بعد أيام قليلة من بدء عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ وأوقعت بموجبها عددًا من الخسائر في الأرواح والممتلكات لم يتعرض لها الكيان منذ عام 1948، لوّحت تل أبيب بتنفيذ عملية عسكرية برية داخل قطاع غزة للمرة الأولى منذ عام 2014.
وفي الرابع عشر من الشهر، أي بعد أسبوع من الطوفان، أعلن جيش الاحتلال عن العملية البرية بشكل رسمي، مؤكدًا على لسان المتحدث باسمه جاهزيته الكاملة لتلك المعركة، ومنوهًا بأن الهدف هو تدمير قدرات حماس بالكامل والقضاء عليها.
وبعد عدة أيام قليلة أعلنت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية نقلًا عن 3 ضباط في جيش الاحتلال إرجاء الاجتياح البري بسبب الظروف الجوية السيئة، لافتة إلى أن العملية كان مقررًا لها منتصف الشهر الحاليّ، لكن السماء الملبدة بالغيوم وصعوبة توفير غطاء جوي للقوات البرية حال دون تنفيذها.
وبمرور 17 يومًا على بدء الحرب، برزت العشرات من التساؤلات عن أسباب هذا التأجيل رغم إصرار الاحتلال على القيام بالعملية في أسرع وقت، لترميم صورته المشوهة والانتقام من المقاومة التي مرغت أنفه في التراب بإيقاع خسائر فادحة كانت صادمة للشارع الإسرائيلي والدولي على حد سواء.
المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري، قال أمس الإثنين 23 أكتوبر/تشرين الأول إن تأخر انطلاق العملية البرية يأتي “لاعتبارات مختلفة تكتيكية وإستراتيجية”، مؤكدًا “نحن جاهزون بالطبع”، فيما كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية قبل أيام أن الجيش أبلغ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بضرورة شن العملية البرية لتحقيق أهداف الحرب، حتى ولو “على حساب العديد من القتلى من الجنود، لكنه ينتظر موافقة نتنياهو”.
يتفق جل الإسرائيليين وحلفاؤهم الغربيون أن عملية الاجتياح البري لغزة مسألة مسلمة، لاعتبارات سياسية وأمنية وعسكرية مهمة، لكن يبقى التوقيت هو نقطة الخلاف بين دوائر صنع القرار في تل أبيب وواشنطن، فما الأسباب الحقيقية وراء هذا التأخير الذي بلا شك يصب في صالح المقاومة الفلسطينية رغم الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين؟
ملف الأسرى
يتصدر ملف الأسرى قائمة الدوافع التي ترجئ العملية البرية، فـ220 أسيرًا ورهينةً بأيدي المقاومة هو رقم صعب بطبيعة الحال، ولا يمكن اجتيازه بسهولة، خاصة أن بهم أمريكان وجنسيات أخرى غير الإسرائيلية، وهو ما يمثل ضغطًا دوليًا على حكومة الحرب.
يقول المحلل في القناة 14 العبرية، باروخ باديد: “لدينا تأكيدات بأن الولايات المتحدة الأمريكية طلبت من الحكومة الإسرائيلية تأجيل العملية البرية لمحاولة بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية للإفراج عن الرهائن وعلى رأسهم حملة الجنسية الأمريكية”، مضيفًا في تصريحات لـ”الأناضول” أن “العملية البرية ليست مسألة إذا ما كانت ستجري ولكن متى ستجري، أعتقد أنها مؤكدة وستجري على الأرجح خلال الأيام القادمة”.
وأوضح أن جيش الاحتلال قد حصل بالفعل على الضوء الأخضر من الحكومة لشن العملية، غير أن التأجيل جاء بناء على طلب أمريكي “لاعتبارات لها علاقة بمحاولة إيجاد حل سياسي لقضية الرهائن”، مشددًا على أن واشنطن لا تعارض العملية بل تؤيدها بشكل كامل، غير أن التوقيت هو محل الخلاف.
وعلى المستوى الداخلي فإن ضغوط أهالي وعائلات الرهائن والأسرى تشكل تحديًا كبيرًا أمام الحكومة في اتخاذ قرار توقيت العملية البرية، حيث التظاهرات العارمة أمام مقر الحكومة والمطالبة بحل قضية الأسرى أولًا وقبل أي اجتياح بري قد يهدد حياتهم بشكل كبير.
