أعلنت وسائل الإعلام التركية، الأحد الماضي 16 من نيسان/ أبريل، أن نتيجة الاستفتاء غير الرسمية، حتى تاريخ كتابة المقال على الأقل، انتهت بـ51.8% لصالح “نعم”، و48.2% لصالح “لا”.
في اليوم التالي للاستفتاء زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري والسلطان محمد الفاتح، ورؤساء الوزراء السابقين عدنان مندرس وتورجوت أوزال ونجم الدين أربكان، فما دلالات تلك الزيارة، وما الملامح المتوقعة لمستقبل الجمهورية التركية؟
قبل كل شيء، يتعين علينا الإشارة إلى أن الملمح الأساسي لمرور هذا الاستفتاء لصالح “نعم” هو ظهور أولى شواهد طي صفحة الأتراك البيض وفتح صفحة الأتراك السود “رسميًا ودستوريًا”.
الأتراك البيض والأتراك السود
في منتصف التسعينيات، وبعد تعرض الشريحة المحافظة من المواطنين الأتراك للإقصاء والإجراءات الاستئصالية بحقهم، خرجت الخبيرة الاجتماعية السياسية، نيلوفار غولا، بمصطلح الأتراك البيض والأتراك السود والأتراك الرماديون.
أرادت غولا بهذه المصطلحات تعريف الشرائح الأساسية للمجتمع التركي، تصف غولا “الأتراك البيض” بأنهم الصنف الذي تعود أصوله إلى المدينة، ويرى نفسه أنه النخبة المتقدمة التي أسست الجمهورية التركية التي يجب الحفاظ على جذورها وفقًا لمبادئ العلمانية والتقدمية والأفكار الغربية.
يتألف هذا القسم، وفقًا لغولا، من تحالف يضم الجنرالات ورجال الدولة المدنيين رفيعي المستوى والمفكرين الذين يدرسون في الخارج، خاصةً في الدول الغربية، ويضم هذا القسم ثلة تحتضن مواطنين من الطبقة الثرية التي يؤيدها ثلة من مواطنين الطبقة الوسطى، وتبني هذه الطبقة ثراءها من خلال العلاقات الشخصية الموجودة بين منتسبيها العسكريين والمدنيين، يُعرف هؤلاء المواطنون بملابسهم “الحرة” التي يصفها الطرف الآخر “بالخليع”، وأحاديثهم المدافعة باستماتة عن العلمانية ومبادئ أتاتورك، تُنيط غولا بهذا القسم لقب “الأقلية المسيطرة”.
“الأتراك السود”، بحسب تعريف غولا، مُعرفون بأنهم “متخلفون”، يتعرض هؤلاء المواطنون الذين تعود أصول بعضهم للطبقة المتوسطة والبعض الآخر للطبقة الفقيرة، لحملات إعلامية “مستحقرةً” لهم ولقيمهم التي تشكل جذور الثقافة التركية المحافظة المرتبطة بالتاريخ العثماني
بينما “الأتراك السود”، بحسب تعريف غولا، يعرفون بأنهم “متخلفون”، يتعرض هؤلاء المواطنون الذين تعود أصول بعضهم للطبقة المتوسطة والبعض الآخر للطبقة الفقيرة، لحملات إعلامية “مستحقرةً” لهم ولقيمهم التي تشكل جذور الثقافة التركية المحافظة المرتبطة بالتاريخ العثماني والسلجوق الإسلامي وليس التاريخ الذي يبدأ بتأسيس الجمهورية التركية فقط.
ترتدي نساء هؤلاء المواطنين اللباس الملتزم الذي قد يكون حجابًا عاديًا، وآخر قد يكون عباءةً سوداء، ولا تراهم في الملاهي الليلة، ويشكل هذا القسم عامة الشعب، ولكنه مغلوبٌ على أمره، فمطالبه مرفوضة من قبل دوائر الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لأنها مطالب “متخلفة”.
وبسبب حرمان هذه الطبقة من العدالة الاجتماعية والسياسية، يُلاحظ أنها تتألف بشكل كبير من الفلاحين والعمال والتجار أصحاب الشركات الصغيرة أو المتوسطة، تُطلق غولا على هذه الفئة اسم “نمور الأناضول”، ونادرًا ما يكون في هذه الفئة متعلمون، فالأقلية لا توفر فرص التعليم المجانية، وإن وفرتها لا تسمح لمن ينتمي لهذه الطبقة أن يحل في مناصب فاعلة في الدول، وإن استطاع الوصول لهذه المناصب، لا يمكن له تحقيق ما يرنو إليه، ولعل الانقلاب على عدنان مندرس عام 1960، ومن ثم موت تورغوت أوزال عام 1993 في ظروف غامضة، خير دليل على عدم سماح هذه “الأقلية” لعامة الشعب الوثوب إلى مناصب فاعلة في الدول.
