“الإذاعة (مسموعة ومرئية) أقوى وسائل التعبير، أقوى من الكتاب والصحيفة والسينما، تعمل باستمرار في البيت والمقهى والنادي، تعمل اليوم بكثرة في الحقل من خلال “الترانسستر” فهل فكرنا التفكير الشامل لاستثمار تلك القوة لخير الإنسان والمجتمع؟” هكذا تساءل الأديب العالمي نجيب محفوظ في كتابه “حول التعليم والثقافة”، ولكن ماذا سيقول إن رأى عالم اليوم بعد مرور ما يقارب 30 عامًا على صدور كتابه (1990)؟
لقد صرنا في عصر مُختلف كما أشرنا بمقال “فضاء السوشيال ميديا.. كيف نُحسن استغلاله؟”، عصر لا يعتمد على تفضيلات القرّاء أو ما يطلبه المستمعون، بل ما تصنعه وتُشاركه الجماهير الغفيرة كأفراد عبر الإنترنت والإعلام الاجتماعي، ذاك الفضاء الذي يحوي زوايا جديدة في حياة البشر لم يتطرق لها الإعلام التقليدي، أو قل ليس باستطاعته معالجتها بحكم وهن التقنية أو السياقات، مما جعل الإعلام الجديد يفتح مسارات ومساحات بكر ليس على مستوى الوسيلة “التقنية” فحسب بل أيضًا على مستوى المضمون والمحتوى.
شبكة الإنترنت التي جعلت الأفراد قادرين على بث وإرسال النصوص والصور المتحركة والثابتة والأصوات بشكل حر ومجاني وآني، فهي ثورة اتصالات تواكبها ثورة مضامين واستخدامات
وجاءت الثورة، فإن كانت الصحافة وسيلة الاتصال الجماهيري في أثناء الحرب العالمية الأولى، والإذاعة خلال الحرب العالمية الثانية، وفي الستينيات والسبعينيات كانت السطوة للتليفزيون، فاليوم نحن أمام شبكة الإنترنت التي جعلت الأفراد قادرين على بث وإرسال النصوص والصور المتحركة والثابتة والأصوات بشكل حر ومجاني وآني، فهي ثورة اتصالات تواكبها ثورة مضامين واستخدامات، إلا أنه وإن كان يُبهرنا كم الحشود الواقفة منتبهة في ساحات شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي – قد حُشر الناس ضُحى – إلا أنه حشد بلا توجيه!
ولا توجيه دون معنى، ولا معنى دون مضامين ومحتويات مُحمّله بهذه المعاني، فأصل وبنية الإعلام الاجتماعي هو المضمون والمحتوى، ولا يُمكن فهم المحتوى منفصلًا عن سياقه، لذا تخبرنا نظرية الاتصال في أبسط صورها بأن عملية الاتصال تشمل عناصر أساسية هي: المُرسل والرسالة والمتلقي والوسيلة، فالمُرسل هو المصدر والرسالة هي المحتوى والمتلقي هو المُستقبِل والوسيلة هي التقنية (الإنترنت) في الإعلام الجديد.
والآن كيف نُعيد اكتشاف هذه المساحات وفق نظرية جديدة تدعم جماهير الأمة، وتمكنّهم من فهم رسالتهم والقيام بواجباتهم البلاغية والدعوية؟
كلمة السر لإجابة السؤال السابق هي: د. م. م. (دعوة مفتوحة المصدر)، دعوة ورسالة ليست مُقيدة يُمارسها بسطاء الناس وعامتهم قبل نخبتهم، وغير مُكبلة فلن تطالها يد أنظمة القهر والأسر، ولا محدودة في رؤيتها للعالمين أو الآخر، أو فقيرة حيث تستثمر إمكانات مادية ولوجستية لمئات الملايين من المسلمين حول العالم، إذًا هي دعوة غنية حرة راقية لأمم الأرض المتلهفة لسماع صوت الحق والخشية، كامتداد لبلاغ أنبياء الله ورسله جميعًا {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} الأحزاب: 39.
