين التونسيين
وتعتبر فئة الشباب بين 18 و40 سنة الأبرز بنسبة 60% من كتلة الناخبين التونسيين، وبيّن سبر للآراء أجرته منظمة “أنا يقظ” السنة الماضية أن 69% من الشباب أعربوا عن عدم ثقتهم في الأحزاب السياسية، فيما أعرب 55% من الشباب عن عدم ثقتهم في مؤسسة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، كما أعرب أكثر من 60% من الشباب عن عدم نيتهم المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة.
هذه المعطيات ليست بالغريبة إذا حللنا الأرقام الواردة في دراسة أجراها المرصد الوطني للشباب بالتعاون مع منتدى الحقوق الاجتماعية والاقتصاية أن نسب الانخراط الحزبي لم تتجاوز 2.7%، في حين أن نسبة حضور الشباب من الجنسين الاجتماعات الحزبية والانتخابية تقارب 22.3% وهو ما يترجمه ارتفاع نسبة الشباب (إلى حدود 65.1%) الذين يعتقدون أن الثورة لم تحقق أهدافها ولم تفتح مجالاً للشباب في مستويات المشاركة في القرار الحزبي.
وعمومًا يمكن القول إن المعطيات الحالية تحيلنا إلى إشكاليتين أساسيتين وهما: تدني مستوى الثقة في القيادات الحزبية والعمل الحزبي المباشر، إلى جانب تواصل السياسات الرسمية في تغييب الشباب عن مستويات القيادة الفعلية.
إننا نقف اليوم أمام مفارقة عجيبة في أن جل الأحزاب تنادي بملء فمها عن رغبتها في ضم الشباب إلى صفوفها في حين لا تقدم لهم – معظمها – خطابًا فكريًا مؤثرًا ولا تخصص لهم أي منصب داخل المكاتب التنفيذية وسلطة القرار المتفرعة عنه، مما يوحي أن الأحزاب تريد الشباب فقط من أجل رفع عدد المنخرطين ليس إلا.
بل يجب التذكير أن أغلب مؤسساتنا الحزبية وللأسف لا تؤدي وظيفتها المخولة لها من طرف الدستور وقانون الأحزاب المتمثلة في تأطير المواطنين وتربيتهم على الثقافية السياسية وقيم المواطنة، والمثير للعجب أن هذه الأحزاب غير موجودة أصلاً في القرى والأرياف وحتى المدن الداخلية، ولا يعرفها المواطن إلا من خلال الانتخابات مما يزيد من تعقيد مسألة التواصل.
عزوف المواطنين عامة، والشباب بشكل خاص، عن المشاركة في العمل السياسي، يعني رفضهم أن يكونوا مجرد أصوات توظف في الانتخابات أو من أجل تحقيق مصالح ليس مضمونًا أن تكون من صميم مصالحهم أو مصالح مجتمعهم
لذلك فإن عزوف المواطنين عامة، والشباب بشكل خاص، عن المشاركة في العمل السياسي، وفي الانخراط بالأحزاب السياسية، لا يعني فقط رفضهم للنهج الذي تتخذه هذه الأحزاب للاستقطاب والتأطير، ولكنه أيضًا يعني رفضهم أن يكونوا مجرد أصوات توظف في الانتخابات أو من أجل تحقيق مصالح ليس مضمونًا أن تكون من صميم مصالحهم أو مصالح مجتمعهم، بل قد تكون مصالح أخرى يُوظفون لتحقيقها.
بل قد تكون هذه المصالح ضد الأفكار التي يحملونها عن الديمقراطية والحوكمة والشفافية، وعن المشاركة في تدبير الشأن العام وترسيخ الديمقراطية المحلية التشاركية التي تتطلب أكثر من كلمات تُدون في الدستور، أو أحكام واردة في قانون، وإنما تحتاج بنية تحتية داعمة: الحرية والشفافية (خاصة لمكافحة الفساد)، وفضاءات آمنة وتمويل شفاف للحملات الانتخابية وإعلام مواطني مستقل، وكفاءات مسيرة وحركات اجتماعية قوية، وموارد اقتصادية ومالية ومنظمات مجتمع مدني فاعلة تتيح للناس الاتصال ببعضهم البعض وإسماع صوتهم ويكون الشباب الدعامة الأساسية لها.
