رغم دخول الحرب الإسرائيلية على غزة أسبوعها الثالث، ما زالت خيارات إيران حيال هذه الحرب معقدة، إذ شهد الموقف الإيراني منها تقلُّبًا واضحًا، سواء على مستوى المواقف السياسية أو التحركات العسكرية، ولعلّ السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى تعقيدات الموقف الاستراتيجي الذي أفرزته الحرب في غزة، وتحديدًا على صعيد المواقف الدولية الداعمة لـ”إسرائيل في هذه الحرب”، ما جعل إيران أمام وضع معقد للغاية، بين الذهاب نحو الانخراط في هذه الحرب بصورة مباشرة أو عبر حلفائها، أو الاكتفاء بعملية التعبئة السياسية والإعلامية الداعمة لحركة حماس.
أحد أبرز تعقيدات الموقف الاستراتيجي في هذه الحرب، هو نجاح الولايات المتحدة في تحييد الموقف الإيراني منها، على أقل تقدير حتى هذه اللحظة، فمع الساعات الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، عمدت الإدارة الأمريكية إلى التأكيد على أنها لم تتوصّل إلى أدلة واضحة على دور إيراني فيها، ومن جهة أخرى أثمرت عمليات الحشيد العسكري الأمريكي في مياه البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، عن توجيه رسالة ردع لحلفاء إيران في العراق واليمن ولبنان، من مخاطر التصعيد أو حتى فتح جبهات أخرى ضد “إسرائيل”.
دفع ذلك إيران إلى التأكيد على فكرة “المواجهة المشروطة” مع الولايات المتحدة في حال انخراطها في هذه الحرب، ورغم أن الدعم العسكري الأمريكي المباشر لـ”إسرائيل” يشير إلى انخراط أمريكي فعلي في هذه الحرب، إلا أن إيران لم تندفع، ودعمت عمليات الهجوم على المصالح الأمريكية في العراق وسوريا، ضمن استراتيجية “الردع المرن” الذي يوفر لها هامشًا من الإنكار المعقول لهذه الهجمات.
فإيران تدرك جيدًا مخاطر الانخراط المباشر في هذه الحرب، انطلاقًا من فكرة أن الدعم الدولي الذي حظيت به “إسرائيل” بالضد من حركة حماس، سيكون أكبر فيما لو انخرطت إيران فيها، كما أن إيران ومنذ انخراطها المباشر في الحرب السورية عام 2012، أصبحت غير قادرة على الانخراط في حرب دون مظلة دولية راعية لها أو لحلفائها.
ومثل هذه الرعاية غير متوفرة حتى اللحظة في الحرب الإسرائيلية على غزة، فالانخراط الروسي في الحرب الأوكرانية، إلى جانب عدم رغبة روسيا الجادة بالانخراط في هذه الحرب، جعل إيران عاجزة عن تحقيق حالة من التوازن الدولي، عكس الدعم الذي تتلقاه “إسرائيل” من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
تحركات عسكرية وقائية
تدرك إيران جيدًا المخاطر الاستراتيجية التي قد تنتج عن الاجتياح الإسرائيلي البرّي لغزة، سواء على مستوى أهمية القضية الفلسطينية لها كمدخل لشرعنة سياساتها الإقليمية، أو على صعيد مستقبل موقع حركة حماس ضمن معادلة “محور المقاومة”.
وما يؤكد الخشية الإيرانية من هذا الوضع، هو قيام وسائل الإعلام الإيرانية بنشر تصريحات مستمرة لجنرالات الحرس الثوري ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، باللغتَين العربية والإنكليزية، والتي تحاول من خلالها التأكيد على إمكانية تحول الصراع الحالي إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، في محاولة إيرانية لمخاطبة الرأي العام العربي والأمريكي والإسرائيلي، من أجل الضغط على حكوماته للتخفيف من حدة التصعيد العسكري في غزة.
ولمواجهة مثل هذا الواقع، تحدثت تقارير غير مؤكدة عن انخراط إيران وحلفائها، وتحديدًا في الجبهتَين السورية واللبنانية، بتحركات واسعة منذ الساعات الأولى لبدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، لإعادة تموضعها العسكري في ميادين الصراع المحتملة.
إذ انتشر العديد من المقاتلين في جنوب لبنان وجنوب غرب سوريا، ومن بينهم عناصر تتبع “حزب الله” اللبناني، ووحدات من الفصائل المسلحة العراقية، وفرقتا فاطميون الأفغانية وزينبيون الباكستانية، كما عملت إيران على إرسال شحنات عسكرية إلى سوريا ولبنان، ولعلّ هذا ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى شنّ غارات جوية على مطارَي دمشق وحلب الدوليَّين، لتعطيل التحركات العسكرية الإيرانية.
وفي الوقت الذي تحاول فيه إيران تنظيم تحركاتها في الساحة السورية من أجل الاستعداد لسيناريو الحرب مع “إسرائيل”، فإنها تواجه تحديًا مهمًّا يتعلق بإرسال مزيد من المقاتلين العراقيين للداخل السوري، خصوصًا بعد نجاح الولايات المتحدة في تعزيز وجودها العسكري على الحدود العراقية السورية منذ مطلع أغسطس/ آب 2023.
إذ يشكّل وجود القوات الأمريكية مصدر قلق خاصًّا لإيران وحلفائها العراقيين، من أن ينعكس سلبًا على دورهما العسكري في سوريا خلال الفترة المقبلة، حيث استقدمت القوات الأمريكية مؤخرًا تعزيزات عسكرية تضمّ آليات وجنودًا على الحدود السورية، قادمين من الجانب العراقي باتجاه مدينة القائم بالقرب من مدينة البوكمال الحدودية على امتداد نهر الفرات، كما أجرت قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن تدريبات عسكرية شاركت بها الطائرات الحربية في قاعدة كونيكو بريف دير الزور الشمالي.
