اللجوء إلى القوة وحدها في حروب العقود الأخيرة لا يعتبر كافيًا لتحقيق النصر على العدو، فقد تعزز دور الدعاية، إذ أصبحت سلاحًا مهمًا ضد الخضم وأداةً ضروريةً لتعزيز المجهود الحربي، ما يفسّر اهتمام أغلب الدول والكيانات بها.
يظهر هذا الأمر جليًا في الحروب الإسرائيلية المتتالية ضد الفلسطينيين، وخاصة حربهم الأخيرة ضد قطاع غزة، فقد لجأت حكومة الاحتلال للدعاية لتبرير عدوانها الهمجي على غزة والحصول على الدعم الدولي لمواصلة جرائمها ضد المدنيين العزل.
نجحت دولة الاحتلال في حشد دعم قادة الغرب وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي ظل يردد أكاذيب كيان الاحتلال ومزاعمه، لكن يبدو أن كيان الاحتلال لم يحسب قوة المقاومة الفلسطينية الإعلامية، فبمجهود بسيط وصادق أسقطت كل دعايتهم.
الدعاية الإسرائيلية
يعتمد الإسرائيليون كثيرًا في حربهم ضد الفلسطينيين على الدعاية سواء الموجهة إلى الداخل أم الخارج، لتسجيل نقاط في المعركة، خاصة في ظل عدم قدرتهم على حسم المعركة عسكريًا لصالحهم وتمكن المقاومة من تكبدهم خسائر كبيرة.
تعتمد البروباغندا العبرية على تلميع جنودها وإظهار قوتهم وسيطرتهم على أرض المعركة، فضلًا عن تشويه الفلسطينيين وبالأخص المقاومة وإظهارها في ثوب الظالم والمعتدي على أمنهم وأن ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية ما هو إلا دفاع عن النفس.
ترتكز الدعاية الإسرائيلية على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد ساعدها في ذلك تماهي رئيس شركة ميتا، مارك زوكربيرغ، مع الروايات الإسرائيلية، فأصبح كل من فيسبوك وإنستغرام أشبه بغرف تابعة للدعاية الإسرائيلية.
ضمن الدعاية الموجهة إلى الخارج، نشرت كتائب القسام قبل يومين مقطع فيديو للإفراج عن أسيرتين إسرائيليتين لديها
قام زوكربيرغ بتقييد وصول المنشورات المؤيدة للفلسطينيين في موقعي فيسبوك وإنستغرام، من خلال حجبها أو إزالتها، رغم أنها لا تنتهك قواعد هذه المنصات، وتمنع ميتا حاليًّا نشر أي رسائل دعم للفلسطينيين، الذين تنتهك “إسرائيل” كرامتهم.
في المقابل سمحت هذه المنصات للكيان الإسرائيلي بنشر روايته عن الحرب على غزة، ودعم المنشورات التي تتبنى هذه الروايات، لتشويه المقاومة الفلسطينية وتبرير جرائم الحرب التي يرتكبها كيان الاحتلال الصهيوني.
ولم تقتصر الدعاية الإسرائيلية على الإعلام العبري، وإنما انضمت للجوقة العديد من الوسائل الإعلامية الأجنبية الناطقة باللغتين الإنجليزية والفرنسية والعربية أيضًا، فضلًا عن بعض اللغات الأخرى لمخاطبة أكبر عدد من الجمهور.
جند كيان الاحتلال العديد من المؤسسات الإعلامية للعمل لصالحه، مثلًا امتهنت صحيفة “بيلد”، وهي الصحيفة الأكثر شعبية في ألمانيا، نشر الأكاذيب الإسرائيلية المتعلقة بالحرب على غزة، مثال ذلك تبنيها الرواية الإسرائيلية المتعلقة باستهداف مستشفى العربي الأهلي المعمداني الذي أسفر عن استشهاد نحو 500 فلسطيني بينهم أطفال.
ليس هذا فحسب، إنما قدمت تبريرًا صريحًا لقتل المدنيين بفلسطين، إذ استندت لروايات إسرائيلية تقول إن المدنيين من نساء وشيوخ وأطفال في غزة، شاركوا في عملية حماس على غلاف القطاع، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، حسب مزاعمها.