رغم قتامة الوضع بالنسبة لي كشاب إلا أنه من الإنصاف أن نبتهج لبصيص الأمل الذي بدأ يلوح في الأفق في سياسات بعض الأحزاب تجاه الشباب كحزب آفاق تونس والحزب الجمهوري أو حركة النهضة.
ويتجلى هذا من خلال متابعتي للمؤتمر الأخير للحزب الجمهوري الذي سعى مناضلوه إلى ضخ دماء جديدة تقدم رؤاه بأدوات ولغة ووجوه شابة، حيث بلغت نسبة التأنيث والتشبيب في كل من المكتب السياسي والمكتب التنفيذي واللجنة المركزية بين 65 و70% ولديهم اليوم 5 نساء في المكتب التنفيذي و20 امرأةً في المكتب السياسي وقرابة 42 امرأةً في اللجنة المركزية نصفهم من الشابات.
كما انخرطت حركة النهضة في هذا التوجه من خلال عملية تجديد الهياكل المحلية والجهوية، التي أفاد بعض قيادتها أنها تأتي في إطار استكمال مسار تجديد الهياكل القيادية في الحركة بعد المؤتمر العاشر، تعزيزًا للديمقراطية الداخلية والتداول على المسؤوليات وفتح المجال لمشاركة أوسع للشباب والمرأة.
تلازمني قناعة راسخة منذ سنوات ما بعد الثورة أننا سنتوصل داخل المشهد التونسي – وإن طالت الفترة الزمنية لذلك – إلى تشكلٍ تدريجي لنموذج عربي في الديمقراطية يُؤسَس على الفاعلية المواطنية
وفتح حزب آفاق تونس مجالاً أوسع لقياداتها الشبابة سوى من خلال ترشيحهم لمسؤوليات حكومية أو وجودهم في مكتبه السياسي وسلطة القرار المركزي في الحزب بنسب محترمة.
تلازمني قناعة راسخة منذ سنوات ما بعد الثورة أننا سنتوصل داخل المشهد التونسي – وإن طالت الفترة الزمنية لذلك – إلى تشكلٍ تدريجي لنموذج عربي في الديمقراطية يُؤسَس على الفاعلية المواطنية والتعددية الحزبية والتداول السلمي على السلطة.
ومن المهم في هذا الإطار تشريك الشباب في التغيير والقيادة وصُنع القرار، وكثيرًا ما كتبت عن التغييب القصري للشباب عن المشاركة في النقاش العمومي وفي اتخاذ ورسم السياسات ولكن لي أن أفاخر اليوم بأصدقائي الذين منهم من يتبوأ مناصب حزبية قيادية مهمة مثل رفيقة دراستي وصديقتي نضال زيتون عضو المكتب التنفيذي للحزب الجمهوري أو صديقي عصام القنطاسي القيادي بحزب النهضة عن جهة سليانة وغيرهم من الذين بدأوا يتحسسون الطريق نحو مشاركة فاعلة في الحياة السياسية والحزبية.
لأنهم النواة القادرة على تجسيم فصول الباب السابع من الدستور من خلال مشاركتهم في تركيز الديمقراطية المحلية ذات البرامج الاجتماعية والتنموية والثقافية والتربوية المشركة للمواطن ولقوى المجتمع المدني في تسيير البلاد في مختلف الجهات، اعتمادًا على التشاركية المحلية وسياسة القرب المنطلقة من الأطراف إلى المركز خيارًا سياسيًا اجتماعيًا واستراتيجيًا.