وتُشير غولا في ختام نظريتها إلى أن “الأتراك السود” الذين يصلون إلى مناصب سياسية فاعلة، أو يستطيعون بناء قوة اقتصادية بارزة، أو يصبحون فاعلين في قطاع التعليم يبقون “أتراك رماديون” لا يصلون إلى مرتبة “الأتراك البيض” لأنهم حافظوا على عادتهم وتقاليدهم ومعتقادتهم.
لقد رسمت غولا نظريتها في التسعينيات، وبدا واضحًا، بعد تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا، تلاشي سيطرة “الأتراك البيض” رويدًا رويدًا على مفاصل الإعلام، عشية تأسيس حزب العدالة والتنمية “ذي الأصول المنحدرة من فئة الأتراك السود” ما يقارب 70% من وسائل الإعلام “المحافظة” والمنافسة بشكل ناجح لوسائل إعلام “الأتراك البيض”، والسعي لرفع المستوى الثقافي والحقوقي للمواطنين عبر دورات وبرامج التوعية، والقضاء على حالة “التجهيل” التي اتبعها “الأتراك البيض”، وفقًا لما تشير إليه غولا، من خلال تأسيس جامعة في كل مدينة تركية، وفتح الباب أمام جميع المواطنين الأتراك بلا استثناء للظفر بفرصة الدراسة في الخارج على نفقة الدولة، فضلًا عن رفع “الاستحقار” عن المواطنين المحافظين عبر إصدار القوانين وتنظيم المعايير التي تسمح لهم ولهن للدراسة، والعمل في كل مؤسسات الدول التنفيذية والتشريعية والقضائية والخدماتية، وممارسة حياتهم وفقًا لقيمهم ومبادئهم المحافظة، وفتك الروابط الشخصية والمصلحاتية بين الجنرالات.
“ثورة صامتة” قامت بتغيير الوضع في تركيا من خلال بناء هيمنة ثقافية وإعلامية وعلمية واجتماعية واقتصادية ومؤسساتية دولتية ـ شملت مؤسستي الشرطة والجيش اللتين لعبتا دورًا أساسيًا في صد انقلاب الجنود التابعين لجماعة غولن في 15 من تموز/ يوليو
لكن جميع هذه الخطوات تمت رويدًا رويدًا، أي بالتدرج الذي وُصف على أنه “ثورة صامتة” قامت بتغيير الوضع في تركيا من خلال بناء هيمنة ثقافية وإعلامية وعلمية واجتماعية واقتصادية ومؤسساتية دولتية ـ شملت مؤسستي الشرطة والجيش اللتين لعبتا دورًا أساسيًا في صد انقلاب الجنود التابعين لجماعة غولن في 15 من تموز/ يوليو، ومن ثم تحصين هذه الثورة التي غيرت دعائم الدولة بشكل أساسي بمواد دستورية توفر “للأتراك السود” ـ الفئة الأكثرية ـ ضمان الاستمرارية في حكم أنفسهم بأنفسهم، والتمتع بحقوق العيش الحر المحافظ أو العلماني أو الليبرالي البعيد عن قوانين العلمانية “الاقصائية”.
ولا يسعنا في هذا المقام إلا الإشارة إلى صحة ما ادعته وسائل الإعلام المساندة والمعارضة للإصلاحات التركية، والتي تمحورت حول بناء “جمهورية تركيا الثانية” التي تمتاز بسيطرة الأكثرية الشعبية المحافظة وليس الأقلية النخبوية الإقصائية.
لا شك أن “الثورة الصامتة” المعنية امتازت ببناء الأساس القوي الذي تحول إلى صرحٍ متين يبدو أنه بات عصيا على الانكسار لمدة زمنية طويلة.
ولقد عُكست ملامح الجمهورية التركية الجديدة التي قد تنفي المزيد من ميراث الجمهورية التركية القديمة ـ الجمهورية الأتاتوركية ـ من خلال زيارات القبور التي قام بها أردوغان في اليوم التالي، فقد عكس أردوغان بزيارته لقبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري، الهوية الدينية الإسلامية، وبزيارته لقبر فاتح إسطنبول السلطان محمد الفاتح، الهوية التاريخية العثمانية، وبزيارته لرؤساء الوزراء الذين سعوا للقضاء على سيطرة فئة الأقلية الاستئصالية، هوية الاستمرارية لمشوار القسم الذي يشكل الأكثرية في تركيا، والاستمرارية تعني الارتباط بالماضي وإكمال الطريق على ذات المنوال في المستقبل.
