يبدو مثيرًا للغضب أن نكتب في المنصات الإعلامية المستقلة مقالات تتساءل عن كيف يمكن للدول العربية إغاثة أهلنا الذين يتعرضون لإبادة جماعية في غزة، كيف يواجه الإخوة والجيران ما يتعرض له أهلهم من مذبحة لا تتوقف ليلًا أو نهارًا.
يبدو مثيرًا للغضب حقًّا أن نكون مضطرين أن نعيد تعريف معاني كانت عنوانًا للعرب قبل أن تكون مجرد تاريخ، قصة، أثر، نتداوله وقت الجراح. معاني الأخوَّة والمناصرة والتضامن، التي اضطررنا جميعًا الالتجاء بها إلى حكوماتنا صارخين: “أنقذوهم!”، لكننا أسمعنا إذ نادينا حيًّا. فكما أتت الحرب بأقبح الجرائم، أتت بأقبح وجوه السلطات العربية، صمتها، صمتها الذي ترك حتى أعرص مؤيديها للاستفهام باستغراب عن أسبابه.
فماذا بعد قصف أراضٍ مصرية ولبنانية وسورية، يخرج هؤلاء عن صمتهم؟
لكن ما حيلتنا سوى أن نوثِّق، نوثِّق للمجزرة ومن صمتوا لتمرير قتل أهالينا في القطاع المحاصر، وأن نواصل الصراخ في وجه العالم: “أنقذوهم، الآن!”.
20 شاحنة؟
بعد أيام من القتل وسنوات من الحصار والتجويع، احتفلت حسابات الأمم المتحدة على مواقع التواصل الاجتماعي بنجاح إدخال أول قافلة مساعدات ضرورية للقطاع، بعد موافقة وتفتيش “إسرائيل” التي تقصف وتقتل وتحاصر.
منذ بداية العدوان على غزة، فزعت المؤسسات الأهلية لدعم أشقائها، اصطفت شاحنات المساعدات بجانب معبر رفح، وبينما كان القطاع يستغيث من شدة القصف، كانت “إسرائيل” تمارس بلطجتها الإقليمية، وتمنع إدخال المساعدات من المعبر المصري.
ويعتبر معبر رفح البري شريان الحياة الوحيد لسكان غزة مع العالم، وكونه مع مصر يجعله المعبر الوحيد “نظريًّا” الذي لا تتحكم “إسرائيل” في إداراته، لكن واقع المعبر منذ الحسم العسكري عام 2007 وسيطرة حماس على إدارة القطاع، يؤكد أن “إسرائيل” شريكة بل صاحبة قرار في فتح المعبر وإغلاقه.
في تقريرها الصادر عام 2009 “من يحمل مفاتيح معبر رفح؟”، تذكر “چيشاة-مسلك”، وهي مؤسسة حقوق إنسان إسرائيلية معنية بالدفاع عن حرية التنقل، أنه “رغم عدم وجود قوات إسرائيلية على الحدود بين مصر وغزة بشكل دائم، تواصل “إسرائيل” ممارسة السيطرة العملية المباشرة وغير المباشرة على إمكانية فتح معبر رفح، وتستخدم هذه السيطرة للضغط على سكان غزة كجزء من سياسة العقوبات الجماعية، تسيطر “إسرائيل” على جميع المعابر الباقية في قطاع غزة وتغلقها، وهكذا تخلق تبعية لمعبر رفح كرابط وحيد بين القطاع والعالم الخارجي”.
وعلى مدار السنوات التالية لهذا التقرير، لم تثبت مصر إدارتها الفعلية لمعبر رفح سوى عام 2012، حين كانت هناك حكومة منتخبة لم تترك غزة وحدها تحت القصف، وأوفد رئيس الوزراء المصري للقطاع رفضًا لانفراد الاحتلال بأهل غزة، ويمكن ببساطة مراجعة المقطعَين لرؤية التبايُن، في موقف مصر الثورة ومصر التي لا يسمح لها الاحتلال بإدخال مياه نظيفة إلى غزة.
أخيرًا، وبعد أكثر من أسبوعَين من الاستغاثة، تمخّضت بيانات التوسل العربي عن “سماح” الاحتلال بدخول عدد من الشاحنات الأخرى، لا تحمل لترَ وقود واحدًا لمستشفيات القطاع التي انهارت منذ الأيام الأولى للحرب.
وكما يتضح بمجرد فتح البث المباشر لقناة “الجزيرة” في أي لحظة من اليوم، ومتابعتنا المجازر تلو الأخرى، فإن مناشدات فتح المعبر وإدخال المساعدات وإخراج المصابين تبقى سخيفة، في ظل صمت الدول العربية على استمرار القصف، إذ لم يدفع أي رد فعل عربي “إسرائيل” إلى وقف إطلاق النار ولو لساعة واحدة.
