هل كنا نشاهد الصورة مقلوبة منذ انطلاق الجهاد الفلسطيني، ولذلك كنا ننتظر لقاء الأنظمة العربية مع المقاومة بكل مراحلها وقيادتها، وكنا ننتظر دومًا أن تنجد الأنظمة المستقرة في كراسيها المقاومة بالمال والسلاح والموقف السياسي في ساحات السياسة الدولية؟ هل كنا ننتظر اللقاء في غير مكان الميعاد؟
أجد في حرب الطوفان أن الأنظمة وشعوبها هي التي تحتاج المقاومة لا العكس، ولذلك أعيد الصورة إلى وضعها الطبيعي، وأقول المقاومة تنصر الشعوب وتوفر فرص قوة للأنظمة لتناور وتنقذ نفسها من الضغط الدولي المسلّط على كل نظام على حدة وعليها مجتمعة. المقاومة تعطي لهذه الأنظمة اعتبارًا في الساحات، ولكن..
“لكن” في الحديث تحبط المتكلم
لا أخوض هنا في تفاصيل وصول هذه الأنظمة إلى السلطة وتملُّكها للقوة، هذا بحث تاريخي يطول، وقد قيل فيه ما لا مزيد عليه، لكن تحت وهج القصف اليومي نتذكر أن ما من نظام عربي إلا وقد بذل جهدًا جبّارًا لإخضاع المقاومة منذ نشأتها لمصلحته السياسية، وناور بحاجة المقاومة للدعم ليتخذها ورقة تفاوض يضمن بها عرشه (والاختلاف بينهما في الدرجة لا في المبدأ).
لقد فاتنا أن ننتبه في حينه إلى جملة عرفات التي لا تفارق لسانه عن استقلال القرار الفلسطيني، لقد كان ينقذ قضيته وشعبه من الاستعمال الغبي للقضية لمصلحة هذا النظام أو ذلك.
الآن نرى أن ذلك التجيير كان من غباء الأنظمة والزعامات قصيرة النظر، كان هناك وضع أفضل للتعامل مع المقاومة (بكل مراحلها) يعود بالنفع على القضية وعلى الأنظمة بالضرورة، وهو الوضع الذي تدفع به الأنظمة المقاومة نحو حدود الوطن، وتحويلها إلى خطر دائم على العدو المشترك، بما يمكّن هؤلاء من هوامش مناورة، ولمَ لا ابتزاز العدو وإجباره على التنازلات المتتالية التي تكون ثمرتها الأولى للمقاوم الفلسطيني، إذ تقربه كل يوم من وطنه وتكون نتيجتها الثانية للأنظمة، إذ تمنحها مكانة فعّالة في محيطها لا يمكن تجاوزها.
لقد كان يجري العكس على الأرض، ولسان حال كل نظام عربي يقول للفلسطيني: “تعال أضعك في جيب معطفي وأحدد حركتك على هواي ومصلحتي”، وكان هذا يكسر يد المقاوم فيعيقه، لكن النظام العربي لم يكن ينتبه إلى أن هذه الورقة الخطرة تفقد قيمتها إذا وُضعت في جيب المعطف.
كان كل نظام عربي يقول لغارسي الكيان في صدر الأمة: “أنا أكفيك الفلسطيني فأعطني فرصة لأبقى في مكاني”، وهكذا تحولت الأنظمة إلى حرّاس للكيان تعيش من بقائه ومن كسر ذراع الفلسطيني. لقد كانت الصورة الأخرى ممكنة، لكن النظام العربي بكل مسمياته القطرية فرط في عنصر قوته، وحتى لحظة “طوفان الأقصى” ما زال يتحرك مناورًا بالفلسطيني لا مناورًا معه، والفرق بيّن.
“طوفان الأقصى” يعطي فرصة للتدارك والتصحيح
الشعوب العربية تتقبّل حكامها وتتغافل عن فظاعتها بحقهم كلما قاموا بحركة فعّالة ضد العدو، وهذه شرعية حكم تأتي من فلسطين للأنظمة. مَن يحمي مَن هنا؟ المقاومة هي من تحمي الأنظمة من شعوبها بتوفير شرعية، لكن لحظة قلب الأنظمة لهذه الشرعية الشعبية (التي تتنازل حتى عن حقها في الحرية من أجل فلسطين) لم تأتِ.
