للأسبوع الثالث على التوالي، تُبثّ على الهواء مباشرة الجرائم الإسرائيلية في أكثر تجلياتها بشاعة، بقصف المدنيين وقتل شعب برجاله ونسائه وأطفاله، وهدم منازلهم عليهم، ونقلب أعيننا بين مشاهد الحزن الفلسطيني بعد أن أصبحت غزة مأتمًا يحصي من شعبه الآلاف بين شهيد ومصاب.
أفرزت هذه المجازر حقائق ودروسًا ورأيًا عامًّا في مصر، ربما لم يكن متوافَقًا من قبل حول قضية عامة بقدر ما هو متوافق اليوم حول الوضع المأساوى فى غزة، ما يعكس تجذُّر القضية الفلسطينية في وجدان المصريين وقلوبهم، لكن إلى أي مدى كان الموقف الشعبي المصري متوافقًا مع الموقف الرسمي بأجهزته الأمنية والإعلامية؟
تضامن شعبي مقابل تخاذل حكومي
بعد هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الذي نفّذته حماس، أُغلقت جميع المعابر الحدودية لغزة مع “إسرائيل” ومصر، بما في ذلك معبر رفح البري، المتنفّس الوحيد لأغلب الفلسطينيين في قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وشريان الحياة الوحيد المتبقي للقطاع إلى العالم الخارجي، والذي أصبح في مرمى آلة الحرب الإسرائيلية.
قصفت “إسرائيل” معبر رفح 4 مرات حسب تصريحات الخارجية المصرية، بينها مرة أثناء العمل على إصلاح بعض الأضرار أُصيب خلالها عمّال مصريون، كما هددت بقصف أي شاحنات مساعدات تدخل من الجانب المصري بالتزامن مع قطع المياه والكهرباء والوقود عن سكان غزة، دون أن يحرك النظام المصري ساكنًا منذ المرة الأولى، ما شجّع الاحتلال على استهداف المعبر أكثر من مرة.
منذ ذلك الحين، بدا أن ثمة فجوة بين الموقفَين الرسمي والشعبي، ففي حين اكتفى النظام المصري بتصريحات دبلوماسية فاترة تتناغم مع تصريحات سابقة، دعا فيها السيسي إلى “تكريس ثقافة السلام والتعايش والاندماج بين شعوب المنطقة”، كانت ردود الفعل في الشارع المصري واضحة وصارمة تجاه الوحشية الإسرائيلية التي وصلت شظاياها إلى الحدود المصرية.
أغلقت مصر معبر رفح الحدودي بعد أن بدأت “إسرائيل” قصف غزة.
وتسيطر مصر على المعبر بموجب اتفاق أبرمته مع “إسرائيل” عام 2007، وأبقته مغلقًا خلال القصف الإسرائيلي السابق لغزة في أعوام 2021 و2014 و2008، ومنذ بدء الصراع المتصاعد بين الجيش المصري والمسلحين في سيناء عام 2013، فرضت مصر قيودًا صارمة على فتح المعبر، وقلصت الحركة عبره إلى حدّ كبير، وحظرت دخول منظمات الإغاثة والصحفيين إلى شمال سيناء، ويتهم الفلسطينيون مصر بتعزيز الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 16 عامًا، من خلال إغلاق طريق الخروج الوحيد من غزة.
اتسعت الفجوة بين النظام والشعب مع استهداف جيش الاحتلال برج مراقبة تابع للجيش المصري بقذيفة دبابة، تسبّبت في إصابة عدد من الجنود المصريين قرب معبر كرم أبو سالم على حدود غزة، وهي النقطة التي تبعد عن معبر رفح مسافة 2.2 كيلومتر، وهو ما اعترف به متحدث باسم جيش الاحتلال واعتبره “خطأ غير مقصود”، وهي الرواية نفسها التي رددها المتحدث العسكري المصري، كما تبنّاها إعلام النظام الذي تجنّب الحديث عن رد فعل مع تكرارها، أو استغلال الحادث لإدخال مزيد من المساعدات لغزة.
على المستوى الشعبي، أثار استهداف الاحتلال الإسرائيلي لمواقع مصرية موجة من الغضب، حيث طالب مواطنون الجيش بردّ رادع واتخاذ موقف قوي، واعتبره البعض ليس صدفة أو خطأ، إنما مقدمة لما بعده وجسّ نبض لمشاهدة رد الفعل المصري، وربط آخرون بين الحادث وتعنُّت “إسرائيل” في دخول المساعدات، بعدما أصرت على تفتيش جنودها لكل الشاحنات التي سمحت بدخولها.
