ترجمة وتحرير نون بوست
على الرغم من أن السياسيين والصحفيين يميلون إلى التقليل من شأن هذه الفكرة، إلا أن التدهور البيئي غالبا ما يكون سببا أساسيا للأزمات الدولية بداية من إزالة الغابات والتآكل وتراجع الإنتاج الزراعي الذي مهد الطريق للإبادة الجماعية في رواندا في فترة التسعينات، وصولا إلى الجفاف الطويل الذي دفع بسكان الريف للانتقال إلى المدن في بداية الحرب الأهلية السورية الحالية. وفي الحقيقة، يمكن أن تواجه مصر أيضا أمرا مشابها لذلك، حيث أن 95 مليون شخص من المحتمل أن يكونوا ضحايا الكارثة التي ستنجر عن سوء الإدارة البيئية.
في الواقع، هذا ما يحدث في الوقت الراهن في دلتا نهر النيل، وهي منطقة منخفضة تنطلق من القاهرة على بعد 100 ميل تقريبا من البحر. وتجدر الإشارة إلى أن حوالي 45 أو 50 مليون نسمة يعيشون في هذه المنطقة، التي تمثل 2.5 بالمائة فقط من مساحة الأراضي المصرية. ويعيش الباقون في وادي نهر النيل، وهو الشريط الأخضر المتعرج الذي يمتد على مئات الأميال من الرمال الصحراوية، ويمثل واحد بالمائة من إجمالي مساحة الأراضي في البلاد. وعلى الرغم من أن الدلتا والنهر معا كانا مصدر ثروة مصر وعظمتها، إلا أنها تواجه الآن اعتداء لا هوادة فيه منه برا وبحرا.
مصر ستواجه نقصا خطيرا في المياه العذبة والطاقة في جميع أنحاء البلاد بحلول سنة 2025
يأتي التهديد الأخير من السد الضخم الذي من المتوقع الانتهاء من بناؤه خلال العام الجاري والذي يوفر 59 بالمائة من المياه لمصر. وقد قامت الحكومة الوطنية الإثيوبية بتمويل ذاتي ضخم لسد النهضة الإثيوبي الذي تبلغ قيمته خمسة مليارات دولار، كما وعدت بتوليد حوالي 6000 ميغاواط من الطاقة. وفي الواقع، يعد ذلك إنجازا هاما للإثيوبيين، الذين يفتقر ثلاثة أرباعهم إلى الكهرباء. فضلا عن ذلك، من المرجح أن يجلب بيع الكهرباء الزائدة إلى بلدان أخرى في المنطقة بليون دولار سنويا من إيرادات النقد الأجنبي التي تشتد الحاجة إليها في الوقت الراهن.
من جانب آخر، لا يمكن لسد الألفية الكبير أن يحقق هذه الفوائد، خاصة وأنه من المرجح أن تمر المياه من النيل ثم إلى السودان ثم مصر، وهو ما لا يعد بالأمر الهين بالنسبة للبلدين، خاصة وأن مسؤولين حكوميين في القاهرة تحدثوا عن إمكانية شن قصف أو إرسال قوات النخبة لتدمير السد.
يجري بناء سد النهضة الإثيوبي على الحدود الإثيوبية السودانية على النيل الازرق الذي يوفر 59 بالمائة من المياه لمصر
وتجدر الإشارة إلى أن السد سينشئ خزان يتجاوز ضعف حجم سد هوفر، الذي يعدّ أكبر خزان في الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يخزن 74 مليار مترا مكعبا من مياه النيل الأزرق. (أي حوالي 64 مليون فدان، وبإمكان المياه أن تغطي 100 ألف ميل مربع من الأرض). علاوة على ذلك، يستغرق ملء هذا الخزان من خمس إلى 15 سنة.
من جانب آخر، أفادت الدراسة التي نشرت من قبل جمعية الجيولوجية الأمريكية تحت عنوان “خلال هذه الفترة من التعبئة”، أنه “من الممكن أن ينخفض منسوب تدفق المياه العذبة من النيل إلى مصر بنسبة 25 بالمائة، مع فقدان ثلث الكهرباء الناتجة عن سد أسوان العالي” الذي يعدّ بدوره أكبر سد لمصر على نهر النيل، والذي تم تأسيسه سنة 1965.
بالإضافة إلى ذلك، ورد ضمن الدراسة التي نشرتها الجمعية الجيولوجية الأمريكية التي يقودها عالم الجيولوجيا في مؤسسة سميثسونيان، جان دانيال ستانلي، أن مصر ستواجه “نقصا خطيرا في المياه العذبة والطاقة في جميع أنحاء البلاد بحلول سنة 2025”. ومن الممكن أن تعاني الزراعة في الدلتا، التي تنتج ما يصل إلى 60 بالمائة من الأغذية المصرية، من نقص حادّ في مياه الري.