كما أفردت مؤسسات أخرى العديد من المقالات والتحليلات لدعم الرواية الإسرائيلية بشكل منحاز لكيان الاحتلال، وتم وصف الفلسطينيين بالإرهابيين، والتشكيك في عدد الشهداء وطريقة استشهادهم، فضلًا عن التهجم على المنظمات والمؤسسات والشخصيات التي دعمت الفلسطينيين ونددت بالعدوان الصهيوني.
من الأكاذيب التي تبناها الإعلام الغربي ورددها القادة، زعمهم تنفيذ أفراد كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عمليات ذبح لأطفال ورضع إسرائيليين خلال الهجوم على مستوطنات غلاف غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ.
وحمل تقرير لـ”ديلي ميل” عنوان: “إرهابيو حماس قطعوا رؤوس الأطفال خلال مذبحة كيبوتس حيث قُتل 40 طفلًا صغيرًا”، فيما جاء عنوان مقال منشور على موقع “نيويورك بوست”: “حماس تقتل 40 من الرضع والأطفال وتقطع رؤوس بعضهم”.
ضمن نفس الأكاذيب أيضًا، زعم الإعلام الغربي تعرّض نساء للاغتصاب خلال هجوم حماس، وجاء مقال لـ”نيوزويك”، تحت عنوان “التقارير تُفيد بأن حماس تستخدم الاغتصاب سلاحًا في الحرب، أين النسويات؟”، لكن المستوطنات أنفسهن نفين ذلك.
قدرة المقاومة على نسف الدعاية الإسرائيلية
قديمًا كان الإسرائيليون يلعبون في هذا الميدان وحدهم، فلا منافس لهم، لكن المقاومة في السنوات الأخيرة تفطنت إلى هذه النقطة وأعدّت لها كثيرًا، ما مكنها من تحقيق اختراقات عديدة مهمة في هذا الخصوص وصد الدعاية الإسرائيلية.
تطور الوعي الدعائي للفلسطينيين، خاصة المقاومة في قطاع غزة، ما جعل الاحتلال الإسرائيلي غير متحكم بساحة المعركة، وأصبحت المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة تركز في خطابها على الدعاية الخارجية أيضًا.
خرجت الأسيرة للعلن وقصت للجميع كيفية معاملة الفلسطينيين لها، وظهر زيف ادعاءات آلة الدعاية الإسرائيلية
ضمن الدعاية الموجهة إلى الخارج، نشرت كتائب القسام قبل يومين مقطع فيديو للإفراج عن أسيرتين إسرائيليتين لديها، وكان من اللافت في مشهد التسليم أن إحداهما أصرت على أن تحيي عناصر المقاومة، وقد انتشر هذا الفيديو على نطاق واسع، وأثبت للعالم أجمع كيفية تعامل المقاومة الفلسطينية مع الأسرى.
بعد الإفراج عنها لدواع إنسانية ومرضية، قالت المسنة الإسرائيلية و يوخفد ليفشيتز (85 عامًا)، أمس الإثنين، إنها ومن معها من الأسرى تلقوا معاملة جيدة من مقاتلي حركة حماس الذين كانوا ودودين معهم، واهتموا باحتياجاتهم ووفروا لهم الرعاية الطبية اللازمة.
وكشفت المسنة الإسرائيلية في مؤتمر صحفي، أن عناصر المقاومة الفلسطينية الذين احتجزوها وأسرى آخرين طمأنوهم بأنهم لن يلحقوا بهم أي أذى، ووفروا لهم احتياجاتهم خلال فترة احتجازهم، وقالت: “قالوا لنا إنهم يؤمنون بالقرآن، وإنهم لن يؤذونا، وسيعاملوننا كما يعاملون من حولهم”.
أكدت ليفشيتز أن مقاتلي حماس كانوا ودودين مع الأسرى وحريصين على تفاصيل دوائهم ونظافتهم، وفي المقابل انتقدت الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيليين وقالت “إن نقص كفاءة الجيش والشاباك أضر بنا كثيرًا، لقد كنا كبش فداء للحكومة”.