Egypt has the right to defend itself 😜. Mistake ? #aha #احا
— Bassem Youssef (@Byoussef) October 22, 2023
غرّد باسم يوسف ساخرًا من استهداف الاحتلال الإسرائيلي لمواقع مصرية.
مقابل هذا التعنُّت، أفرز العدوان الإسرائيلي المدمر على غزة نشاطًا إغاثيًّا شعبيًّا غير مسبوق لدعم الفلسطينيين، حيث تحركت العديد من مؤسسات المجتمع المدني في عدة مسارات، منها جمع التبرعات المادية، وتوفير المساعدات الغذائية والطبية، والتبرع بالدم، وسط إقبال شعبي لافت من قبل المتطوعين في انتظار فتح معبر رفح، لكن دخول القوافل اقتصر بعد أيام من المفاوضات على دخول 20 شاحنة فقط، وهو ما لا يغني ولا يسمن من جوع في ظل قطع الاحتلال الإسرائيلي المياه والكهرباء والوقود عن غزة.
وفي حين وقفت مصر أمام معضلة فتح الحدود أمام الفلسطينيين المهدَّدين بالتهجير القسري، كان الموقف الشعبي أكثر تضامنًا مع الغزيين، وانتقد البعض موقف النظام المصري الذي يرون أنه يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عمّا يتعرض له أهالي غزة كل يوم، ويعزز حصار الفلسطينيين داخل قطاع غزة بإغلاق معبر رفح أمام حركة الأفراد والبضائع، خاصة أن هذا المعبر هو الأمل الأخير لدى الكثير من سكان غزة للهروب من الكابوس الذي سيصاحب الهجوم البري الإسرائيلي المرتقب.
تغطية صحفية| لحظة قمع الأمن المصري لمظاهرة الأزهر واعتقال عدد من المشاركين فيها. pic.twitter.com/qD7QyGPw8I
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) October 27, 2023
ومع استمرار الوضع على ما هو عليه، يبدو أن هناك انزعاجًا شعبيًّا واسعًا من الموقف المصري العاجز حتى عن الضغط لفتح معبر رفح بشكل دائم، لإيصال مساعدات إنسانية وطبية بعد مرور 3 أسابيع على الحرب التي ما زالت تحصد أرواح آلاف الفلسطينيين كل يوم، ما جعل للحصار الإسرائيلي هناك قيمة قد تزداد انعكاساتها المأساوية خلال الساعات والأيام القادمة.
نصرة فلسطين وليس السيسي
في وقت التزم فيه النظام المصري وأجهزته الأمنية الهدوء والترقب، بدا موقف الشعب المصري الداعم للفلسطينيين واضحًا منذ اللحظة الأولى للهجوم الخاطف الذي شنّته “حماس” على “إسرائيل”، وعبّر الموقف العام عن تأييد مطلق لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم.
فيما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تندد بممارسات الاحتلال بحقّ المدنيين في غزة، أصدرت مصر بيانًا مكسوًّا بالدبلوماسية التي غابت عن خطاب النظام منذ الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين، وأكد السيسي على ما جاء به خلال قمة القاهرة للسلام التي عُقدت بعد أسبوعَين من اندلاع الحرب في غزة، وانتهت دون التوصل إلى بيان ختامي.
الموقف الرسمي المصري تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة المحاصر حمل رسائل “فضفاضة” كررها السيسي مرارًا، وأعلى من حدّتها خلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس، أعلن فيه قدرته على تحريك ملايين المصريين لدعم غزة، فيما بدا أنه محاولة جديدة لاستغلال حالة الغضب لدى المصريين تجاه مجازر الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني للحصول على تفويض شعبي جديد لدعم رؤيته الرافضة للتهجير، هذه المرة بدعوى حماية الأمن القومي الذي أقسم عليه بالفعل عندما أدّى اليمين الدستورية كرئيس قبل حوالي 10 سنوات.
ويبدو أن الجهات المعنية التقطت الخيط بسرعة، وبدأت بالفعل أجهزة الدولة والأحزاب الموالية للنظام بالحشد لمظاهرات عنوانها العريض “نصرة غزة وتفويض الرئيس السيسي”، لوقف مخطط “إسرائيل” لتهجير سكان غزة إلى سيناء، واتخاذ ما يراه مناسبًا من إجراءات لحماية الأمن القومي المصري وضمان عدم تصفية القضية الفلسطينية.