حوالي 45 أو 50 مليون نسمة يعيشون في هذه المنطقة، التي تمثل 2.5 بالمائة فقط من مساحة الأراضي المصرية. ويعيش الباقون في وادي نهر النيل
من جهة أخرى، أوضحت الجمعية الجيولوجية الأمريكية أن السد الجديد يعد أحد التهديدات البيئية التي تواجه مصر حاليا، إلى جانب ارتفاع مستويات سطح البحر، الناجم عن تغير المناخ، خاصة وأن جزءا كبيرا من دلتا النيل لا يرتفع عن مستوى سطح البحر سوى بمتر أو بأكثر بقليل. ويشير التقرير الذي أعده عالم الجيولوجيا في جامعة أسيوط، أحمد سيف النصر إلى أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار نصف متر سيؤدي إلى تقليص مساحة الدلتا بنسبة 19 بالمائة، وهي منطقة تعادل مساحة مدينة لوس أنجلوس.
في الحقيقة، إذا ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد في هذا القرن، كما يرجح العديد من علماء المناخ، فإنه من المرجح أن يختفي ثلث الدلتا تحت البحر الأبيض المتوسط. والجدير بالذكر أن هذا التحليل لم يأخذ بعين الاعتبار الآثار المحتملة للارتفاع الكبير الذي توقعته الدراسة التي أجريت سنة 2016 من قبل مجلة نيتشر.
من جانب آخر، تجاهل التقرير أيضا الأثر المترتب عن انخفاض الأراضي في الدلتا، ولاسيما على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وفي إحدى المقابلات، عزا ستانلي من مؤسسة سميثسونيان، الهبوط هناك إلى كل من استمرار الضغط من الطبقات الجيولوجية والنشاط الزلزالي.
فضلا عن ذلك، قال ستانلي إنه “على الرغم من أن المنطقة تعتبر مستقرة “تكتونيا”، إلا أن ذلك لا يعني أنها غير نشطة”. فالزلازل التي تقدر قوتها بحوالي خمس درجات أو أكثر عادة ما تضرب المنطقة. علاوة على ذلك، تنحسر الدلتا (وتصبح أقل خصوبة) لأنها لم تعد تتجدد سنويا من الرواسب المتأتية من فيضانات النيل التي تقدر بحوالي 100 مليون طن، التي أصبح يحجزها الآن خزان السد العالي في أسوان الأمر الذي ساهم في تشكل دلتا جديدة. وعزت دراسات أخرى زيادة النشاط الزلزالي في المنطقة إلى وزن السد والمياه المخزنة خلفه.
من الممكن أن تكون الولايات المتحدة بمثابة وسيط نزيه للتفاوض على حل توافقي بين كل من مصر وإثيوبيا خاصة وأنها لعبت مؤخرا دورا هاما وراء الكواليس مع كل من القاهرة وأديس أبابا
بالإضافة إلى الفقدان الشبه المؤكد من مساحة الأراضي في الدلتا، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر وهبوط الأراضي سيزيد أيضا من تسرب المياه المالحة للموارد العذبة. وعموما، تعد مصر من بين أفقر الدول من حيث نصيب الفرد من الموارد المائية المُتاحة، إذ يتمّ توفير حوالي 660 مترا مكعبا من المياه العذبة سنويا لكل مواطن. وعلى سبيل المثال، توفر الولايات المتحدة 9.800 مترا مكعبا من الموارد المائية للشخص الواحد سنويا.
ولكن وفقا لدراسة سيف النصر، فإن تسرب المياه المالحة بارتفاع يقدر بحوالي متر واحد عن مستوى سطح البحر يمكن أن يعرض أكثر من ثلث حجم المياه العذبة في الدلتا للخطر. وفي هذا الصدد، قال ستانلي: “إذا تحدثت إلى المزارعين في الدلتا الشمالية، فسوف يخبرونك بأن إنتاجهم قد تراجع بشكل ملحوظ، وأن إسفين المياه المالحة يتحرك نحو منتصف الدلتا وهو ما لا ينذر بخير”، خاصة مع إمكانية تضاعف عدد سكان مصر خلال الخمسين سنة القادمة.
