يطلق الأمريكيون على الممثلة الفرنسية الشهيرة إيزابيل هابرت لقب ميريل ستريب فرنسا، والحقيقة أن الممثلتين تتشاركان العديد من الصفات، أهمها القيام بعدد لا يحصى لأدوار أنثوية تنتصر للمرأة، وتعطيها قوة الفعل، وإرادة التحكم، وحرية الاختيار.
هابرت التي أدت عشرات الأدوار في أفلام فرنسية وأمريكية أيضًا، رشحت هذا الموسم لجائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها المثير للجدل في الفيلم الفرنسي Elle “هي” – اقتنصت الجائزة في النهاية الممثلة إيما ستون عن دورها في فيلم لا لا لاند -، وربما تتذكر دورها في الفيلم الفرنسي الاستثنائي “حب” Amour (2012)، التي لعبت فيه دور إيف ابنة العجوزين اللذين يعيشان قصة حب لها العجب.
فيلم Elle يحكي قصة السيدة ميشيل ليبلانك، امرأة في أواسط الخمسينيات، تعمل بمنصب مرموق في إحدى شركات برمجيات الألعاب التفاعلية ثلاثية الأبعاد
فيلم Elle يحكي قصة السيدة ميشيل ليبلانك، امرأة في أواسط الخمسينيات، تعمل بمنصب مرموق في إحدى شركات برمجيات الألعاب التفاعلية ثلاثية الأبعاد، وعلى الرغم من كونها مطلقة ولديها ابن يافع، إلا أن ميشيل تحتفظ بجمالها ولياقتها على أفضل حال، تعيش بمفردها مع قطتها، وتمضي وقتها بين التركيز في عملها ومحاولة فهم جيل المبرمجين الشباب الجديد، وكسر الهوة بين طريقة تفكيرها الكلاسيكية والرومانسية وطريقة تفكيرهم العصرية السريعة والعنيفة والعبثية، وإسداء النصح لابنها الذي يواجه متاعب مادية ومتاعب في الاستقرار في عمل مناسب، خصوصًا أنه على وشك الزواج من فتاة يهيم بها عشقًا، أو تلقي النصح من أمها الأرملة الغنية المتصابية اللعوب، والاجتماع مع أصدقائها وإمضاء الوقت في النقاش عن كل القضايا السياسية والاجتماعية والفلسفية على مائدة العشاء في مطاعم باريس الأنيقة.
وأخيرًا تمضي بعض وقتها في مغامرات عاطفية وجنسية قصيرة يشاركها فيها زوجها السابق أحيانًا، وزوج صديقتها المقربة أحيانًا أخرى.
يبدأ الفيلم بسلسلة من المشاهد تعكس – ما يبدو – حدثًا مروعًا يمر بميشيل، يقتحم منزلها الفخم الواقع في ضاحية راقية بباريس شخص ملثم متشح بالسواد من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه، تقاومه ميشيل إلا أنه يطرحها أرضًا ويقوم باغتصابها في مشهد عنيف، قبل أن يفر هاربًا.
يمضي الرجل الغامض، ثم تنهض ميشيل وتسوي ثيابها وتعيد ترتيب قطع الأثاث التي وقعت على الأرض في أثناء مقاومتها، وكذلك تقوم بكنس قطع الخزف المتناثرة الناجمة عن تهشم مزهرية كبيرة، تمضي إلى الحمام في رتابة وكأنها على وشك الاستمتاع بحمام دافئ ممتع، وتمسح عن نفسها الدماء، ثم تعود إلى الفراش لتنام وكأن شيئًا لم يحدث.
لم تنهر ميشيل، ولم تصرخ، ولم تهاتف ابنها، ولم تطلب الشرطة، ولم تتحدث عن الأمر إلا بعد أيام في أثناء لقائها مع أصدقائها على العشاء، بمنتهى الهدوء والبرود وكأنها تتحدث عن أمر اعتيادي، وكأنها تناقش سعر سلعة مع بائع في السوق مثلاً.
قد يعتقد المشاهد أن ميشيل وقعت تحت تأثير صدمة كبرى ناتجة عن الحادث، وأنها لا تدرك بعد أبعاد ما تعرضت إليه، لكن الأحداث التالية توضح تمامًا أن ميشيل في قمة صفائها الذهني وإدراكها للواقع.
تعود ميشيل لممارسة عملها في شركة برمجيات الألعاب، حيث تنشغل مع الفريق في التخطيط لمشروع لعبة كبرى هم على وشك الانتهاء من خطوطها الرئيسية وحبكتها وشخصياتها، واللعبة تدور حول وحوش مرعبة وأميرات رقيقات، وتقوم الوحوش بمهاجمة الأميرات.