وفي جلسة طارئة عقدها مجلس النواب يوم الخميس 19 أكتوبر/ تشرين الأول، طالب أعضاء الحزب الموالون للنظام وآخرون مستقلون محسوبون على أجهزة الدولة ومعبّرون عنها، بتفويض السيسي، وهاجم نواب دولًا عربية لا تستخدم أموالها في الدفاع عن القضية الفلسطينية، فيما مزّق نائب بالمجلس ما قال إنها اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين مصر و”إسرائيل”، وطالب بإنهائها.
في الليلة ذاتها، وبعد أكثر من أسبوع، بدء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، سارعت أحزاب ونقابات وفنانون بإعلان تفويضهم، في حين دعت أمانة الحوار الوطني لمظاهرة أمام النصب التذكاري، وبدأت تحركات جماعية اضطلع بها الفنانون الذين بثّوا مقاطع فيديو تدعو للحرب تارة، وتدعم غزة والقضية الفلسطينية تارة أخرى.
وكانت وسائل الإعلام قد تداولت صيغة التفويض المقترح، والتي لم تحمل أية عبارة تطالب بوقف العدوان على غزة أو تدينه، لكنها تدعو السيسي لعمل ما يلزم بهدف تجنُّب إقحام مصر في الحرب، فضلًا عن حماية سيناء وعدم السماح بتهجير الفلسطينيين إليها.
طلب التفويض ليس جديدًا على السيسي، حيث استغله سابقًا لارتكاب مجازر بحقّ معارضيه السياسيين، وهو ما دفع البعض للتحذير من خطورة التفويض الجديد، المتزامن مع دعوة الكثير من دول العالم مواطنيها للنزول والتظاهر من أجل “نصرة فلسطين”، وليس إسناد الأمر لشخص بعينه للدفاع عن القضية الفلسطينية.
هذه المرة وجد السيسي في حرب غزة فرصة لترميم شعبيته المنهارة، على وقع القمع السياسي والأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة، والتي ظهرت في بحث المصريين عن بديل خلال الاستعداد لخوض انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ما استدعى من السيسي خوض معركة جمع التوكيلات الشعبية بهدف منع أحمد الطنطاوي منافسه الحقيقي من خوض السباق.
في سبيل ذلك، رفع نظام السيسي قبضته الأمنية مؤقتًا عن الشوارع والميادين للمرة الأولى منذ نحو عقد من الزمن، ليسمح للمواطنين بالتظاهر بأعداد كبيرة للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في غزة، بهدف استغلال المظاهرات في مواجهة الضغوط، وتحسين موقفه التفاوضي أمام دعوات القبول بتهجير الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء.
بعد فشله في إظهارها كجمعة تفويض شعبي، انقلب النظام على مظاهرات دعم غزة وفلسطين، وشنّ حملة اعتقالات ضد المشاركين فيها.
في مقابل التصريحات المعلنة والرافضة للتهجير من الجانب المصري، يبدو أن موقف القاهرة ليس نهائيًّا وقابل للتفاوض، مع تداول تقارير تتحدث عن عرض مالي أمريكي لاستقبال 100 ألف فلسطيني في مدينتَي رفح والشيخ زويد اللتين سبق تفريغهما بشكل ممنهج من السكان الأصليين المنتمين إلى القبائل السيناوية، مستغلًّا الحرب على الجماعات المسلحة طوال العقد الماضي بحسب صحيفة “تيليغراف” البريطانية.
وفي حال اعتماد هذا الخيار، من المؤكد أنه لن يحظى بدعم شعبي، ويُتوقع أن تتسع موجة الاحتجاجات الشعبية في مصر مع حرصها على استمرار علاقاتها مع “إسرائيل” وتجاوز الاعتداءات الإسرائيلية، نظرًا إلى أن القضية الفلسطينية يجتمع عليها المصريون بمختلف توجهاتهم.
وبالنظر إلى الاحتجاجات الأخيرة، بدا نظام السيسي كأنه يحاول تهيئة الرأي العام لقبول الصفقة، لكن خروج المظاهرات عن السيناريو المرسوم للاحتجاج أفشل مخطط التفويض، فقد تركزت الاحتجاجات على مطالبة النظام باتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه العدوان على غزة، وأكد المحتجون على تجذر القضية الفلسطينية في قلوبهم.
