اختراع ظهر في نهاية القرن التاسع عشر يمكّن من عرض الصور بشكل يجعلها حية متحركة، في لحظة ما لم نعد نفرق في التسمية بين آلة العرض وفضاء العرض والمادة المعروضة، لقد تغيرت الأولى بمرور الزمن، وتمت رقمنة العرض السينمائي بحيث تهاوت تلك الصورة القديمة التي خلدتها أفلام مثل Cinema Paradiso، صورة المتفرج المتلصص voyeur على خيالاته (بما أن قبس النور ينطلق من ورائه ليسقط على شاشة العرض أمامه)، أما فضاء العرض، فقد خسر سيطرته بالفعل لا لصالح قنوات التلفاز فقط، وإنما أيضًا لصالح الأجهزة الرقمية الحديثة، السينما في الكمبيوتر، السينما كفيديو عند الطلب VOD، السينما على الهاتف، وسينما المنزل Home Cinema أيضًا.
وحتى السينما كمادة معروضة، أصبحت مع الرقمنة، مادة شبيهة ببقية المواد المرئية الأخرى، يمكن تصوير السينما بذات التقنيات التي يصور بها شريط الأخبار، ويمكن للسينما أن تبث على اليوتيوب مثل كليبات نانسي عجرم وملخصات مباريات كرة القدم.
ماذا بقي للسينما إذًا؟
يبقى للسينما ذلك الجانب الذي ظهر بشكل لاحق لوجودها، صفتُها الفنية أساسًا، “كانت أول مدرسة فكرية تدافع عن الفيلم بصفته فن هي مدرسة الشكليين Formalists، مثل ردولف أرنهايم Rudolf Arnheim وسيرجي أيزنشتاين Sergueï Eisenstein، وبالنسبة لهؤلاء، فالخاصية المميزة للفيلم هي عدم قدرته على محاكاة الواقع بشكل تام، وهذا العجز هو ما يعرف الإمكانية التعبيرية، فالقيود تتيح فرصة استغلال التجربة اليومية وتشويهها لأغراض فنية” (وهذا مقتطف من كتاب لـWarren Buckland عن فهم دراسات الأفلام).
وانطلاقًا من هذه الأفكار ظهرت نظرية المونتاج لسيرجي أيزنشتاين التي أسست لتقنيات استعمال التركيب لخلق المعنى، ولقد أصبحت من بعده من ركائز صناعة السينما.
إن ما يجعل الفن فنًا هو تلك العبقرية الأسلوبية التي تسمح برؤية أفكار جديدة، ومعان جديدة، هو تقليب حجر الواقع بشكل فني يسمح برؤية ما تحته
لقد انقسمت المدارس السينمائية فيما بعد إلى شق شكلي يقوض Distort الواقع ليخلق المعنى وشق واقعي يحاول عبثًا محاكاة الواقع على اعتباره مصدر للمعنى، إن كل محاولة لمحاكاة الواقع هي في الحقيقة محاولة فاشلة، حتى في أقرب الوثائقيات التزامًا بالتجرد الموضوعي، سنجد نوعًا من العبث الذي يمارسه المخرج لإبراز فكرته الخفية، والسينما من هذا المنظور لا تختلف عن بقية الفنون، إن ما يجعل الفن فنًا هو تلك العبقرية الأسلوبية التي تسمح برؤية أفكار جديدة، ومعان جديدة، هو تقليب حجر الواقع بشكل فني يسمح برؤية ما تحته، إن الواقعية في السينما ليست إلا خدعة فنية تشبه مساحة الصمت في عمل موسيقي.
فيم تختلف السينما إذًا عن بقية الفنون؟
إن القصة الجيدة لا تصنع سينما جيدة لأنها لا تضيف شكلاً فنيًا جديدًا، فنحن نملك فن القصة بالفعل، ما قيمة ألا يقدم الفيلمُ أكثر من القصة التي نشرت بالفعل؟ لهذا السبب نسمع كثيرًا عبارة “الكتاب خير من الفيلم”، إن لهذه القاعدة استثناءات قليلة، صنعها مخرجون فهموا أن السينما فن مستقل بذاته وليس إسقاطًا مرئيًا لما هو مكتوب، يمكن أن أقترح فيلم “برتقالة مُمَكننة” A Clockwork Orange كأنموذج جيد لهذا، فالكتاب نفسه رائع ويستحق القراءة، لكن الفيلم، تجربة فنية هائلة مفرطة الثراء.
توجد أفلام كثيرة تثبت أن خضوع الفيلم الطويل لتركيبة القصة الدرامية الواحدة ليس شرطًا ضروريًا ليكون الفيلم رائعًا، تمثل الأفلام الوثائقية أهم فئة من هذا النوع، وإن كانت الكثير من الوثائقيات تعتمد على خط روائي ما، ففي فيلم “المواطن أربعة” Citizenfour يمكن أن نتابع تفاصيل هروب إدوارد سنودن Edward Snowden من الولايات المتحدة، وصراعه رفقة لاورا بويتراس Laura Poitras مخرج الفيلم لإخراج حقيقة وكالة الأمن القومي الأمريكية للملأ.