مقطع فيديو قصير مدته دقيقة واحدة، نشرته كتائب القسام، كان كفيلًا بهدم ما بناه الإسرائيليون وزلزلة صورتهم، ذلك أن الدعاية لا تطلب المال فقط وإنما الصدق وحسن التدبير، فالمقاومة الفلسطينية عاملت الأسرى بإحسان، وراعت حفظ كرامتهم وعدم التنكيل بهم، عكس ممارسات الاحتلال.
خرجت الأسيرة للعلن وقصت للجميع كيفية معاملة الفلسطينيين لها، وظهر زيف ادعاءات آلة الدعاية الإسرائيلية التي عملت على تشويه المقاومة لحصد الدعم الدولي وتشكيل الرأي العام العالمي وفق الرؤية التي توافقها.
الدعاية المضادة
كان ظن الإسرائيليين أن حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية لا يمتلكون إلا بعض الصواريخ البدائية، لكنهم أخطأوا التقدير، ففضلًا عن التكتيكات العسكرية الكبيرة التي مارستها خلال هجومها الأخيرة، تمتلك المقاومة أيضًا آلة دعائية ناجحة.
في عملية طوفان الأقصى الأخيرة، استغلت المقاومة الفلسطينية اقتحام المستوطنات وأسر العديد من المستوطنين لإرباك الجبهة الداخلية في كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتعزيز الروح المعنوية للفلسطينيين وتعبئتها بالخطاب المقاوم، كما استغلت الضربات الصاروخية الموجهة للاحتلال.
بثت كتائب عز الدين القسام مشاهد لاقتحام المستوطنات الإسرائيلية، وتظهر المشاهد عناصر من المقاومة وهم يستخدمون دراجات مزودة بمروحيات ومظلات لعبور حدود قطاع غزة جوًا، قبل أن يصلوا إلى المواقع العسكرية الإسرائيلية، ويشتبكون مع جنود الاحتلال، ويقتلون عددًا كبيرًا منهم ويأسرون العشرات.
من أهداف التصريحات المتتالية لقادة المقاومة، التأثير في الرأي العام العالمي، والجبهة الداخلية للاحتلال
كما نشرت كتائب القسام مقطع فيديو لما يبدو أنه مناورات سابقة، وجهت فيه رسالة بالعبرية إلى القوات الإسرائيلية البرية قائلة: “هذا ما ينتظركم عند دخولكم غزة”، وأظهر مقطع الفيديو الذي نشرته القسام مناورات تظهر الاستعدادات والقدرات العالية لدى مقاتلي حماس حيث ظهروا وهم ينقضون على آليات عسكرية ويأسرون من فيها، باستخدامهم مهارات عسكرية عالية.
ضمن الآلة الدعاية للمقاومة، تحضر أيضًا التصريحات السياسية والعسكرية، وهي أصناف أبدعت فيها المقاومة في الحرب الأخيرة، فمن خلال سلسلة الإطلالات الإعلامية لبعض قياداتها، وخاصة أبو عبيدة ومحمد الضيف، تمكنت المقاومة من الحفاظ على المعنويات المرتفعة للفلسطينيين والاحتفاظ بثقة الشعوب العربية التي حصّلتها الكتائب في تاريخها النضالي ودعمها أيضًا، ويظهر ذلك من خلال المتابعة الكبيرة لتصريحات هذا الثنائي.
من أهداف التصريحات المتتالية لقادة المقاومة، التأثير في الرأي العام العالمي، والجبهة الداخلية للاحتلال، وإرباك حسابات مؤسسته السياسية والعسكرية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد ما وقد رأينا المظاهرات في مختلف أنحاء العام الداعمة للفلسطينيين والمنددة بالعدوان الصهيوني على غزة.
في هذه الحرب أيضًا، تعمدت المقاومة الفلسطينية نشر فيديوهات للأسرى الإسرائيلية وهم يتلقون العلاج، من ذلك الفيديو للأسيرة ميا شيم وهي تتلقى العلاج لدى كتائب القسام، كما بثّت المقاومة كيفية تعاملها مع من وجدتهم من الأطفال في أثناء عملية طوفان الأقصى.
لم تعد المقاومة تقتصر على الدعاية المضادة فقط، وإنما أصبحت تمارس الدعاية أيضًا لما لها من تأثير سيكولوجي كبير عدوها وعلى تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تتسم بالخوف الكبير، فضلًا عن تعزيز حضورها ميدانيًا.