في المقابل، كانت رؤية النظام محصورة في البحث فقط عن “اللقطة”، وهي الكلمة التي وردت على لسان مدير أمن الإسكندرية اللواء خالد البروي، خلال تفاوضه مع طلاب الجامعة بإنهاء مظاهرة داعمة لفلسطين، قائلًا: “خلاص أخدنا اللقطة”، وهو ما رفضه المتظاهرون المدفوعون بشعور من الألم والغضب تجاه انتهاكات العدوان الإسرائيلي.
السيد الظباط فاكرهم عايزين اللقطة
قالوا له احنا عايزين نوصل صوتنا
من الاسكندرية pic.twitter.com/KMjHQgY8ny
— Ahmed Samih (@AhmedSamih) October 20, 2023
وفوجئ النظام بردود فعل المصريين الغاضبة، وتعالت هتافات المتظاهرين الرافضة لرؤية السيسي التي طرحها من أجل حلّ الأزمة، مؤكدين على تظاهرهم من أجل القضية الفلسطينية وليس تفويضًا لأحد، ورددوا شعارات تفنّد مزاعم وسائل الإعلام الموالية للنظام التي روجت للمظاهرات باعتبارها تلبية لدعوة السيسي وتفويضه في إدارة ملف غزة، وهو ما دحضته تلك الهتافات: “المظاهرة بجد مش تفويض لحد” و”تفويض إيه يا عم.. فلسطين أهم” و”لا النقب ولا سينا فلسطين كاملة لينا”.
“مش بنفوّض حد.. المظاهرة دي بجد”
من مظاهرة مصطفى محمود اليوم بالقاهرة pic.twitter.com/WOkohzgFF0
— Belal Fadl (@belalfadl) October 20, 2023
التظاهرات التي دعا إليها السيسي وتجاوبت معها أحزاب محسوبة على نظامه قلبت الطاولة على النظام بعد دخولها ميدان التحرير عنوة، وارتفاع هتافات المشاركين فيها بمبادئ ثورة 25 يناير: “عيش حرية عدالة اجتماعية”، ووجد فيها المحتجون فرصة للتعبير بعد سنوات من خفض سقف الحريات إلى أدنى مستوى.
وبعد فشله في إظهارها كجمعة تفويض شعبي، انقلب النظام على مظاهرات دعم غزة وفلسطين، وشنّ حملة اعتقالات ضد المشاركين فيها بعد اقتحام ميدان التحرير أيقونة ثورة يناير، ورفض الالتزام بالتعليمات الأمنية، وترديد هتافات الثورة، ما أدّى إلى تصاعد مخاوف الأجهزة الأمنية من أي انفلات أمني وفقدان السيطرة على المتظاهرين بعد كسرهم حاجز الخوف.
ووثق محامون وحقوقيون اعتقال عشرات المتظاهرين من قلب ميدان التحرير ومن منازلهم قسريًّا قبل ظهور بعضهم أمام نيابة أمن الدولة العليا، فضلًا عن استعانة النظام ببعض البلطجية لتفريق هذه التظاهرات، واعتبر مراقبون أن هتافات المتظاهرين التي تداولتها مواقع التواصل أزعجت السيسي ونظامه بسبب خروجها عن تصوراته المعلنة.
وتمثل الموقف الشعبي أيضًا في بعض المؤسسات الجماهيرية غير المحسوبة على النظام، وعلى رأسها الأزهر الشريف، الذي سجّل منذ اليوم الأول للحرب في غزة مواقف داعمة للقضية الفلسطينية، بدأها شيخ الأزهر أحمد الطيب بالتأكيد على وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني، خلال مكالمة هاتفية مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وتحذيره من ترك الفلسطينيين أرضهم، مرورًا بإطلاق حملة تبرعات لإغاثة غزة، وصولًا إلى تنظيم مظاهرات حاشدة لم يعتد النظام على السماح بها.
