في مدينة القيروان التونسية توجد بئر قديمة ينضح منها الماء بواسطة ناعورة يديرها جمل مغمض العينين، لا يخرج من مكانه حول الناعورة إلا ميتًا، يتفاءل الناس بماء الناعورة ويكرمون الجمل ويعلقون في رقبته مناديلاً للفأل الحسن في الزواج والبخت والصحة وكل خير يرتجى من غيب لا يعرف سرّه ولكن يؤمل خيره، يضرب المثل بجمل بروطة كلما أراد أحدنا الحديث عن الدوران الأبدي في مكان واحد دون تغيير في النتيجة.
هذه الأيام تستعاد صورة جمل بروطة لمقارنة مع شعب تديره الحكومة على مكان واحد ولا تتقدم به منتظرة موته في الدائرة المغلقة، بينما تشرب وحدها ماء العين وتتفاءل بمستقبلها الهادئ دون شعب مزعج.
كذبة النموذج التونسي الناجح
لقد رُوّج لنموذج تونسي ناجح، يتلخص في انتقال ديمقراطي سلمي خالٍ من الدماء والتخريب الإرهابي، وقع الكثير في فخ التميّز (الاستثناء) التونسي، لأنه كان يقدم لهم في سياق مقارنة بالحالتين الليبية والسورية، بعد أخذ مسافة من الحالات كلها يتبين أن التخويف بالحالة السورية كان يردد على مسامع التونسيين للقبول بما هو دون الديمقراطية ودون التغيير الحقيقي باعتبار أن ثمنه غير مكلف وأن القليل السلمي أفضل من الكثير الدموي، وقُبِل الأمر وسلم به كمصير تاريخي، وحاول البعض فلسفته على أساس طبيعة الشعب التونسي المسالم والمنشغل بالعمل والكسب رغم أن أشرس الإرهابيين خرجوا من صفوفه.
النموذج التونسي المتميز في طريقه إلى تحقيق أهداف مهمة، ولكن هل هي أهداف التونسيين الحقيقية؟
النموذج التونسي المتميز في طريقه إلى تحقيق أهداف مهمة ولكن هل هي أهداف التونسيين الحقيقية؟ وسأفصل هنا بعض الأهداف التي يجري تحقيقها بصمت ثم أحاول التوسع في تحليلها لاحقًا:
الهدف الأول: تحويل الإسلاميين إلى شركة مناولة سياسية على غرار التجمع القديم.
الهدف الثاني: الإبقاء على حالة من الحرية غير المكلفة لتمويه حالة القهر الاقتصادي الخارجي.
الهدف الثالث: ممارسة دعاية دولية بتقديم نموذج ناجح لدول مثل مصر وسوريا وليبيا، أي اصطناع الحالة التونسية في بقية البلدان العربية بما يذكر بتجارب اصطناع دول وطنية ما بعد الاستقلال من خلال نموذج بورقيبة المسالم والعامل المجتهد.
الإسلاميون لقمة في الزور
إنهم لا يموتون ولا يتحللون من تلقاء أنفسهم كبقية الأحزاب اليسارية العربية التي ظهرت واختفت ولم تبق إلا في المراثي الحزينة، هؤلاء ثابتون على نفس الأفكار وبنفس الأجسام، وينتعشون بكل فجوة حرية وعندما يتاح لهم الانتخاب ينتصرون، وقد مدّ الربيع العربي في أنفاسهم وأعطاهم مواقع متقدمة في إدارة بلدانهم، بما حولهم إلى تهديد حقيقي لمصالح كانت ترعاها شركات مناولة سياسية أخرى على غرار حزب التجمع في تونس والحزب الوطني في مصر وحزب البعث في سوريا، وكان السؤال الغربي كيف يمكن تعطيلهم أو إخراجهم من مواقعهم؟ وكانت العلاجات حالة بحالة.
تم بث حالة من الفوضى الكونية في سوريا منعت وصولها إلى حالة سياسية مستقرة كانت بلا شك ستؤول لصالح الإسلاميين وخاصة خط الإخوان المسلمين الأكثر تنظيمًا، لكن حالة سوريا الآن لا تبشر باستقرار قريب يريح دوائر القرار الغربي من وجع الرأس الدائم هناك.