أما على الجبهة اللبنانية، فقد أشارت عدة تقارير غير مؤكدة إلى انتقال عدد من قادة فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران إلى مواقع في لبنان، بالتزامن مع التصعيد الميداني في قطاع غزة، وأضافت أن قادة المجموعات المسلحة سافروا بشكل متواتر إلى لبنان برفقة عناصر مسلحة، ولا تبدو مهمتهم قتالية بل للاستطلاع والمتابعة بالتنسيق مع عناصر “حزب الله” اللبناني، وتحديدًا في مناطق مزارع شبعا والعديسة ومرجعيون والهبارية.
إذ إنه رغم التحرشات المتبادلة التي تجري بين “حزب الله” اللبناني و”إسرائيل” على طرفَي الحدود، إلا أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال التكهُّن بمستقبل هذه التحرشات وإمكانية تحولها إلى حرب مفتوحة، إذ تقوم طهران بتقييم الوضع على الأرض بحذر وباستمرار، وتشمل هذه الحسابات جزءًا مهمًّا، وهو احتمال تعريض “حزب الله” اللبناني ومشروع سيطرته على الدولة في لبنان للخطر.
وستؤثّر قيمة هذه الجهة الوكيلة، وردّ الفعل الإسرائيلي، وإمكانية التدخل الأمريكي، في قرار طهران بشأن فتح جبهة في لبنان أم لا، ولا شكّ أن هذه الاستراتيجية الظاهرة لـ”حزب الله” اللبناني قد تتغير في أي لحظة، حيث قد تفتح طهران جبهة ثانية في مرتفعات الجولان، وهو خيار تعتبره أكثر أمانًا من الحدود اللبنانية.
وتُعتبر الجولان منطقة مفضّلة للعمليات بالنسبة إلى قوة القدس والفصائل الحليفة، إلى جانب جهود الحرس الثوري في تجنيد مجموعات محلية لدعم أنشطة “حزب الله” اللبناني في سوريا، بينما ينشر طائرات مسيّرة وقدرات صاروخية في جميع أنحاء سوريا، لقيادة هجوم متعدد المجالات على “إسرائيل” مثلما فعلت حماس، ولعلّ هذا ما يفسّر الاهتمام الإيراني بتركيز حلفائها في جنوب سوريا.
خشية إيرانية من تداعيات الحرب
يمكن القول إن عدم وضوح سيناريو الحرب في غزة، وعدم وجود بيئة داعمة لإيران فيها، جعلت المخاوف الإيرانية تتصاعد حيال أي تداعٍ استراتيجي قد ينتج عن انخراطها العسكري، إذ تشير تحولات الموقف الإيراني منها، بداية بالتأكيد على عدم وقوف إيران وراء قرار حماس في بدء هذه الحرب، ومن ثم تأكيدها على التدخل في حال تدخلت الولايات المتحدة، ومؤخرًا دفع حلفائها لشنّ هجمات ضمن قواعد الاشتباك على أهداف أمريكية وإسرائيلية؛ إلى أن إيران مرتبكة في مواجهة الأزمة الحالية المتنامية في الصراع بين حماس و”إسرائيل”.
حيث إن فشل إيران في الرد على الهجوم الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة، قد يعيق استراتيجية إيران لتحقيق الهيمنة الإقليمية التي سعت إليها منذ عقود، كما أن الأولويات العسكرية والدبلوماسية والداخلية للنظام الإيراني قد تنهار في حالة أي هجوم خطير على “إسرائيل”، ورد فعل “إسرائيل” عليها يمكن أن يسبّب أضرارًا جسيمة لإيران، ويسبّب غضبًا شعبيًّا في بلد غارق حاليًّا في أزمة اقتصادية.
إن التصور الحالي الإيراني حول كيفية التعامل مع الحرب في غزة، يسير باتجاه دعم هجمات محدودة يشنّها “حزب الله” اللبناني على مواقع عسكرية إسرائيلية بالقرب من لبنان، ودعم الهجمات المحدودة للمجموعات الأخرى المتحالفة مع إيران على أهداف أمريكية في المنطقة، وتحديدًا في العراق، وهو ما بدا واضحًا للهجمات الصاروخية التي يتعرض لها الوجود الأمريكي في عدة قواعد عسكرية في العراق، وتحديدًا حرير وعين الأسد وفيكتوري، ومنع أي توتر من شأنه أن يورّط إيران في الصراع الحالي.
إجمالًا، يمكن القول إن هناك ثمنًا ستدفعه إيران، سواء اشتركت في هذه الحرب أم لم تشترك، فهي اليوم أمام معضلة الخيارات، ففي حالة اشتراكها في هذه الحرب فإن مشروعها سيكون على المحك، وإن لم تشترك فيها فإن نفوذها مهدد بالتفكُّك.
إلاّ أن التساؤل المهم هنا كيف ستتجاوز إيران هذه المعضلة؟ خصوصًا أنها مطالبة أكثر من غيرها في تحديد موقعها من هذه الحرب، إذ إن استفرادها بالخيار العسكري مع “إسرائيل”، في مقابل الخيار التطبيعي للدول العربية، جعل مصداقية إيران و”محور المقاومة” على المحك، خصوصًا أن شعار “الموت لإسرائيل” يمثل الركيزة الرئيسية التي يقوم عليها مشروعها الاستراتيجي في المنطقة.