١/١ وجَّه فضيلة #الإمام_الأكبر أ.د أحمد #الطيب #شيخ_الأزهر الشريف، بيت الزكاة والصدقات المصري، بإطلاق حملة «أغيثوا #غزَّة» تحت شعار «جاهدُوا بأموالكم وانصروا فلسطين»؛ لدعم أهلنا في قطاع غزة وفلسطين وتقديم المساعدات الإغاثيَّة العاجلة لهم. pic.twitter.com/Zha1WnnmG1
— الأزهر الشريف (@AlAzhar) October 17, 2023
وعلى خُطى الأزهر، تجاوزت النقابات حاجز قانون التظاهر، رغم تكبيل دورها في السنوات الأخيرة ومعارضتها للتقارب بين القاهرة وتل أبيب، ونظّم أعضاؤها وقفات احتجاجية داعمة للمقاومة الفلسطينية، كان في مقدمتها نقابة المحامين والصحفيين اللتين نظّمتا حملات للتبرع بالدم، وتبنّت نقابة المحامين تشكيل لجنة تقصي حقائق لتوثيق جرائم الاحتلال، وشكّلت نقابة الصحفيين لجنة نقابية لإغاثة ودعم فلسطين.
سلاح المقاطعة بوجه الاحتلال
مع مرور الخطاب الرسمي المصري بتحولات واضحة لم تراوح الهدوء والتوازن، ولم تستطع في كل الحالات أن تصل إلى ما وصلت إليه في الصراعات السابقة، أشهرَ المصريون سلاح المقاطعة الفورية والنهائية في وجه الشركات الداعمة لقوات الاحتلال، أو المرتبطة بكيانات تدعم دولها العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، كنوع من أنواع الضغط للقاعدة الاستهلاكية العريضة على مثل هذه الشركات التي لم يشفع لبعضها التبرؤ من دعم “إسرائيل” لاحقًا.
وتشير سرعة الاستجابة الملحوظة لحملات المقاطعة إلى موجات غضب تزايدت حدّتها، مع عدم قدرة الشعب المصري بمختلف توجهاته على مدّ يد العون للفلسطينيين المحاصرين في القطاع، وانخراط المصريين مع الأحداث الجارية في فلسطين، وإظهار التضامن غير المحدود مع عمليات المقاومة وضحايا العدوان، الأمر الذي دفع منصات التواصل، لا سيما فيسبوك وإكس، إلى التضييق على المحتوى الناقد لما يرتكبه الاحتلال من مجازر.
مع إعلان واشنطن ودول غربية وشركاتها العاملة في مصر دعمها غير المشروط لـ”إسرائيل”، اتسعت دائرة دعوات المقاطعة التي رافقت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعقبت ذلك إعلانات أخرى من علامات تجارية كبرى عن دعمها لجهود المشاركين في العدوان على غزة، أبرزها سلسلة المطاعم الشهيرة بابا جونز، إضافة إلى برغر كينغ ودومينز بيتزا وستارباكس، وغيرها العديد من الشركات الشهيرة التي يُنظر إليها باعتبارها سلاحًا اقتصاديًّا فعّالًا في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
رغم القيود التي فرضتها شركات مواقع التواصل الاجتماعي، بدأ مصريون متعاطفون مع غزة حملة مقاطعة واسعة استهدفت البضائع الإسرائيلية والأجنبية، وتداولوا عددًا من العلامات التجارية الداعمة للاحتلال بهدف نشر الوعي بين المستهلكين، ودعوا إلى مقاطعتها شعبيًّا.
وأبرز هذه العلامات مطاعم الوجبات السريعة ماكدونالدز، التي لم تكتفِ بدعم جيش الاحتلال سرًّا أو عبر إعلان على استحياء، إنما نشرت صورًا لوجباتها التي تبرعت بها لجنود الاحتلال، وهم يتناولونها في مواقعهم العسكرية، حيث أعلنت التبرع بآلاف الوجبات المجانية يوميًّا لجنود الاحتلال لمعاونتهم على مواصلة الحرب ضد الفلسطينيين.
بعد نشر هذه الصور، ركّز صنّاع محتوى مصريون على دعوات لمقاطعة ماكدونالدز، وهو ما أجبر كثيرًا من فروع المطعم في دول عربية مختلفة على إصدار بيانات تتبرأ من فعل “ماكدونالدز إسرائيل” الذي اضطر لحذف الصور، محاولين إخلاء مسؤوليتهم من ذلك، لكن هذا قوبل برفض جديد من المتابعين الذين تداولوا صورًا لفروع ماكدونالدز فارغة تمامًا بعد دعوات المقاطعة.