حالة الانقلاب المصري مؤقتة وغير قابلة للتكرار أو التمديد خاصة وهي تفشل سياسيًا واقتصاديًا وتفرط في مكتسبات مهمة للشعب المصري مثل مياه النيل وجزر البحر الأحمر
أُنجز انقلاب عسكري في مصر أخرج الإخوان المسلمين من المشهد السياسي لفترة، ولكن ثمنه كان مفضوحُا ولم يمكن إخفاؤه بما جعل حالة الانقلاب مؤقتة وغير قابلة للتكرار أو التمديد خاصة وهي تفشل سياسيًا واقتصاديًا وتفرط في مكتسبات مهمة للشعب المصري مثل مياه النيل وجزر البحر الأحمر، وتعرف دوائر القرار الغربي أن جسم الإخوان لا يزال كامنًا في مصر ولم يمكن محوه، لذلك يمثل تهديدًا دائمًا بالعودة في أي فجوة حرية قد تتاح.
الحالة التونسية هي الحالة المختلفة، لقد شُرِع في برمجة الإسلاميين على المشاركة في السلطة بمقدار، غير مسموح لهم أن يحكموا وحدهم ولا يجب قمعهم ليعودوا إلى حالة الكمون الخطرة، حالة من الشراكة السياسية تحت التهديد الدائم بالتصفية بما يمنحهم فرصة مناورة للبقاء على قيد الحياة لكن دون طموحات كبيرة، وهذه الحالة تنجح إلى حد الآن بما يجعلها نموذجًا للتطبيق كلما قبل الإسلاميون بالدخول فيها.
يمكن التوسيع في مجال حركة الإسلاميين كلما قبلوا بشروط اللعبة الاقتصادية الدولية وواصلوا فتح بلدهم للمناولة الاقتصادية أي في الحالة التونسية إعادة لعب دور حزب التجمع الذي حكم به ابن علي لمدة ربع قرن.
ويبدو الإسلاميون مستعدين لهذا الدور وهم لا يستنكفون عن الفتوى بالضرورات التي تبيح المحظورات، لذلك وعلى سبيل المثال في التغيير السريع، شرب الإسلاميون خطابهم الطويل ضد اقتصاد يعتمد على السياحة (غير الأخلاقية) ولم نعد نسمع تمجيد الاقتصاد غير الربوي ومقاطعة الشركات الصهيونية، إلخ.
صفقة معقولة لطرفيها ويمكن تقديمها كنموذج يحتذى به في بقية الأقطار العربية، البقاء مقابل الخضوع (صيغة ملطفة من النفط مقابل الغذاء القديمة)
إنهم يقدمون أوراق اعتماداهم للقوى الدولية كوسيط جديد بين السوق المحلية والاقتصاد الغربي القوي بما يسمح لهم بالاستفادة من عملية تدوير سياسية تغير شكل السلطة ولا تغير مضمونها، وهو حل يرضي الجميع في الخارج والداخل، فلا يهم القوى الدولية لون عيني المناول الداخلي أو أصوله القبيلة، يجب أن يكون مستعدًا للخضوع لشروط الشركات، والإسلاميون الآن لا يعارضون ذلك بل قد يبالغون في الخضوع مقابل القبول بهم كحزب أول يحكم عوضًا عن حزب التجمع المرسكل بعد الثورة في حزب النداء.
إنها صفقة معقولة لطرفيها ويمكن تقديمها كنموذج يحتذى به في بقية الأقطار العربية، البقاء مقابل الخضوع (صيغة ملطفة من النفط مقابل الغذاء القديمة) لكنها صفقة تضيع بلدًا وثورة ولكن الذنب ليس ذنب الإسلاميين وحدهم.