وكانت حركة المقاومة حماس قد نجحت في توظيف هذا الملف لشن حرب نفسية على الشارع الإسرائيلي من خلال الإفراج عن أسيرتين أمريكيتين قبل يومين وأخرتين بالأمس، وهو ما وضع حكومة نتنياهو في مأزق كبير أمام الإسرائيليين، علمًا بأنها بداية الأمر لم تضع هذا الملف كتحد لها في تنفيذ عمليتها البرية، غير أن التوظيف السياسي لتلك المسألة من المقاومة أجبرها على إعادة النظر.
الارتباك الداخلي
رغم أن قرار شن عملية برية تم حسمه من حيث المبدأ لكن الأيام الأخيرة شهدت تصاعدًا كبيرًا في الخلافات بين الجنرالات والساسة داخل حكومة الحرب بشأن التقييمات والخطط الخاصة بالعملية، ففريق يرى ضرورة القيام بها في أسرع وقت حتى لا تفقد الحرب قيمتها وتمنح المقاومة متنفسًا لترتيب أوراقها مجددًا، وآخر يتحفظ خشية التورط في مستنقع لا يمكن الخروج منه.
الخلافات داخل الحكومة وصلت إلى حد تلويح 3 وزراء بالاستقالة للضغط على نتنياهو لدفعه لتحمل مسؤوليته عن عملية “طوفان الأقصى” والضربة المؤلمة التي تعرضت لها دولة الاحتلال، في ظل إصراره على التنصل من المسؤولية التي ألقاها في ملعب المنظومة الأمنية، فيما وصفه أحد الوزراء بـ”الجبان” حسب موقع “والا” العبري.
وتشير العديد من التسريبات الإعلامية إلى تفاقم حالة فقدان الثقة بين ساسة الحكومة وجنرالاتها، وهو الأمر الذي انعكس بشكل كبير على الأداء العام والفشل في اتخاذ موقف موحد حاسم بشأن العملية البرية، سواء من حيث الاستعدادات وتقييم تداعياتها أم توقيتها.
انتظار الدعم الأمريكي
تسعى الولايات المتحدة لتقديم أكبر قدر ممكن من حزم التسليح المتطورة لدولة الاحتلال في أسرع وقت، يقينًا بأن المعركة لن تكون سهلة، وهو التخوف الذي نقله الأمريكان للإسرائيليين، ما دفعهم لانتظار إرسال واشنطن تلك المساعدات العاجلة.
ويميل المزاج العام الإسرائيلي والأمريكي إلى أن هذا الدعم خاصة البوارج البحرية وحاملات الطائرات والاسلحة شديدة الدقة سيكون عامل ردع قوي لإيران وبعض القوى الأخرى التي قد تفكر في دخول الحرب حال شن عملية برية، وهو ما قد يساعد في تقزيم الدعم المقدم للمقاومة الفلسطينية، ما يسهل افتراسها، هكذا يتوهم الاحتلال وحلفاؤه.
القلق من وقوع خسائر فادحة
التطور النوعي الذي ظهرت عليه المقاومة مع بدء عملية “طوفان الأقصى” أصاب الاحتلال بالصدمة والقلق من إمكانيات حماس وبقية الفصائل، فالقفزة الكبيرة في التخطيط وإدارة المعركة والعدة والعتاد، وما وصلت إليه من نهضة في التعاطي سياسيًا وإعلاميًا مع المشهد زاد من وتيرة مخاوف الإسرائيليين من تفاقم الخسائر المحتملة حال الولوج في عملية برية.
البعض يخشى من أن تتحول غزة إلى مستنقع لجيش الاحتلال، وبات التساؤل الأبرز الآن: إذا كان الجيش قد فشل في مواجهة قادة حماس على الحدود في المناطق المفتوحة، فكيف له أن يتعامل معهم في أرضهم وعلى مسارح طالما أجادوا فيها وحققوا انتصارات كبيرة؟ خاصة أن الجميع على يقين أن الساحة الميدانية ستكون مختلفة بشكل كبير عن العمليات الجوية.