لم تكن دعوات المقاطعة هذه المرة كسابقاتها التي اقتصرت على المنتجات الإسرائيلية والشركات متعددة الجنسيات الداعمة للاحتلال، بل امتدت الحملات لتشمل المنتجات الواردة من “الطرف الثالث”، وهي الدول التي عمّقت التطبيع الاقتصادي مع الاحتلال، لا سيما الإمارات.
ولم تكن حملات المقاطعة هذه على هوى غير الراغبين في توسيع قاعدتها الجماهيرية، وقابلها البعض بمحاولات لكبحها بحجّة تجنُّب الركود، والمحسوبون على النظام في مقدمتهم، ومن بينهم الإعلامي عمرو أديب الذي قلّل من جدوى حملة مقاطعة ماكدونالدز، واعتبرها “غير مؤثرة”، وقال إنها شركة مصرية يعمل بها مئات المصريين، مضيفًا أن القضية الفلسطينية لم تستفد شيئًا من إغلاق فروع المطعم، وأن الضرر يقع على مالك المطاعم والعاملين فيها، وهو ما أثار استياءً شعبيًّا وصل حد الانتقادات اللاذعة.
ورغم تراجع “ماكدونالدز مصر” وإعلانه تقديم تبرعات للقضية الفلسطينية، وتوفير آلاف فرص العمل للمصريين وحرصه على إطلاق مبادرات تنموية رائدة لخدمة المجتمع المصري، تواصلت حملات المقاطعة التي كبّدته خسائر بملايين الدولارات في عدد من الدول العربية، وبادرت بعض المطاعم المصرية والمحال التجارية بإعلانها استقبال العاملين المستقيلين من العمل.
انتفاضة على أرض الملعب
رغم القوانين المشددة على الرياضة، كانت الملاعب الرياضية متنفّسًا لتعبير الجماهير المصرية عن إظهار تضامنها مع غزة، فقد شهدت في الفترة الأخيرة حالة من الاتحاد بين الأندية التي كسرت حاجز الصمت الذي عانت منه الرياضة المصرية في السنوات الأخيرة.
وخلال مباراة النادي الأهلي أمام نادي الإسماعيلي، في ثاني أيام “طوفان الأقصى”، ضمن منافسات الدوري المصري لكرة القدم، هزت هتافات الجماهير استاد برج العرب تأييدًا للشعب الفلسطيني، كما شهدت المدرجات أعلام فلسطين بكثافة في دعم لعملية “طوفان الأقصى”.
جماهير الأهلي المصري تهتف “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”، ليست جماهير مصر فقط هذه جماهير كل العرب ❤️#طوفان_الاقصى pic.twitter.com/fjulH0v38j
— نحو الحرية (@hureyaksa) October 8, 2023
وتكرر المشهد خلال المباراة الأخيرة للنادي الأهلي ضد نادي سيمبا التنزاني في ربع نهائي الدوري الأفريقي لكرة القدم، حيث احتجّت الجماهير على إذاعة الأغاني في استاد القاهرة تضامنًا مع غزة، وشهدت احتفال اللاعبين بعلامة النصر، في حضور رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو.
وتجاوزت الجماهير واللاعبون المصريون في كثير من الأحيان حدود المنافسة المسيطرة على المباريات في مختلف البطولات، وتنوعت أشكال الدعم بين ارتداء اللاعبين قميص المنتخب الفلسطيني والكوفية الفلسطينية، والاحتفال بالأهداف على طريقة الطفل الفلسطيني الحاضر في الذاكرة “حنظلة”، ورفع العلم الفلسطيني، وإضافته إلى شعارات بعض الأندية على مواقع التواصل الاجتماعي دعمًا للقضية الفلسطينية.
واصل رياضيون مصريون تضامنهم مع ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو تضامن مكلف قد يأتي على حساب مسيرة الرياضي أو إقصائه من بطولات أو حتى إدخاله في دوامة القضاء والمحاكم.
مظاهر الدعم الرياضي للفلسطينيين امتدت إلى ملاعب الرياضات الجماعية الأخرى، فخلال مباراة نادي الزمالك لكرة اليد أمام الزهور بدوري المحترفين، زيّنت الجماهير مدرجات الصالة المغطاة بالعلم الفلسطيني، وهزت الهتافات المؤيدة لفلسطين أرجاء الصالة في مشهد استحقّ الإشادة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى هامش مباراة كأس السوبر لكرة السلة بين فريقَي الزمالك والأهلي التي أُقيمت في صالة خليفة في البحرين قبل أيام قليلة، أظهر لاعبو الفريقَين لقطات داعمة لفلسطين قبل بداية المباراة بالتزامن مع تصاعد العدوان على غزة، وهتفت جماهير الفريقَين بهتافات داعمة للشعب الفلسطيني، ورفعت الأعلام الفلسطينية في المدرجات.