تقترح ميشيل إضافة لمسة من الأيروتيكا للحبكة، بحيث تحتوي اللعبة مشاهد جنسية من الوحوش والنساء، ولم يمض وقت طويل حتى تتفاجأ ميشيل بأن شخصًا ما قام بإرسال فيديو إلى جميع العاملين بالشركة، يحتوى الفيديو مشهدًا لوحش يغتصب إحدى الأميرات بعنف، وعلى وجه الشخصية المجسمة للأميرة الافتراضية، تم لصق صورة لوجه ميشيل نفسها!
مخرج Elle، الهولندي بول فيرهويفن، أخرج من قبل واحد من أشهر الأفلام التي تتناول الطبيعة المعقدة والتآمرية للمرأة، مع التركيز حول انتشائها بالتلاعب بمن حولها، ونصب مصائد محكمة لضحاياها، وشعورها باللذة وهي تقود الضحية عبر مسار مسبق رسمته له بدقة
هنا تدب الروح في ميشيل مرة أخرى، وتبدأ رحلة للبحث عن هذا الشخص المنحرف، تشك في أكثر من شاب يعملون تحت إمرتها، خصوصًا أنهم يعارضونها في الكثير من قراراتها بشكل فج، وربما رغب أحدهم في أذيتها بشكل متعمد وعنيف عبر الهجوم على منزلها والتسبب لها في حالة من الذعر، والتي خرجت عن السيطرة لتنقلب إلى اعتداء جسدي حيواني في شكل اغتصاب.
مخرج Elle، الهولندي بول فيرهويفن، أخرج من قبل واحد من أشهر الأفلام التي تتناول الطبيعة المعقدة والتآمرية للمرأة، مع التركيز حول انتشائها بالتلاعب بمن حولها، ونصب مصائد محكمة لضحاياها، وشعورها باللذة وهي تقود الضحية عبر مسار مسبق رسمته له بدقة، بينما يظن أنه يتحكم في مصيره بإرادته، قبل أن يقع في فخ تنصبه له المرأة التي تصل لنشوة الانتصار، حينها تتحطم الضحية – الرجل – تمامًا، هذه الطبيعة الافتراسية الغريزية تناولها فيرهويفن من قبل في فيلمه Basic Instinct، الأيقونة السينمائية التي لا تنسى من بطولة مايكل دوجلاس وشارون ستون.
تبدأ ميشيل في نصب الفخ بإحكام، وتنجح في اجتذاب ذلك المتسلل المتشح بالسواد مرة أخرى لمنزلها – دون أن تعرف هويته -، بل وتتركه – وسط ذهول المشاهد – يغتصبها مرة أخرى، وتبدو وكأنها تستمتع بما يفعله، لا نعلم بالضبط هل هي تستمتع بالفعل، أم أنها تنصب خطة شيطانية محكمة لتستطيع السيطرة عليه ومحاصرته.
في مقابلة مع أحد البرامج التليفزيونية الأمريكية فسرت الممثلة إيزابيل هابرت نفسها أن شخصية ميشيل قامت بذلك بدافع الحصول على الانتقام، أقصى درجات الانتقام، فمع تطور أحداث الفيلم قد لا يمكنك كمشاهد الجزم بذلك، بل ويخامرك الشعور بأن ميشيل تستمتع بالفعل الجنسي العنيف، وتجتذب المجرم – أم هل هو ضحية – مرة بعد مرة من أجل المتعة التي استهوتها، وكشف هويته أو الانتقام منه قد يجيئ كهدف ثانوي ليس ضروريًا.
مقابلة مع الممثلة إيزابيل هابرت
تمضي أحداث الفيلم المثير، في خيوط متشابكة لكن بسردية محكمة وناعمة عبر سيناريو متقن للكاتب بيرك مأخوذ عن قصة أصلية للكاتب الفرنسي فيليب ديجيان، حيث ينعكس اضطراب المشاعر والخواطر التي يدور في نفس ميشيل، على علاقتها بابنها وأمها وأصدقائها، وصديقتها المقربة – التي تخونها مع زوجها -، وعلى العاملين معها في الشركة من الشباب، مما يعطينا صورة غنية عن الالتباس والتعقيد والتشوه الحاصل في أعماق النفس البشرية بصفة عامة، تجسدت كجديلة عن علاقة الضحية/ الجلاد أو الضحية/ الضحية أو الجلاد/ الجلاد التي تلعبها ميشيل مع ذلك المهاجم الغامض.