يعمد الاحتلال الإسرائيلي منذ انطلاق المواجهة الحالية بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إلى اتّباع آلية تقوم على “الحزام الناري”، واستخدام كثافة نارية غير مسبوقة مقارنة بما اعتاد عليه الفلسطينيون في السابق.
ومع مرور الوقت، برز استخدام الاحتلال الإسرائيلي لسياسة “الأرض المحروقة”، الاستراتيجية التي تقوم على تدمير كل شيء على الأرض، بغضّ النظر عن هويته سواء أكان مدنيًّا أو عسكريًّا، وهو ما ظهر من حجم الدمار الهائل وغير المسبوق في فترة وجيزة من هذه الحرب.
وشكّلت الضربة الأولى التي وجّهتها المقاومة الفلسطينية في عملية “طوفان الأقصى” بمثابة صفعة قوية للمنظومتَين الأمنية والعسكرية الإسرائيليتَين، التي لطالما تفاخر الاحتلال بقدرته على فهم وقراءة سلوك المقاومة، وتحديدًا حركة حماس التي باغتته مرتَين، الأولى في “سيف القدس” عام 2021 والثانية هذا العام.
ما الذي تعنيه سياسة “الأرض المحروقة”؟
سياسة الأرض المحروقة هي استراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها إحراق أي شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما، وفي الأصل كان المصطلح يشير إلى إحراق المحاصيل الفلاحية لعدم استعمالها من طرف العدو كمؤونة، أما الآن يشير إلى إحراق المنتوجات الغذائية وتدمير الهياكل الأساسية، مثل المأوى والنقل والاتصالات والموارد الصناعية، وقد يتبع الجيش هذه السياسة في أرض العدو أو في أرضه.
ويمكن للمفهوم أن يتداخل مع تدمير موارد العدو بشكل عقابي، وهو ما يحدث كاستراتيجية بحتة لأسباب سياسية بدلًا من الاستراتيجية التنفيذية، وتدمير الإمدادات الغذائية للسكان المدنيين في منطقة الصراع قد حُظر بموجب المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977.
يقول مقطع من المادة 54: “تحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتج المحاصيل والماشية، ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، من أجل غرض محدد، لقيمتها الحيوية على السكان المدنيين أو الخصم، مهما كان الباعث سواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على الابتعاد، أو لأي سبب آخر”، ومع ذلك لا تزال ممارسة شائعة.
البروتوكول لا ينطبق إلا على البلدان التي صدّقت عليها، عدا بعض الاستثناءات الملحوظة حاليًّا في الولايات المتحدة و”إسرائيل” وإيران وباكستان وتركيا والعراق، فيما تشتهر روسيا بالذات بهذا النوع من الحروب، إذ طبّقته عدة مرات أمام التتار ونابليون بونابرت والألمان خلال الحرب العالمية الثانية، مستغلين الطبيعة الطبوغرافية والمناخية لبلادهم من حيث الحرارة شديدة الانخفاض (التي تصل أحيانًا إلى 15 تحت الصفر) والأرض الجليدية، وأثبت هذا النوع فعاليته حيث قهر نابليون وسبّب تراجع الألمان في منتصف الحرب العالمية الثانية، كما تم استخدام الاستراتيجية أثناء مجزرة حماة في سوريا من قبل النظام السوري عام 1982.
الأسباب والدوافع.. لماذا تبنّى الاحتلال هذا الخيار؟
يمكن القول إن ثمة أسباب ودوافع كانت وراء تبنّي الاحتلال لهذا النوع من الاستراتيجية في القصف العنيف الذي أودى بحياة أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطيني، ويبدو العدد مرشحًا للزيادة بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة، في ضوء استمرار عمليات القصف الإسرائيلي.
ويعكس الاستمرار في عمليات القصف الواسعة حالة الخشية الإسرائيلية من الدخول في مواجهة برّية مع المقاومة الفلسطينية، تحت ذرائع الاستجابة للضغوط الأمريكية لعودة الرهائن الأجانب أو اختيار التوقيت المناسب للبدء بتنفيذ هذه العملية.
وإلى جانب هذا، يبدو الاحتلال من خلال هذه الاستراتيجية معنيًّا بالتأثير على الحاضنة الشعبية في غزة بإجرام غير مسبوق، عبر تعمُّد إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في الأرواح، وحتى على صعيد الممتلكات العامة التي لم تسلم منها أي من المنشآت.
ويبدو الاحتلال يستغل الدعم الغربي والأمريكي وحالة الضوء الأخضر غير المسبوقة له بالتصرف والقصف في غزة كيفما يشاء دون رقيب، في ظل موقف عربي ضعيف لا يقوى على تغيير الكفّة على المستوى السياسي لصالح المقاومة، وحالة الحياد التي تتبنّاها السلطة الفلسطينية.
في الوقت ذاته، يبدو أن الاحتلال ليس لديه مشروع ولا خطة عمل أخرى واضحة غير القصف من الجو، في ضوء التردد الواضح فيما يتعلق بالعملية البرية، لا سيما مع فشل محاولتَي الاستطلاع اللتين وقعتا جنوب وشمال القطاع، واللتين أظهرتا استعدادًا واضحًا للمقاومة.
ومن العوامل البارزة في هذه المعركة حالة الخلاف الواضحة بين المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والأمنية، وسعي نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، لقذف كرة الفشل في ملعب شركائه السياسيين ومنظومة الأمن والجيش، دون تحمل أي مسؤولية عمّا جرى.
وتشكّل هذه المعركة بالنسبة إلى نتنياهو مسألة حياة أو موت، وهو ما عزز من تسريبات الخلافات بينه وبين وزير الحرب يوآف غالانت وبقية أعضاء الائتلاف الحكومي، في ضوء توقعات بتصدُّع جدار هذه الحكومة خلال الفترة المقبلة عبر استقالة بعض الوزراء.
كيف تواجه المقاومة هذه السياسة؟
رغم شدة القصف الإسرائيلي على مدار أكثر من 3 أسابيع، حافظت المقاومة الفلسطينية على كثافة نارية واضحة ومحددة تشمل مختلف الأراضي الفلسطينية، ما يشير إلى استعداد مسبق لهذه المعركة، واستعداد أكبر لجولة طويلة الأمد من المواجهة.
وإلى جانب ذلك، تدير المقاومة الفلسطينية ملف الأسرى الإسرائيليين لديها بنوع من الحنكة، لا سيما أن سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها الاحتلال تستند على فكرة “بروتوكول هانيبال” الخاص بقتل الأسرى، لمنع الخصم (المقاومة) من إبرام صفقة تبادل.
وفي الوقت ذاته، تبدو الدفاعات الداخلية للمقاومة متجهّزة لأي عملية برية محتملة قد يقدم عليها الاحتلال خلال الفترة القليلة المقبلة، في ضوء حديثه عن تنفيذ عملية برية داخل القطاع، وهو ما ظهر في إفشال محاولات التسلل قبل أيام جنوب وشمال القطاع.
وبالتوازي مع ذلك كله، يحضر الخطاب الدعائي للمقاومة الفلسطينية الموجّه نحو الجبهة الداخلية والآخر الموجّه نحو الجبهة الخارجية، ليعكس أن المقاومة تجهّزت بشكل علمي ودقيق لهذه المعركة، بعيدًا عن ردة فعل عشوائية هنا أو هناك قد تربكها على أرض الواقع.