على بعد 60 كلم من العاصمة تونس، تقع مدينة نابل التي تتحول طيلة فصل الربيع إلى ما يشبه خلية نحل كبرى، ومحطّ أنظار التونسيين والأجانب وقبلتهم للاستمتاع بموسم تقطير ماء زهر شجرة النارنج وماء الورد والعطرشاء التي تتميز به المنطقة.
تقليد سنوي يجمع مئات العائلات
رغم وجودها في عديد المناطق من تونس، إلا أنها اشتهرت بمحافظة نابل (65 كلم جنوب العاصمة تونس)، شجرة النارنج التي تزدان بحلول فصل الربيع بأزهار بيضاء اللون فواحة الرائحة، معلنة عن انطلاق موسم تقطير الزهر، وهي عملية تحويل الزهر عبر تبخيره إلى ماء، في تقليد سنوي يجمع مئات العائلات.
شجرة النارنج لها لون اقرب للبرتقالي وطعم حمضي مثل الليمون
من هذه الشجرة الزكيّة، تستخرج من زهرتها أجود أنواع العطور في العالم، وتحديدا من زيتها المعروف بـ “النيرولي، ويبلغ عدد أشجار النارنج في محافظة نابل 122 ألفا و500 شجرة موزّعة على حقول تمسح 440 ألف هكتار منتشرة بين مناطق نابل ودار شعبان الفهري وبني خيار وبوعرقوب وقربة وتازركة، وجميعها توفر ما بين 1400 إلى 1600 طن من الزهر سنويا.
شجرة النارنج
وشجرة النارنج هي شجرة معمرة دائمة الخضرة يصل ارتفاعها إلى عشرة أمتار، أوراقها جلدية غامقة اللون وأزهارها بيضاء ذات رائحة عطرية لطيفة وفواحة منعشة، وثمرة كروية خشنة الملمس وكبيرة لها لون اقرب للبرتقالي وطعم حمضي مثل الليمون.
مهرجان يحتفي بالزهر
بمناسبة موسم تقطير الزهور، تنظم جمعية صيانة المدينة بنابل بالتعاون مع اتحاد الفلاحين، مهرجانا يتضمن عرض كيفية تقطير الزهر على الطريقة التقليدية وصولا الى أحدث الطرق، وبيع مشاتل هذه الشجرة وصناعة قلائد ومشاميم من الزهر وتذوق وبيع حلويات مصنوعة منه، وهو ما يؤكد المكانة التي تحظى بها زهرة النارنج في مختلف ربوع جهة نابل التي توفر مصدر رزق لأكثر من 3000 عائلة محدودة الدخل.
يستعمل في صنع الحلويات والعطور وللتداوي من ضربة الشمس والآلام المعوية أو لأقنعة البشرة
ويعد هذا الموسم من أعرق العادات التي تسعى عائلات مدينة نابل الساحلية للمحافظة عليها منذ أكثر من خمس سنوات لمّا أتى به الأندلسيين الذي سكنوا هناك، من خلال إعداد المؤونة من ماء الزهر الذي يستعمل في صنع الحلويات والعطور وللتداوي من ضربة الشمس والآلام المعوية أو لأقنعة البشرة والتجميل ويستعمل أيضا للوقاية من أشعة الشمس في فصل الصيف بسكب القليل منه فوق رؤوسهم، كما تستعمله الفتيات أيضا في خلطات التجميل.
عملية “التقطير”
تبدأ عملية الجني بجمع الزهور في البداية، تليها عملية الفرز ووضع كل من الأزهار والأوراق على حدة، لتدخل لاحقا مرحلة التجفيف التي تستمر ليومين حتى تفرز الزيت وتكون نكهة ماء الزهر المستخرج منه جيّدة، ومن ثمّ التقطير كأخر مرحلة، وذلك بوضع الأزهار في وعاء نحاسي أو فضّي يستعمل للتقطير ويسمى “القطَّار”، يضاف إليه الماء وتغطية الوعاء وإيقاد النار تحته إلى أن يغلي الماء وينبعث منه بخار يسمّى “روح الزهر”، ويوصل غطاء القطّار بأنبوب يمرّ عبر إناء مملوء بالماء البارد و يربطه بقارورة بلورية تسمّى “فاشكة” (قارورة بلوريّة دائرية الشكل وذات عنق طويل يحتفظ داخلها بماء الزهر)، ويتحول البخار المنساب في الأنبوب إلى قطرات تسقط في الفاشكة (القارورة) إلى أن تملأ بماء الزهر.
أحد المنازل أثناء عملية التقطير
إلى جانب هذه الذريقة التقليدية توجد طرق عصرية وهي مخصصة بالأساس لاستخراج “زيت النيرولي” الذي يصدر لكبرى شركات العطور في العالم وأرقاها. ويعتبر خبراء العطور أن “زيت النيرولي” النابلي من أجود الزيوت التي تستخرج منها أغلى العطورات وتصدّر المحافظة سنويا ما بين 700 و800 كيلوجرام من هذا الزيت النادر.