لكن فيلم Baraka يختلف كثيرًا، أخرج رون فريكه Ron Fricke الفيلم سنة 1992 وهو عبارة عن خليط غير متجانس من عشرات الصور المدهشة من كل بقاع هذا الكوكب الأزرق، لا يمكن إيجاد أي تنظيم قصصي يحدثه تركيب هذه المشاهد، ومع ذلك فالفيلم تجربة بصرية وفكرية فريدة تحمل المشاهد على طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بالجنس البشري وبالحياة والبيئة ومستقبلنا.
والتمثيل الجيد قد يصنع مسرحية جيدة، لكن السينما لا تستطيع تجاوز الحاجز الفاصل بين الممثل والمشاهد، وكما ذكرتُ من قبل، فالحواجز وهوامش العجز هي ما يخلق الفن (طويلاً ما كان الشعرالعربي يعرَف بفضل قيود العروض التي تضبطه، أما “تحريره” فتلك مسألة أخرى) لذلك فالسينما ترتكز أساسًا على خصوصيات هذا الحاجز لتتجلى كفن بذاتها.
جميعنا نستحضر أفلامًا كسبت شهرة بفضل آداء تاريخي لأبطالها، هيذ ليدجر Heath Ledger في الفارس الأسود The Dark Knight، آل باتشينو في العراب، روبرت دي نيرو في سائق التاكسي، لكن ماذا عن تلك الأفلام العظيمة التي لا تتميز بأي أداء عظيم؟ أوديسا الفضاء 2001 مرة أخرى هو نموذج جيد، ومن المثير هنا أن أهم شخصيات هذا الفيلم ليس سوى كمبيوتر مركزي يتجلى في شكل عين حمراء مضيئة جامدة، وصوت بارد بلا ملامح (تقريبًا).
السينما هي فن الصورة المتحركة، أي أنه فن يعتمد على تتالي الصور ليخلق معنى ما، وتتجلى العبقرية الفنية دومًا عن هذا المفهوم
وعمومًا لا تتميز أفلام ستانلي كيوبرك بأداء درامي عظيم، لا لعدم قدرة الرجل على إدارة الممثلين، أو عدم قدرته على العمل مع ممثلين كبار، فأداء مالكولم ماكدويل Malcolm McDowell في برتقالة ممكننة يدحض هذه الفكرة، ولكن لأن أعمال كيوبرك كثيرًا ما تحمل المشاهد على أخذ مسافة تأملية من المشهد، عوض إغراقه في لجتها، ويبرز فيلمه التاريخي Barry Lyndon كأنموذج متميز لهذا التمشي.
السينما هي فن الصورة المتحركة، أي أنه فن يعتمد على تتالي الصور ليخلق معنى ما، وتتجلى العبقرية الفنية دومًا عن هذا المفهوم، أي كيفية عرض الصور، كيفية التلاعب بها، كيفية العبث بعيني المشاهد وتحويل وجهته إلى المعنى المراد، لفت انتباهه أو تشتيته، وضع العناصر الضرورية داخل الصورة بما يخدم الفكرة.
تصبح كل عناصر الفيلم جزءًا من المشهد، من حركة الممثلين داخل الكادر، إلى موسيقى الخلفية المصاحبة، إلى المؤثرات البصرية واختيار الملابس، وحتى الدراما والحوار اللذان يعتبران واجهة أفكار الفيلم ولسانه، يصبحان مجرد أداة بنيوية لخلق المضمون الحقيقي، وهكذا يصبح الشكل هو قيمة العمل السينمائي الأساسية، لأن الشكل هو ما يخلق المعنى ويوجهه.
لماذا يعجبني الفيلم؟
بانتصاري للشكل لا أقلل من قيمة المضمون، وإنما أخلصه من الأدلجة، فبسبب اعتبار المضمون أداة تقييم، تتعرض أعمال فنية كثيرة للظلم فقط لأن أفكارها تخالف النقاد أو المتلقين، أو تخالف بشكل عام المنظومةَ الأخلاقية السائدة.
يمثل فيلم D. W. Griffith الشهير “ولادة أمة” Birth of a Nation مثالاً جيدًا، فالأمريكيون غير قادرين على إنكار عبقريته الجمالية والبلاغية رغم كل ما يتضمنه من أفكار عنصرية، هذا دون الحديث عن بعض أفلام الحقبة النازية، وأفلام البروباغندا السوفياتية خصوصًا أعمال إأيزنشتاين في العشرينيات.