مزارع مصري يعتني بحقله الذي يقع على ضفاف فرع النيل في دلتا النهر
ونظرا لما ذكر آنفا، لسائل أن يسأل؛ كيف ستستطيع مصر، مع اقتصادها المتعثر والتاريخ الحديث من الاضطرابات السياسية، أن تعالج التحديات التي تهدد الحياة بشكل واضح؟
على الرغم من الحديث المطنب عن تدمير السد الإثيوبي، إلا أن اندلاع حرب بين البلدين يبدو أمرا شبه مستحيل. ففي سنة 2015، وقعت كل من مصر، وإثيوبيا، والسودان اتفاقية مشتركة تتعلق بعدم إلحاق الضرر ببعضها البعض. وفي شهر كانون الثاني/يناير الماضي، اجتمع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي في أديس أبابا، في لقاء على ما يبدو وديا، مع رئيس الوزراء الإثيوبي، هايله مريم ديساليغنه. في المقابل، لم يتم ذكر التوصل إلى اتفاق رسمي حول كيفية تقاسم موارد النيل. من جانب آخر، يمكن لإثيوبيا أن تقلل من الأضرار المباشرة في المصب عن طريق إطالة الوقت اللازم لملء الخزان، ولكن سينجر عن ذلك تأخير تقاسم فوائد السد.
وفي هذا الشأن، قال اسفاه بايني، الأستاذ في الهندسة الميكانيكية بجامعة ولاية سان دييجو، إن تدفق النهر سينتج حوالي 6000 ميغاوات من الطاقة في فترات الذروة. من جهة أخرى، لاحظ بايني أن الشركة الإيطالية المهتمة ببناء السد والتي أجرت “دراسة الجدوى”، كان فيها تضارب واضح في المصالح بسبب إمكانية تضخيم التكاليف والأرباح عن طريق تركيب طاقة فائضة. كما بيّن بايني أن نسبة 2000 ميغاوات قد يكون “مبالغا فيه بعض الشيء”.
نظرا لسعي أثيوبيا للانتفاع من السد في أسرع وقت ممكن، من المستبعد أن تقوم بتأخير الانتهاء من إنشائه. وفي هذا الصدد، قال أستاذ السياسة الإفريقية بجامعة جورجتاون، هاري فيرهوفن، إن “مصر لا تملك في جميع الحالات ما يخوّلها للتفاوض حول مثل هذه الصفقة. فقد أكدت دائما على حقها في حصة الأسد من مياه نهر النيل، كما أضفت طابعا رسميا على هذا الادعاء من خلال اتفاقية تقاسم مياه النيل 1959، مع إيلاء اعتبار ضئيل لاحتياجات بلدان المنبع”.
تسرب المياه المالحة بارتفاع يقدر بحوالي متر واحد عن مستوى سطح البحر يمكن أن يعرض أكثر من ثلث حجم المياه العذبة في الدلتا للخطر
من جهته، سار حسني مبارك خلال فترة حكمه الطويلة كرئيس لمصر على هذا المنوال، حيث أخذ بعض دول حوض النيل كمسلّمات وتجاهل بقية الدول الأفريقية. وفي هذا السياق، قال فيرهوفن “من هذا المنطلق، من الصعب أن نشعر بالأسى حول مصر”.
في الوقت الذي “دخلت فيه مصر في حالة سبات”، قامت الحكومة “صاحبة الكفاءة العالية” في إثيوبيا بإعادة بناء اقتصادها، وتطرقت للسبيل الأمثل للتعامل مع المصالح الأمريكية والصينية، وأطلقت ما وصفه فرهوفن بأنه “هجوم هيدرولوجي لإعادة ترتيب المنطقة”. وليس ذلك فقط من الناحية السياسية أو النظرية، بل أيضا على أرض الواقع، من خلال تأكيد سيطرتها على مياه النيل التي تعتبر شريان الحياة في المنطقة.
من الممكن أن تكون الولايات المتحدة بمثابة وسيط نزيه للتفاوض على حل توافقي بين كل من مصر وإثيوبيا خاصة وأنها لعبت مؤخرا دورا هاما وراء الكواليس مع كل من القاهرة وأديس أبابا (حليف رئيسي للصراعات في الصومال وجنوب السودان). بيد أنه في ظل الرئيس ترامب، قال فيرهوفن، أن مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأميركية على حد سواء لم يبدو اهتماما يُذكر بالقارة السمراء.
في هذه المرحلة، قال ستانلي إن مصر بحاجة إلى الاستثمار في تحلية المياه العذبة، على غرار المملكة العربية السعودية، والري بالتنقيط، مثل إسرائيل. وفي الوقت الذي تواجه فيه مصر “نقصا في وسائل منع الحمل”، فإن الاستثمار الحكومي في برامج تنظيم الأسرة يعد الحل الأمثل للحد من النمو الديمغرافي على المدى الطويل. ولكن في الوقت الراهن وبعدما لم يعُد النيل من حق المصريين، وبعدما تغرق الدلتا تدريجيًا تحت مياه البحر، سيتوجب حتما على الملايين من الشعب المصري البحث عن مستقبلهم في مكان آخر.
المصدر: يال إنفايرمنت 360