فما فائدة إدخال كم علبة دواء والقصف مستمر؟
متى نقاطع؟
بينما يشاهد المواطن العربي أهله يقصَفون في غزة، وتمطرهم الطائرات الأمريكية بالقنابل المحرّمة دوليًّا، وتعجز حكومته عن الدفاع عنهم، فإنه يطالب حتى ولو بالاعتراض الضميري من دولِه على المجازر بحقّ الفلسطينيين، ويتمنى إن كنا لا نستطيع حمايتهم فعلى الأقل نحاول استخدام ما في أيدينا لمنع ما يحدث من مصيبة.
وإذ يعقد مجلس الأمن جلسته المعنية بالنقاش حول الأوضاع في غزة، تقف المجموعة العربية عاجزةً حتى عن فرض حالة هدنة إنسانية أو وقف إطلاق النار، ويتلعثم الوزير المصري في كلمته وهو يترجَّى العالم أن ينقذوا غزة، وكأن بلاده، جيرانهم، لا تملك حدودًا طويلة ومعبرًا ومتطوعين وإغاثة تقف على أراضيها تنتظر إذن المحتل بالدخول.
نعم، نتفهّم كل الحديث عن المعاهدات وحق الدفاع عن النفس وضبط النفس والالتزام بمسارات الشرعية والقانون الدوليَّين، وكل تلك القواعد التي لا تطبَّق إلا علينا، لكن هل يبدو منطقيًّا لأحد أن ينفِّذ أطباء غزة عملياتهم على ضوء بطاريات الهاتف، ولننتظر حتى يجروها على الشموع قريبًا؟
أعلنت وزارة الداخلية في قطاع غزة، الثلاثاء، أن قصفا إسرائيليا شنته المقاتلات الإسرائيلية على منازل ومحلات تجارية في مدينة دير البلح “أدى لاستشهاد وإصابة عشرات الفلسطينيين”. ولليوم الـ 18 يواصل الجيش الإسرائيلي استهداف غزة بغارات جوية مكثفة دمّرت أحياء بكاملها، وقتلت أكثر من 5087 فلسطينيا، بينهم 2055 طفلا و1119 سيدة وأصابت 15273 شخصا، كما يوجد أكثر من 1500 مفقود تحت الأنقاض. وتم نقل جرحى أصيبوا في الهجمات على مدينة دير البلح وبينهم أطفال إلى مستشفى شهداء الأقصى. ( Ashraf Amra – وكالة الأناضول )
وهل من المقبول أن يضيء بترول العرب الغرب، بينما يقصف إخوتهم بتمويل ودعم وتيسير الغرب؟
وحقيقةً، يعلم الجميع أن من يطالبون بقطع البترول لا ينتظرون قطعه، بل مجرد التلويح والضغط باستخدام أي وسيلة تحاول منع الإبادة الجماعية المذاعة على الهواء مباشرة، ويتذكر الناس حين كان العرب رغم تبعيتهم للأمريكيين والإنجليز، إلا أنهم وقفوا جانب إخوتهم وقت السادس من أكتوبر ولم تقصف العواصم لذلك، بل خلَّد التاريخ تلك المواقف على ندرتها.
ولا تبدو المعادلة مقبولة أبدًا أن تمدَّ أمريكا كل الدعم المتاح على طاولتها لـ”إسرائيل”، حتى لو وصل الأمر إلى إرسال جنود دلتا للمشاركة في العملية البرّية التي تخشاها “إسرائيل”، وفي الجهة الأخرى من الطاولة لم تحرك أي دولة عربية ملفًّا استراتيجيًّا واحدًا تملكه للضغط على أي من الحلفاء، لوقف إطلاق النار وإلجام الغطرسة الإسرائيلية.
حين غزت روسيا أوكرانيا هرع كل الغرب لإعلان العقوبات الاقتصادية والمقاطعة وإلغاء العقود، حتى أن بعض الجامعات توقفت عن تدريس مناهج الأدب الروسي، بينما لم نرَ موقفًا رسميًّا وحيدًا لإعلان مقاطعة للاحتلال وداعميه، رغم أن تبعات موقف كهذا لا يساوي إصبع طفل من غزة، فما قيمة ألا نتحكم فيما نأكل ونشرب ونلبس؟
وما معنى الدبلوماسية؟
من غير الخفي أن السفارات الأمريكية في المنطقة هي من تنسّق إدخال كل هذا الدعم العسكري لـ”إسرائيل”، وتدعم قرارات الاحتلال في المحيط الإقليمي، دون أن تستدعي دولة عربية سفير أمريكا وتحتجّ وتطلب وقف دعم المذبحة المستمرة بحقّ الفلسطينيين.
فما معنى الدبلوماسية إذًا؟ ما قيمتها في أي ميزان، ما قيمتها ودول التطبيع العربي لم تقطع علاقتها بـ”إسرائيل”، بل حتى لم تستدعِ سفراءها من باب حفظ ماء الوجه أمام نفسها وشعوبها، فأي دبلوماسية هذه تلك التي لا تستطيع من خلالها أن تعبّر عن غضبك؟
في يونيو/ حزيران 2017، قطعت 4 دول عربية علاقاتها الدبلوماسية والسياسية والتجارية مع دولة قطر، إثر بيان تلفزيوني مفبرك لتميم بن حمد أمير البلاد، حيث السعودية التي كانت تمدّ قطر بالمواد الغذائية عبر الحدود المشتركة ألغت تلك الاتفاقات، وأغلقت حدودها ومجالها الجوي أمام الطيران، وطلبت الإمارات مغادرة المواطنين القطريين أراضيها، رغم الارتباطات العائلية المتجذرة بين مواطني البلدَين الأشقاء.