خطوات سيطرة الأتراك السود على الأتراك البيض
لئن أردنا رصد الخطوات التدريجية التي استطاع من خلالها الأتراك السود الوصول إلى هذه المرحلة باختصار، فإن الشكل التالي يكاد يكون الأقرب للصواب:
ـ تفعيل برامج التوعية الثقافية المستهدفة لأطياف وطبقات الشعب كافة، وتعبئتهم بروح الافتخار بالتاريخ والقيم الموروثة والحقوق المكتسبة، وبث روح التضحية فيهم من أجل هذه الحقوق.
ـ توسيع برامج التعليم الداخلي والخارجي، وبناء جيل شاب يؤمن بالمعايير الديمقراطية والحقوق المدنية، ويتطلع إلى المساهمة بقدر الإمكان في تطوير بلاده.
بناء التنمية الاقتصادية التي منحت المواطنين الأتراك الكثير من المكتسبات التي دفعتهم للخروج بالآلاف أمام دبابات الانقلاب، خشيةً من العودة إلى مستنقع الفقر الأليم والتجهيل المقصود والإقصاء المذموم
ـ إحراز سيطرة مكثفة على وسائل الإعلام التي أضحت “دين الناس” الذي يؤمنون به أكثر من أي شيء آخر، وتحويل هذه الوسائل إلى منابر تعبئة لحث الشعب على السعي قدمًا نحو المشاركة في العملية السياسية، والحفاظ عليها عمليةً قائمةً تحقق له آماله القائمة، بشكل أساسي، على الرغبة في التخلص من الوصاية العسكرية وسيطرة الأقلية.
ـ بناء التنمية الاقتصادية التي منحت المواطنين الأتراك الكثير من المكتسبات التي دفعتهم للخروج بالآلاف أمام دبابات الانقلاب، خشيةً من العودة إلى مستنقع الفقر الأليم والتجهيل المقصود والإقصاء المذموم، وهنا بينما خرج كبار السن خوفًا من تكرار سيناريو الانقلابات العسكرية التي أخرت تنمية تركيا ونهوضها لسنوات، خرج الجيل الشاب انطلاقًا من التعبئة الإعلامية والثقافية والتعليمية التي غرست فيه الإيمان الراسخ بضرورة وجود المعايير الديمقراطية والحريات والحقوق من أجل بناء وطن كريم يلحق بركب الحضارات.
ـ تحصين مؤسسات الدولة، خاصة ذات الفاعلية منها، بموظفين من أبناء الأكثرية الحالمة بتثبيت دعائم حكمها لنفسها، والتعاون مع الجهات الفاعلة في الدولة والمضادة لفكر سيطرة الأقلية، ولو بشكل براغماتي، كما حدث في التعاون مع جماعة غولن المتغلغلة في مفاصل الدولة لمجابهة الانقلابات العسكرية التي كان يخطط لها “الضباط أو الجنرالات الأتاتوركيون”، وقد ظهر ذلك التعاون في قضيتي “الأرغاناكون” عام 2007، و”المطرقة” عام 2010، حيث دعمت حكومة حزب العدالة والتنمية عملية تطهير الجيش من الضباط الأتاتوركيين التي قامت بها جماعة غولن عبر عناصرها الفاعلين في قطاعي الأمن والقضاء.
ـ موازنة أي جهة ساعية للسيطرة على مفاصل الدولة بقوة أمنية، كتعزيز القوات الخاصة التابعة للشرطة، والتي أظهرت نجاعتها في صد انقلاب 15 من تموز/ يوليو الذي قامت به جماعة غولن.
ـ منح المواطنين حقوقهم الواسعة التي حرموا منها لسنوات، للشعور بضرورة الوقوف ضد من يحاول حرمانهم منها من جديد.
ـ إقرار دستور وقوانين تكفل حماية الإنجازات التي تم تحقيقها.
هذه إذاً أبرز الخطوات التي قامت بها حكومة حزب العدالة والتنمية الممثلة “للأتراك السود” لفتك سيطرة “الأتراك البيض” على مفاصل الدولة، وقد شكلت التعديلات الدستورية الخطوة الأكيدة في طي صفحة سيطرة الأتراك البيض، ولكن استمرار طي هذه الصفحة مرتبط ببقاء الخطوات المذكورة أعلاه.
أيضًا يبقى احتمال تخطيط الضباط الأتاتوركيين الذين يمثلون قوة الأتراك البيض للانقلاب على من ينفي قيم العلمانية الأتاتوركية قائمًا، لا سيما أن النظام الجديد ينفي بشكلٍ أو بآخر تأثير الأتراك البيض ممثلين بحزب الشعب الجمهوري، في عملية اتخاذ القرار، مما يعني أن هناك احتمال لظهور استقطاب سياسي اجتماعي للسطح ينتهزه الضباط الأتاتوركيون للتحرك نحو الانقلاب، وهذا ما يوجب على الأتراك السود اتخاذ خطوات تحول دون ظهور استقطاب، وتؤسس لمنصات تساهم في إشراك الجميع، بلا استثناء، في العملية السياسية.