وبما أن المشاهير مرآة لنبض مجتمعاتهم، صوتهم مسموع، وهم أنجح وسيلة لحشد الرأي العام، فلا غرابة إذًا أن يتفاعلوا مع مجمل الأحداث الراهنة، وأكبر تجسيد لهذا التفاعل موقف العديد من المشاهير المصريين من القضية الفلسطينية، بل الدعوات لحماية الشعب الفلسطيني.
منذ بدء العدوان على غزة، اختار بعض النجوم الصمت وعدم التعبير عن آرائهم، ومنهم هدّاف ليفربول وقائد المنتخب المصري محمد صلاح، الذي كانت الجماهير تنتظر منه أن يدعم الفلسطينيين، ويستغل شهرته لإيصال صوته وصوت محبّيه حول العالم، فمتابعوه بالملايين على منصات التواصل الاجتماعي، ما قد يحدث فرقًا فعليًّا.
الهلال الأحمر المصري أعلن عن تبرع صلاح بمبلغ مالي كبير لصالح ضحايا قطاع غزة دون الكشف عن قيمة التبرع، وبعد 13 يومًا من القصف على غزة، نشر صلاح أخيرًا مقطع فيديو باللغة الإنجليزية يعلن فيه دعمه للقضية الفلسطينية، داعيًا قادة العالم للتكاتف لوقف إراقة الدماء، ورغم أن الفيديو حقق ملايين المشاهدات، إلا أن البعض لم يرفع موجة العتاب ضده، ولم يكن البعض الآخر مقتنعًا بأداء ورسالة صلاح، وعزاها البعض إلى الضغط الذي تعرض له على مواقع التواصل الاجتماعي، وخسارته أكثر من مليون متابع على صفحته الرسمية.
في المقابل، كان للاعبين آخرين السبق في إعلان دعمهم الكامل، خاصة زملاء صلاح في الدوريات الأوروبية التي لا تتهاون في معاقبة المتعاطفين مع فلسطين، وكان في مقدمة هؤلاء أحمد حسن كوكا المحترف في نادي بينديك سبور التركي، ولاعب كرة القدم السابق محمد أبو تريكة، ولاعب نادي أرسنال الإنجليزي محمد النني، ولاعب نادي إيبسويتش تاون الإنجليزي سام مرسي.
محليًّا، كان للعدوان الإسرائيلي على غزة دور في توحيد الصفوف داخل الملعب على قلب رجل واحد، فقد أنهى العداوة القديمة بين قائد نادي الزمالك محمود شيكابالا وجماهير نادي الأهلي المصري بعد إعلان موقفه من الحرب على غزة، ونشره صورة مسجد قبة الصخرة وعلم فلسطين مصحوبة بتعليق “المقاومة حق”.
المقاومة حق pic.twitter.com/pzaJbZMzVR
— Shikabala (@Shikabala) October 9, 2023
واصل رياضيون مصريون تضامنهم مع ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو تضامن مكلف قد يأتي على حساب مسيرة الرياضي أو إقصائه من بطولات أو حتى إدخاله في دوامة القضاء والمحاكم، وهو ما عانى منه عبد الرحمن سامح، السبّاح المصري الفائز ببطولة العالم باليونان، جرّاء حملات تشويه بسبب دعمه للقضية للفلسطينية، حيث رفض الاحتفال خلال تتويجه بسبب قصف غزة، لينتهي الأمر بقيام الاتحاد الدولي للسباحة بحذف جميع صوره من حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم تحقيقه الميدالية الذهبية.
ويمكن النظر إلى هذه المواقف الشعبية في ضوء الخروج عن المألوف، فالتجمعات بصورة عامة تقلق السلطات المصرية الحالية، التي حرمت الجماهير من دخول الملاعب منذ حوالي 10 سنوات، ووضعتها في مكانة مساوية للخصوم السياسيين، ورغم العودة التدريجية للجماهير المصحوبة بقيود أمنية ورقابية شديدة، إلا أن حالة القلق التي تنتاب السلطات الأمنية من خروج الوضع عن السيطرة ما زالت تخيّم على الأجواء.