كثيرًا ما يكون الصِدامُ على أشُدِّه بين أهلِ العلمِ والفكرِ والمبادئ وبين أصحاب المصالحِ والأهواءِ الشخصية، وقد يخرجُ هذا الصِدامُ عن مُجردِ تباينٍ في الطرح إلى مباراةٍ عنيفةٍ تَسقُطُ على أثرها القيمُ والمُثُلُ صرعى تحتَ أقدامِ الأطماعِ والرؤى المحدودة.
إذا كان المرءُ يسعى وفقاً لقانونِ المنفعةِ الشخصية، فإنه قد يتغافلُ عن طِيبِ خاطرٍ عما قد ينظرُ له الأعمى ويسمعُه الأصم
فإذا كان المرءُ يسعى وفقاً لقانونِ المنفعةِ الشخصية، فإنه قد يتغافلُ عن طِيبِ خاطرٍ عما قد ينظرُ له الأعمى ويسمعُه الأصم -على حد تعبير شيخنا أبي الطيب المتنبي- وفي حين أنَّ العلمَ نورٌ نَلْهَثُ جميعاً لنقْبِسَ من ضيائه، إلا أن وقوفَ الأهواءِ والمنفعةِ الشخصيةِ في طريقِ الإصلاح قد يصبحُ مَدْعاةً للإعراض عن العقلانية والمنطق والمصلحة العامة.
في يناير/كانون الثاني 1958 كتب صحفي بجريدة “بوسطن هيرالد” رسالة لإحدى صديقاته، وتدعى راشيل كارسون، يَصِفُ فيها نُفوقَ أعداد مهولة من الطيور نتيجة رش مادة DDT بالطائرات، فكانت هذه الرسالة بمثابة الوقود الذي اعتمدت عليه كارسون للتنقيب عن الأمر، وبِحُكم دراستها للكيمياء فقد كرَّست وقتاً طويلاً عقب هذه الرسالة للوقوف على مُلابسات الموقف.
وبحلول سبتمبر/أيلول 1962 أصدرت كتاباً بعنوان “الربيع الصامت” الذي تغيرت بعده ملامحُ الحياة البيئية تماماً، وقد ناصبَ الكثيرون العداءَ للكتاب والكاتبة بحدٍّ لا تتخيله ولن تتوقعه -عزيزي القارئ- على الأقل حتى نهاية هذا المقال.
مادة DDT تم تخليقها لأول مرة عام 1874 ولم تُعرف خواصها المبيدة للحشرات حتى عام 1939 حين استعملها بول هيرمان مولر للقضاء على البعوض المسبب لمرض الملاريا، وأصبح متاحاً للجمهور بحلول عام 1945، واستعمِل في الحرب العالمية الثانية لتطهير الجنود من القُمل الذي انتشر بينهم، ونال مولر جائزة نوبل عام 1948 لاكتشافه الخواص الفعالة لهذه المادة.
استهدفت راشيل بسيلٍ من التجريح الشخصي وسَخّروا الإعلامَ لهذا العداء، لدرجة أن صحيفة Human Events اعتبرت الكتاب ثاني أسوأ كتاب عرفته البشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين بعد كتاب أدولف هتلر “كفاحي”، وقبل كتاب “مانيفستو الشيوعية” لماركس وإنجيلز
وظل استخدام DDT في تنامٍ لا مثيلَ له حتى أقَضَّت كارسون نومَ المصانع العملاقة المنتجة لهذه المادة بكتابها، فشمَّرت المصانِعُ عن ساقِ الحرب وكشَّرت عن أنيابها فاستهدفت الكاتبة بسيلٍ من التجريح الشخصي وسَخّروا الإعلامَ لهذا العداء، لدرجة أن صحيفة Human Events اعتبرت الكتاب ثاني أسوأ كتاب عرفته البشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين بعد كتاب أدولف هتلر “كفاحي”، وقبل كتاب “مانيفستو الشيوعية” لماركس وإنجيلز.
احتدمَ الجدلُ حول الكتاب حتى تدخَّلَ الرئيس الأميركي جون كيندي وأصدر تعليمات صريحة لإدارته بدراسة ادعاءات السيدة كارسون. وارتفعت وتيرةُ الخلافِ فتهكمت الصحف على كارسون، وكان منها أن كتبت إحدى الصحف: “الآنسة كارسون بلغت الأربعين.. وما زالت تتحامق!”، وتوفيت كارسون نتيجةً الإصابة بالسرطان عام 1964، وقبل أن ترى نتائج اللجنة الاستشارية التي أثبتت صحة ما أوردته من مخاطر لمادة DDT في كتابها.
تم تشديد الرقابة على صناعة المبيدات ومادة DDT على وجه الخصوص، وفي عام 1970 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون تأسست وكالة حماية البيئة الأميركية EPA، ثم تأسس برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 1972، وصدر قانون الهواء النظيف والمياه وتكريس يوم الأرض، كما فرضت أميركا حظر استعمال DDT داخل أراضيها، فكانت الشركات الأميركية تُنْتِجُ المادة وتصدرها لدول العالم الثالث.
في ريو دي جانيرو عام 1992 عُقِدَ مؤتمر قمة الأرض، وتم تكريم راشيل كارسون في هذا المؤتمر، وفي عام 1998 تم اختيار كتاب كارسون الأول من بين عشرة كتب أثرت إيجابياً في تفكير البشر خلال نصف قرنٍ مضى.
إنَّ التعارُضَ بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية يستوجبُ تغليبَ المصلحة العامة، وتقديم ما يضمنُ الحياةَ الكريمةَ لأفراد المجتمع دون اختزال المنفعة لصالحِ شخوصٍ ترى أنَّ الشمسَ تُشرِقُ كي تنعمَ برؤيةِ وجوهِهم الصبيحة، فأمثال هؤلاء دمروا بلاداً وعباداً.