كما أن الطبيعة الجغرافية لقطاع غزة، وانتقال المعركة من مواجهات مباشرة إلى حرب شوارع، سيدفع الكفة للميل نحو المقاومة التي تجيد مثل هذا النوع من المعارك مقارنة بالاحتلال غير المتمرس لتلك المواجهات، ما يعني خسائر فادحة قد يتعرض لها حين يقع بين كماشة المقاومة التي من المتوقع أن تكون على أهبة الاستعداد لتلك الخطوة المعلن عنها مبكرًا.
ولعل رد فعل المقاومة على محاولات التسلل أمس واليوم تعزز تلك المخاوف، حيث قُتل جندي إسرائيلي وأصيب 6 آخرين ودمرت جرافتان في أثناء عملية تسلل لا تتجاوز بضعة أمتار في الجنوب المفترض أنه أكثر هدوءًا من الشمال في غزة، فضلًا عما تعرضت له دورية اليوم حاولت التسلل في خان يونس، حيث أصيب مجند واستهدفت مدرعة.
وهنا تتصاعد المخاوف من أن تكون الخسائر حال القيام بعملية برية أكبر مما يتحمله الرأي العام الإسرائيلي، ما يمنح المقاومة انتصارًا إضافيًا يرسخ حضورها ويضع سمعة وصورة الكيان المحتل في خطر، وهو ما يخشاه الجنرالات والساسة في دولة الاحتلال معًا.
يقول الوزير من حزب “الليكود” يواف كيش: “لا داعي للإسراع في بدء المناورة البرية داخل قطاع غزة”، وتابع “علينا الاستمرار في دك قطاع غزة من الجو وهناك دعم دولي لإسرائيل”، وذلك في تصريحات أدلى بها أمس الإثنين لهيئة البث الإسرائيلية التي قالت في تقريرها: “يتدرب جنود وحدات خاصة في الجيش منذ أيام، على كيفية اقتحام الانفاق، استعدادًا للعملية البرية في غزة التي تتضمن مواجهات ومطاردة لعناصر حماس فيما يعرف بتسمية “المترو” وهي شبكة أنفاق تحت الأرض في المدينة والمتوقع أن تدور فيها أشرس المواجهات”.
تعدد جبهات المواجهة
التحذيرات الصادرة من “حزب الله” وطهران بشأن استمرار الانتهاكات بحق الفلسطينيين، ودخول الحزب على خط المواجهة عبر استهدافات متتالية لقواعد ومرتكزات عسكرية إسرائيلية، وإصابة أهداف محققة، كل هذا يقلق الاحتلال من رد الفعل حال قيامه بعملية برية.
تعدد جبهات المواجهة لا شك أنه أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع حكومة الحرب في تل أبيب للتفكير في خطوة الاجتياح البري، خاصة إذا ما دخلت أطراف أخرى كسوريا وربما مصر في ظل الاستفزازات الأخيرة على شريطها الحدودي وإيقاع إصابات في صفوف جنودها، بما ينذر بحرب إقليمية موسعة لا تقدر دولة الاحتلال على تحمل كلفتها في الوقت الراهن.
الرأي العام الإقليمي والدولي
يوم تلو الآخر منذ الحرب الشرسة على قطاع غزة، تتسع رقعة التظاهرات المنددة بالإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، وتُرفع شعارات الدعم والتأييد للمقاومة، وهو ما قد يهدد مصالح دولة الاحتلال وحلفاءها الغربيين في الشرق الأوسط وبقية دول العالم.
كما أن تصاعد الغضب العربي والإسلامي جراء تلك الانتهاكات واستهداف الضحايا من الأطفال والنساء وكبار السن، واستهداف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، ربما يمثل ضغطًا كبيرًا على الأنظمة العربية والإسلامية بما يهدد مستقبلًا اتفاقيات التطبيع التي جنت تل أبيب من ورائها العديد من المكاسب المجانية.
وفي الأخير فإن تأخير العملية البرية – مهما كانت تداعياتها – حتى الآن يعد انتصارًا في حد ذاته يحسب للمقاومة التي نجحت لأول مرة منذ سنوات طويلة في فرض معادلة جديدة تجبر الاحتلال على وضع ألف حساب لأي خطوة أو عملية قبل الإقدام عليها.