يصبح مضمون الفيلم أو ما يجب تسميته بالمحتوى الدرامي، أداة ضمن مجموعة من الأدوات الفنية الأخرى التي تسمح بخلق المعنى، ولذلك لا يجب أن يُنظر للدراما وحدها وإنما لكل تلك الأدوات التي توجد الدراما ضمنها، وهو ليس ترفًا نخبويًا كما يعتقد البعض، وإنما ضروري لفهم الفيلم، فصاحب الفيلم الفني لا يضع تلك الأدوات عبثًا، وإنما كجزء من المعنى الذي يريد تبليغه، وحين يتعامل مع هذه الأدوات بشكل من الاستهتار، يمكن للمعنى الذي أراده ألا يضل.
الإعجاب بالفيلم يرتبط في الغالب بشكل وثيق بمدى استيعاب فكرته وفهمها، ومدى قيمة هذه الفكرة بالنسبة لذات المتلقي
لا شيء ضروري في العمل السينمائي سوى الصورة السينمائية نفسها، أما الباقي فأدوات يُحدِثُ حضورها أو غيابها غرضا ما، وهذا ما يفسر حديثي السابق عن الواقعية الفنية، فحضورها إيهام بالواقع وغيابها إيهام بالهروب منه.
كما يمكن الاستئناس في ذلك ببعض الممارسات الفنية الأخرى كالامتناع عن الصوت السردي (diegetic sound أي صوت الممثلين وكل تلك الأصوات التي ليست في الخلفية وتتعلق مباشرة بالقصة) للتلميح إلى حقبة الأفلام الصامتة (فيلم الفنان The Artist)، أو الامتناع عن الديكور تمامًا (فيلم Dogville)، إن آفاق السينما كبيرة جدًا، ومن المؤسف أن نحد رؤانا للاقتصار على تلك القواعد الهوليودية البسيطة.
تبقى حقيقة أن الإعجاب بالفيلم يرتبط في الغالب بشكل وثيق بمدى استيعاب فكرته وفهمها، ومدى قيمة هذه الفكرة بالنسبة لذات المتلقي، ولئن كان الشرط الأول عامًا فإن الشرط الثاني هو ما يمنح التقييم طابعًا شخصيًا، هذا يفسر مثلاً احتفاء النقاد بشكل خاص بتلك الأفلام التي تتحدث عن صناعة السينما، هذه أفلام تتحدث عنهم وعن همومهم وتعبر عنهم بشكل كبير بالفعل (جادة الغروب Sunset Boulevard، بارتون فينك Barton Fink، إيدوود Edwood، الرجل الطائر Birdman)
لكن كما ذكرت، فهناك الجانب العام، المتعلق بفهم الفيلم، ربما لا أحد يمكنه الإحاطةُ بكل الأفكار التي يمكن أن يقدمها فيلم ثري ينجزه فريق كامل غير متجانس، ولكن هناك على الأقل أفكار رئيسية يعبر الفيلم عنها بشكل أو بآخر، والتوصل لهذه الأفكار، أو التعبيرات، يمكن أن يفشل لأسباب عديدة، منها بلاغة الفنان الضعيفة، ولكن منها أيضًا افتقار المتلقي لبعض الأدوات الضرورية للفهم.
كل المجتمعات قادرة على خلق فنانين رائعين، ولكن غياب الناقد الجيد عن المجتمع هو ما يعلي من شأن الفن الردئ على حساب الإبداع الحقيقي
كيف يمكن لمن لم يقرأ كتاب “هكذا تكلم زرادشت” أن يربط بين موسيقى افتتاح فيلم “أوديسا الفضاء، 2001” ومحتواه مثلاً؟ أو كيف لمن لا يعرف شيئًا عن الحرب الأهلية الأمريكية أن يفهم رمزية مشهد الختام في “المكروهون الثمانية” The hateful Eight؟
تكمن قيمة النقد إذًا لا في وضع شروط مسبقة للقبول بقيمة الفيلم الجمالية، وإنما في محاولة تفكيك الفيلم وتحليله واستخراج قدراته الجمالية ومن ثم تقييمها، ولذلك فالنقد وإن لم يكن يؤسس للجمال بشكل مباشر، فهو يوجه إليه، ويدفع نحوه، وتلك وظيفته الخطيرة.
إن كل المجتمعات قادرة على خلق فنانين رائعين، ولكن غياب الناقد الجيد عن المجتمع هو ما يعلي من شأن الفن الردئ على حساب الإبداع الحقيقي، وهو أحد مظاهر تخلف هذه المجتمعات، أخيرًا، فالنقد بذاته عملية فنية بقدر ما هي عملية أكاديمية، مما يطرح إشكاليات عدة عمن يحق له أن ينقد، وكيف يمكن فرز النقد الجيد من السيئ، لكن تلك مسألة أخرى.