“الهجمات التي شنتها حماس في السابع من أكتوبر هي هجمات بربرية وشنيعة، ونطالبها بالإطلاق الفوري وغير المشروط لسراح الرهائن لحقن الدماء وتجنيب جميع المدنيين المزيد من الويلات”، بهذه الكلمات، وعلى مرأى ومسمع من العالم، هاجمت وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي الإماراتية، ريم الهاشمي، في كلمتها خلال جلسة مجلس الأمن الدولي، التي عقدت أمس الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول، حركة المقاومة الإسلامية، حماس، مشددة على أن بلادها تدينها بشدة.
ويتماهى الخطاب الإماراتي، سياسيًا وإعلاميًا، مع الخطاب الإسرائيلي بشكل كبير، مرتكزًا على تحميل المقاومة مسؤولية ما حدث، والعمل على شيطنتها، وغض الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال التي أوقعت حتى صباح اليوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أكثر من 6 آلاف شهيد، 70% منهم من الأطفال والنساء وكبار السن، مبررة ذلك بحق دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها.
لم يكن الموقف الإماراتي مستغربًا، فالدولة الخليجية تتسق تمامًا مع نفسها إزاء تقاربها مع دولة الاحتلال، فهي عرابة التطبيع في المنطقة، والباب الأكثر اتساعًا لتمدد الاحتلال إقليميًا، كما أنها لعبت دورًا كبيرًا في توسيع دائرة التقارب العربي الإسرائيلي، مستغلة في ذلك نفوذها السياسي والمالي.
غير أن تجاهل المجازر وحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، التي لم يعرفها العالم منذ عقود طويلة، بل وتبني الرواية الإسرائيلية في شيطنة المقاومة، والإصرار على ارتكاب تلك الجرائم حتى تحقيق أهدافها، تطور يقفز بالإمارات إلى آفاق غير مسبوقة من الانبطاح والخذلان.
دعم كامل للاحتلال
منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في عمق دولة الاحتلال في السابع من الشهر الحاليّ، وأحدثت شروخات غائرة في جدار الكبرياء العسكري والسياسي المزعوم للمحتل، تبنت الإمارات موقفًا داعمًا لتل أبيب بشكل كبير.
ففي اليوم التالي للعملية، 8 أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت الخارجية الإماراتية بيانًا وصفت فيه هجمات المقاومة بأنها “تشكل تصعيدًا خطيرًا وجسيمًا”، على عكس معظم بيانات البلدان العربية والإسلامية التي حملت الاحتلال مسؤولية تفاقم الوضع، معربة عن “تعازيها لأسر الضحايا الإسرائليين”، مؤكدة في الوقت ذاته على ضرورة “أن ينعم المدنيون من كلا الجانبين بالحماية الكاملة بموجب القانون الإنساني الدولي، وضرورة ألا يكونوا هدفًا للصراع”.
البيان أوضح أن وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان أجرى اتصالات هاتفية مع وزراء خارجية السعودية وقطر والبحرين وعمان ومصر والأردن والمغرب وتركيا وفرنسا، وأكد خلالها أهمية تكثيف الجهود لوقف “التصعيد الخطير”، في مساعي تهدف في المقام الأول لدعم دولة الاحتلال في مواجهة الطوفان الحمساوي الذي أربك حسابات أبو ظبي وحليفها.
وفي العاشر من الشهر ذاته نفى وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، ثاني الزيودي، أن يكون لطوفان الأقصى وما أعقبها من تطورات أي تأثير على العلاقات التجارية بين تل أبيب وأبو ظبي، مؤكدًا أنه “لا نخلط التجارة مع السياسة”، في الوقت الذي اهتزت فيه شوارع المدن العربية والإسلامية التي تطالب بمقاطعة العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال وتجميد العلاقات الدبلوماسية، كخطوة ضاغطة عليها في ظل حرب الإبادة التي تشنها بحق الفلسطينيين.
وفي منتصف أكتوبر الحاليّ كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلًا عن البنتاغون استضافة قاعدة الظفرة الجوية (32 كيلومترًا جنوب أبو ظبي) سربًا أمريكيًا من طائرات A-10 لدعم جيش الاحتلال ولردع أي محاولة لدعم المقاومة من القوى الإقليمية، كما تحولت تلك القاعدة التي استخدمتها أمريكا قبل ذلك في ضرب طالبان في أفغانستان وداعش في العراق إلى نقطة ارتكاز أساسية للولايات المتحدة لخدمة أجندتها في المنطقة، وهي الأخبار التي نفتها وزارة الدفاع الإماراتية، قائلة في بيان لها إن وجود الطائرات الأمريكية ليس بهدف دعم تل أبيب، لكنه وفق جدول زمني محدد مسبقًا في إطار التعاون الأمني بين البلدين.