ملاعبة النخبة الباقية بشيء من الحرية
إذا أمكن تحييد الخطر الحقيقي أي الإسلاميين، فإن بقية مكونات النخبة لا تشكل خطرًا فعليًا، بل إنها مفيدة جدًا لتزيين المشهد الديمقراطي بصوات مرتفع عن الحريات، معطيات 60 عامًا من الدولة القطرية كشفت أن النخب العربية غير الإسلامية أعجز من تكوين الأحزاب السياسية.
لقد حكم القوميون العرب بالعسكر، والأحزاب التي كونوها انهارت بخسرانهم للسلطة (نموذج الاتحاد الاشتراكي الناصري) ونموذج اللجان الشعبية القذافية ونموذج حزب البعث العراقي ونموذج حزب جبهة التحرير الجزائرية.
النخب لم تخف الغرب يومًا ولا شكلت خطرًا على مشاريعه، وكثير منها صناعة غربية مدروسة على القياس
لقد كانت أحزابًا تتغذى من وجودها في السلطة وتمارس الإرهاب على مواطنيها ولكنها لم تصل إلى السلطة دون وسيلة عسكرية رغم أن الحالة الجزائرية تبدو مختلفة قليلاً، أما اليسار العربي فأعجز من الجميع عن بناء الأحزاب والتغلغل الشعبي، كل تجارب اليسار وخاصة في تونس كشفت أنه هامش سلطة لا سلطة أصلية ولم يكتسب الوسيلة الشعبية ليكون في السلطة أو يصنعها وحيثما دخل منافسة انتخابية شفافة خسر لفقدانه للجمهور.
هذه النخب لم تخف الغرب يومًا ولا شكلت خطرًا على مشاريعه، وكثير منها صناعة غربية مدروسة على القياس (الحزب الشيوعي التونسي)، لكن وجودها الآن ضروري، إنها قادرة على الإيهام بوجود ديمقراطية وقادرة أكثر على تهديد الإسلاميين من أسفل واللّعب دومًا لعبة ابن علي معهم، الدفاع عن حقوق الإنسان ورفع التقارير للجهات الأمنية.
بعد ست سنوات من الثورة لم تفرز الساحة السياسة التونسية حزبًا قادرًا على قيادة البلد يمكن الاعتماد عليه بديلاً عن الإسلاميين والتجمعيين العائدين باسم آخر مستنفد الصلاحية، يشكون من معضلات تنظيمية ستقضي عليهم، أما بقية الساحة فتعج بالأسماء والزعامات، والصراعات بينها قوية وحادة ولكنها لا تفلح في تسيير مظاهرة ما لم تستجد قواعد الإسلاميين.
الإسلاميين ليسوا بالقوة النفسية الكافية ليواجهوا الابتزاز الحزبي وهم يسارعون إلى التنازلات والتوافقات ولو على حساب نتائج الانتخابات
لقد تبين أن صلاحية هذه الأحزاب في ضعفها لا في قوتها، لأن قوتها ستجعل منها منافسًا حقيقيًا للإسلاميين، والمنافسة تفرز دومًا تقدمًا ديمقراطيًا، وهذا أمر غير مرغوب بالمرة، لكن ضعفها التنظيمي وفقرها يجعلها دومًا في حاجة إلى مساعدة للبقاء على قيد الحياة، ويمكن استعمالها ضد الإسلاميين كما جرى الأمر في حكومة الترويكا.
لقد تبين أيضًا أن الإسلاميين ليسوا بالقوة النفسية الكافية ليواجهوا الابتزاز الحزبي وهم يسارعون إلى التنازلات والتوافقات ولو على حساب نتائج الانتخابات، وقد كان لهذه الأحزاب الصغيرة حتى الآن فائدة كبيرة في ابتزازهم وإضعاف شوكتهم.
يعتقد الإسلاميون أنهم يتخذونها غطاءً، بينما تعيش هذه الأحزاب من ضعفها، فهي تحصل به أكثر مما تحصل بقوتها في الشارع (مثلما هو الأمر لحزب آفاق والحزب الوطني الحر في الحكومة الحالية)، فهي أحزاب بلا أجهزة ولكنها تستولي على نصف الحكومة، (كان لمثل هذه الحزيبات دور مهم في تشريع انقلاب العسكر في مصر بما جعل صف الإخوان معزولاً خاصة في المواجهة الإعلامية).