لاحقًا في عام 2021 تصالح الأشقاء، بعد سنوات من التراشق الإعلامي والحصار على وقع وصول رئيس جديد لأمريكا، فضّل أن ينهي هذه الأزمة الغريبة التي استنفدت موارد البلدَين، واليوم يقتل أكثر من 3 آلاف سيدة وطفل في غزة، ولا تزال 7 دول عربية تربطها علاقات دبلوماسية بالاحتلال، لم تقم دولة واحدة منها باستدعاء حتى سفرائها احتجاجًا على المجازر.
هل تدمير أكثر من 200 ألف وحدة سكنية في قطاع غزة، وانهيار كل شيء في القطاع خلال أسبوعَين، لا يستدعي ما استدعاه خطاب مفبرك؟
ألا يخجل زعماء أمتنا أن يكون موقف كولومبيا أقوى من الدبلوماسية العربية كلها؟ أن يكون موقف وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية إيوني بيلارا، أكثر دفاعًا عن ضحايا غزة من البيانات الصادرة من أغلب العواصم العربية؟ إذ اعتبرت الوزيرة أن ما تقوم به “إسرائيل” في القطاع يمكن أن يمثل “جريمة حرب وإبادة جماعية”، وهو الوصف الذي لم يقترب منه سوى عدد يقارب أصابع اليد الواحدة للسياسيين العرب، منهم حسام زملط سفير فلسطين في بريطانيا.
غزة الوحيدة
يدوس الغرب يوميًّا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول على كل مبدأ إنساني يحمي أهلنا في غزة، تتقاطر طائرات الدعم تحمل السلاح والرؤساء، ولا يتوقف الدعم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي، دون كلمة واحدة تصون حرمة الإنسان الغزّي.
رئيس وزراء بريطانيا لم يسأل نتنياهو عن إجراءات حماية المدنيين، رئيس فرنسا بعد 17 يومًا من القصف المتواصل على القطاع، لم تتضمن بياناته الإعلامية فور وصوله تل أبيب أي تلميح لحثّ “إسرائيل” حتى تجنُّب قتل مدنيي غزة، أو حتى إعادة الكهرباء لمستشفياتها.
كأنه لم يقتل في العدوان أكثر من 6 آلاف شهيد، ويتصاعد الرقم كل ساعة، وكأنه لا حق إلا ما تمارسه “إسرائيل”، ولا قيمة إلا لأمان لشعبها، ولا جريمة إلا ما حدث في السابع من أكتوبر، وفي سبيل الردّ على ذلك يخوض القطاع وحيدًا معركة كرامة ضد التطبيع مع استعمارنا وامتهان كرامتنا، وألا تكون دماؤنا رخيصة ومطالبنا بالحرية والعدالة محققة، وسيادتنا على أراضينا كاملة ومصانة.
فالدفاع عن غزة ونصرتها نصرة لكل دماء غالية سالت في أوطاننا للحرية، هو دفاع عن كل شبر في أرضنا، هو الصرخة الوحيدة الباقية: “لن تستعمرونا”، وتدفع من أرواح شعبها أغلى الضرائب لحماية كل مدينة عربية، قبل أن تكتب شهادة وفاة هذه الأمة، فسقوط غزة لا يعني سوى انهيار حصن الأمة الأخير وخط دفاعها الباقي.
ومن يتغابى متخيّلًا أن القضية لا تعنيه ولا تؤثر على مستقبله، عليه فقط أن يرى صورة ضباط الجيش الإسرائيلي وهم يتولون مهمة تفتيش المواد الطبية الداخلة إلى غزة من الأراضي المصرية، أو تعليق إيدي كوهين على قصف غزة، فإن بيروت هي القادمة، وعاجلًا غير آجل سيتيقظ الزعماء العرب على خيبة رهانهم على “إسرائيل” لحماية كراسيهم.
في مايو/ أيار 2010، صرّح وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي، بنيامين ين إليعيزر، في أعقاب الزيارة التي قام بها إلى مصر برفقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ولقائه بالرئيس المصري، أن “حسني مبارك بمثابة كنز استراتيجي بالنسبة إلى “إسرائيل”، وسيبذل كل ما بوسعه من أجل دفع عملية التسوية في الشرق الأوسط”، نعرف جميعًا بقية القصة، أشهر قليلة وكان الملايين يهتفون “الشعب يريد إسقاط النظام”.
وفي أثناء ما يبدو أن الزعماء العرب قلقون على كراسيهم من الغرب دون شعوبهم، تناسوا فقدان الثقة الذي تخلفه حالة الصمت المطبق حتى الخيانة هذه، فلا ثقة في حاكم يقتَل إخوته وجيرانه قصفًا ولا يحرك ساكنًا، فالشعوب باقية ولا تنسى.