ثم عاودت أبو ظبي هجومها مجددًا على حماس في السابع عشر من الشهر، حين اعتبرت المندوبة الدائمة بالأمم المتحدة لدولة الإمارات، لانا نسيبة، أن “حركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولا سكان غزة الذين يعانون أشد المعاناة”، مشددة على ضرورة إطلاق الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة “من دون قيد أو شرط”، بحسب تعبيرها.
وأضافت المندوبة الإماراتية خلال كلمتها في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن من أجل التوافق حول المشروع المقدم من روسيا لوقف إطلاق النار في غزة لاعتبارات إنسانية بعدما وصلت الأوضاع هناك إلى مستوى كارثي، “هجوم حماس على إسرائيل لا يمكن تبريره”، منوهة أن قطاع غزة كان قبل عملية المقاومة “من أكثر الأماكن مأساوية حول العالم”، وتابعت “جميع أعضاء مجلس الأمن أدانوا القتل العشوائي للمدنيين الإسرائيليين الأبرياء، واحتجاز 199 منهم كرهائن، بما فيهم الأطفال”.
شذوذ عن السرب
كعادة الإمارات في الآونة الأخيرة فهي تميل أكثر نحو الشذوذ عن المجموع، والتغريد خارج السرب، حتى في القضايا التي تصنف على أنها “قضايا قومية خالصة” وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي يصفها الكثيرون بأنها “قضية العرب الأم”، حيث جاءت مقارباتها متناقضة تمامًا مع المقاربة العربية في مجملها.
تتخذ أبو ظبي من الميكافيللية جسرًا كبيرًا للعبور نحو أهداف التوسع والتمدد الإقليمي والدولي، وتتعامل مع كل الملفات والقضايا بمنطق برغماتي بحت، لا يضع في الحسبان أي اعتبارات سياسية أو أمنية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية للأشقاء العرب والمسلمين.
معظم الدول العربية والإسلامية حاولت التزام المسار الرافض للإجرام الإسرائيلي الوحشي بحق الفلسطينيين، حتى أصحاب المواقف الرمادية ممن اكتفوا ببيانات الشجب والإدانة دون إجراءات فعلية على الأرض، لم يدعموا بأي حال من الأحوال السردية الإسرائيلية في التعاطي مع الأزمة الحاليّة.
وتجنبت مصر والسعودية وتونس وليبيا ولبنان والجزائر والعراق، فضلًا عن قطر وتركيا وإيران، الهجوم على حماس والمقاومة، محملين جرائم الاحتلال على مدار السنوات الأخيرة مسؤولية ما وصل إليه الوضع المتفاقم حاليًا، حتى إدانة الهجوم على المدنيين بشكل عام جاء في صياغة دبلوماسية فضفاضة، إلا أبو ظبي التي تبنت موقفًا متشددًا عكس عقارب الساعة، بداية من اعتبار ما فعلته حماس بالتصعيد الخطير، وصولًا لوصفها بـ”البربرية والوحشية”.
خذلان عربي فاضح
يتوهم أبناء زايد كغيرهم من الحكام العرب أن صك الاستمرار في كراسيهم مرهون بالرضا السامي الأمريكي، الذي لا يمكن الحصول عليه إلا بالختم الإسرائيلي، وعليه جاءت المواقف كلها منبطحة، لا تعدو كونها تصريحات عنترية وهلامية لامتصاص غضب الشارع العربي دون أي تحرك ملموس يوقف شلالات الدماء المتدفقة في قطاع غزة.
كشفت الجهود الدبلوماسية التي قامت بها بعض العواصم العربية منذ الحرب على غزة عن ضعف الخطاب العربي الداعم للقضية الفلسطينية، مقارنة بالخطاب الغربي المتشدد والمتطرف في دعمه للكيان المحتل، مكتفيًا بعبارات المناشدات والمطالبات وربما التحذيرات على مضض، فيما لا يتوانى الطرف الآخر عن تقديم كل أوجه الدعم العسكري والسياسي واللوجستي لجيش الاحتلال في معركته التي يخوضها ضد المقاومة.
عشرات التساؤلات فرضت نفسها على ألسنة رجل الشارع العربي بشأن الموقف المتخاذل عربيًا، وعدم الاستجابة لصرخات الأطفال والثكالى والعجزة في ظل مشاهد دامية تتعرض لها الشعوب والأنظمة التي تكتفي بالبكاء وربما الدعاء فيما غاب الفعل عن المشهد بصورة كاملة.
كشفت الأحداث في غزة عن هشاشة الجدار العربي، وانبطاح الأنظمة، واستبعاد التعويل على الموقف العربي من قائمة خيارات المقاومة والقضية الفلسطينية برمتها، ليوقن الفلسطينيون أنهم وحدهم من يعول عليهم في الميدان للدفاع عن قضية العرب الأولى بعدما أدار الجميع ظهره حفاظًا على كراسيه ومناصبه.