النظام العربي يعيش دومًا بعدم شرعيته، لذلك يرى ضعفه أمام الضغوط الدولية من رعاة الكيان الغربيين بكل مسمياتهم، وعوض أن يحتمي بشعبه عبر دعم المقاومة، فإنه يخون المقاومة والقضية برمّتها، فيخون شعبه ويفقد المزيد من الشرعية.
دائرة لولبية مغلقة، المزيد من خيانة القضية يجلب المزيد من الإسناد الغربي للنظام، فيبتعد عن شعبه وعن قضيته وتتآكل شرعيته فيمعن في العنف في الداخل، فيتحول ذلك إلى ورقة ضغط عليه فيضعف أكثر فيخون أكثر ولا تنكسر الدائرة، ولذلك يتحول النظام العربي كل يوم إلى بوّاب على حدود الكيان، وإن لم يكن من الجوار الجغرافي، ويكون في الأثناء قد خسر ورقة المقاومة.
الطوفان يعيد تعريف الشرعية السياسية
لقد غفر العرب لصدام حسين كل الفظاعة التي ارتكبها بحقّ شعبه، عندما أطلق الصواريخ على الكيان، وهو الآن يعيش بطلًا في الذاكرة الجمعية، ويستعيد الناس صوره وكلماته بحقّ المقاومة.
هذا الغفران الشعبي يصل إلى كل من يساعد المقاومة، فيتغاضى عن زلاته، لذلك نقول إن المقاومة تعطي شرعية للأنظمة فتثبت كراسيها بين شعوبها، ومعركة الطوفان تعرض في هذه اللحظة على الأنظمة ورقة شرعيتها بأرواحها ودماء أطفالها.
ونجزم أن دفع جرّافة تكسر بوابة معبر رفح في هذه اللحظة قادرة أن تضمن للسيسي مدة رئاسية مريحة، لن يقوم فيها الشارع المصري ضده وقد تمنحه بطولة تاريخية. أليس هذا عرضًا مغريًا للمغامرة؟ أليست المقاومة هنا هي التي تتفضّل على الأنظمة بفرص تاريخية؟ أليست الأنظمة هي التي تحتاج إلى المقاومة لا العكس؟ هنا تعود الصورة إلى وضعها الطبيعي، وهذه بركة معركة الطوفان على الوعي السياسي العربي.
يستعيد المؤرخ التونسي، البروفسور محمد ضيف الله، وقائع جرت بعد نكبة 48، فيجد أن كل الأنظمة التي خسرت تلك المعركة قد سقطت تحت ضغط شعبي التقفته قوى جديدة شرّعت وجودها بنصرة فلسطين (سوريا مصر العراق). كان استدراكًا غير جدّي انكشف لاحقًا، لكن المبدأ التاريخي لا يزال ماثلًا: شرعية البقاء السياسي في الأقطار مرهونة بتبنّي القضية ودعمها. مرة أخرى تظهر المقاومة هي صاحبة الفضل على الأنظمة لا العكس.
معركة الطوفان تقول للأنظمة إن التطبيع الحقيقي هو التطبيع مع الشعوب، وهي السند الحقيقي لكل نظام في قطره، وكم تحمّلت الشعوب المقهورة من أجل فلسطين، ونراها قادرة على المزيد لأن بوصلتها سليمة وتشير إلى القدس بلا نفاق.
هل تحدث معجزة وتنقلب مواقف الأنظمة من تجيير المقاومة لحساباتها القطرية إلى السير خلفها نحو القدس؟ لقد قلبت الشعوب الصورة المقلوبة، فهي ترى الوجه الصواب ولن يكون ذلك دون نتيجة في المدى المنظور. هو طوفان وقد انطلق ونراه يجرّ الأنظمة إلى بداية جديدة أو نهاية وبيلة. ليبارك كل نظام بندقية المقاتل الفلسطيني، فهي تحميه حتى الآن، فإن لم يلتقط الفرصة/ الإشارة فلن يأسى على سقوطه أحد. سنن التاريخ.