إن ثمرة حرب طويلة على التنظيمات الإسلامية في المنطقة العربية وخاصة الانقلاب العسكري في مصر جعلت إسلاميي تونس في حالة هشاشة كبيرة أمكن معها إخضاعهم وابتزازاهم وتحول عندهم التصدي للسلطة بشجاعة مرادفة لعملية تصفية جديدة على طريقة ابن علي رغم أنه وحزبه اختفوا من المشهد ولن يستطيعوا إعادة الكرة، لكن نتيجة فعلهم في نفوس الإسلاميين لا تزال فعالة ويمكن مواصلتها بالتهويش عليهم بالأحزاب الصغيرة التي تستفرغهم أحيانًا بمنشور فيسبوك سخيف.
العودة إلى جمل بروطة
هذه هي الحالة المثالية لإفراغ الربيع العربي من كل مضامينه الثورية، وهو الهدف الثالث والأهم من تزيين الحالة التونسية لبقية العرب ليتبعوها، مجتمع يدور حول نفسه ولا يتقدم، ليس فيه إسلاميون متطرفون ولا حكماء شجعان ليتولوا السلطة وفيه أحزاب تحب الحرية ولكنها لا تفلح في التحول إلى أحزاب كبرى وتكتفي غالبًا بالصوات العالي بشأن الديمقراطية وتعمل على إضعاف الإسلاميين والأخذ من أرصدتهم قبل أن تتمكن من استقطاب عناصر جديدة لأنها فاقدة بدورها لبرامج حقيقية وأجهزة تواصل واتصال مع قاعدة شعبية عريضة.
هذه الحالة تصلح لتطبق في مصر وسوريا وليبيا متى أمكن تخفيف وزن العسكر في المشهد، يجب أن تنتج حالة هدوء تامة في المشهد التونسي ثم تطبق خارجه، والحكومة الحالية في تونس مهمتها فرض هذه الحالة الهادئة بمعية إسلاميين هادئين يسارعون إلى التبرؤ من تاريخهم كلما ذكروا به ويسعون في إثبات لا إسلاميتهم ليبقوا ضمن المشهد وهذه هي الحالة المثالية للفرد الإسلامي، ألا يكون إسلاميًا في العمق ولكن من الأفضل أن يظل إسلاميًا بالاسم، فما دام محتفظًا بالاسم فهو إسلامي متهم يسهل ابتزازه، وإذا أصر على تغيير اسمه أو شكله فإنه يرفض ويتهم بالنفاق.
مطلوب من العرب حركة في دائرة مغلقة توهم بالحركة ولكنها لا تتقدم، هكذا يسير جمل بروطة كل يوم ويبيت في مكانه، تزينه مناديل الصبايا المعطرة لكنه لا يشمها لأنه يفقد بالدوار في مكانه حواسه جميعها
من يخطط لكل هذا؟ كل من خسر من الربيع العربي وكل من قد يخسر من مشهد سياسي ديمقراطي في الوطن العربي في المستقبل القريب والبعيد يهمه ألا تكون هناك ديمقراطية عربية ويهمه أن يسوّق للنموذج التونسي الفاشل فعلاً على أنه نموذج ناجح.
مطلوب من العرب حركة في دائرة مغلقة توهم بالحركة ولكنها لا تتقدم، هكذا يسير جمل بروطة كل يوم ويبيت في مكانه تزينه مناديل الصبايا المعطرة لكنه لا يشمها لأنه يفقد بالدوار في مكانه حواسه جميعها.
الحركة الدائرية تجري الآن ونحن في قلبها، وَهْمُ تقدم وسلم اجتماعي، لكن الحقيقة أن الوضع الآن يتراجع اقتصاديًا واجتماعيًا، وحدها الانتفاضة الاجتماعية القادمة من الجنوب قد تعيد ترتيب المشهد وتكسر رباط جمل بروطة وتخرجه للهواء العليل قبل موته، والجملة الأخيرة وهم أديب لا قناعة عالم اجتماع.