كلنا جميعًا بتنا مُشاركين في صناعة المحتوى والمعنى عبر الإنترنت
– أولًا المرسل: الجميع أصبح مرسلاً، فأنت ككاتب أو مغنٍ أو مصمم أو مُبرمج أو باحث أو مدون فيديو أو مُعلق صوتي أو مصور أو… كلنا جميعًا بتنا مُشاركين في صناعة المحتوى والمعنى عبر الإنترنت، وكل فئة من هؤلاء تحتاج مبادرة وفعل (شخصي أو جماعي) لتدريب وتطوير كوادرها وكفاءاتها على (معرفة – مهارات – أخلاق)، عبر علوم شرعية ومتخصصة وأدوات للاشتباك مع الواقع كالتقنيات الحديثة وأخلاق الوصول بالرسالة.
– ثانيًا الرسالة: لا بد من الانتباه للفقر الذي يعانيه المحتوى الإسلامي على مستوى الكم والنوع والإبداع، والانطلاق لصناعة محتوى شامل مُحمّل بقيم الإسلام يلامس هموم الناس – كل الناس – ومشاكلهم الحياتية اليومية وواقع معيشتهم، عبر منهج الإسلام وحلوله بلين وحكمة وحب.
– ثالثًا المتلقي: علينا أن نفهم حال ومآل ما نقول بالنسبة للمُخاطب {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه لِيُبَيِّن لَهُمْ} إبراهيم: 4، فلا بد من تأسيس حركتنا على بصيرة بأمة الدعوة ما دمنا أمة الإجابة، وذلك عبر إنشاء مراكز دراسات وأبحاث متخصصة في دراسة الفئات البشرية المختلفة وطبائعها وكيفية مخاطبة الفطرة فيها واستمالتها، وكذلك دراسة التكنولوجيا وأدواتها واستخداماتها وأثرها.
– رابعًا الوسيلة: ربما لا نتخيل الوسيط الذي سيُبلّغ الرسالة إلا وكأنه جماعة مُغلقة أو مجموعة سرية أو كيان موغل في النخبوية والاغتراب عن المجتمع، ولكن التكنولوجيا وأدواتها قد فرضت حلًا آخر، وهو ما نُطلق عليه “د. م. م” دعوة مفتوحة المصدر.
بيد أن الدعوة المباشرة (وجهًا لوجه) لها أبلغ الأثر وهي الروح والسبيل، إلا أننا بحاجة لحركة وبلاغ يغشى الناس بالناس أنفسهم، ستكون مباشرة أيضًا في بعض صورها إلا أنها تعتمد التقنية كوسيلة أساسية، في حركة لا تُقيّد أو تُمنع أو تُضرب أو تُفرّغ أو تُخترق أو تتفجّر من داخلها، والحل هو أن نصنع من كل مسلم نقطة حركة وفعل ذاتية (هدهد منفرد)!
برزت فيما يُمسى بالبرمجيات الحرة مفتوحة المصدر، حيث يصنع أحدهم برنامجًا إلكترونيًا يوقفه للناس مجانًا ويجعله مفتوحًا لمزيد من التطوير والتحديث، فهو بذلك يُنشئ برنامجًا بأقل تكاليف (وقت – مال)، وأعلى درجات للأمان وأقصى درجات المرونة
وذلك في إطار فلسفة المصدر المفتوح، والتي برزت فيما يُمسى بالبرمجيات الحرة مفتوحة المصدر، حيث يصنع أحدهم برنامجًا إلكترونيًا يوقفه للناس مجانًا ويجعله مفتوحًا لمزيد من التطوير والتحديث، فهو بذلك يُنشئ برنامجًا بأقل تكاليف (وقت – مال)، وأعلى درجات للأمان وأقصى درجات المرونة والحرية والكفاءة والتشاركية وسهولة الاستخدام، فهو كمن يُلقي حجرًا في ماء راكد ليتوالى اتساع الدوائر فيشمل كل الماء.
هذا يُمكننا عمله في دعوة إسلامية مفتوحة المصدر تعتمد على روح المبادرة (مبادرات فردية أو جماعية كثيرة)، يبدأ كل شخص أو مجموعة ليلتقط خيطًا دعويًا من الأربعة السابق ذكرهم (المرسل – الرسالة – المتلقي – الوسيلة)، ويتحرك ويثابر وسيصل وسيجد من يعاونه ويُساعده، وستنطلق إرادات وطاقات جموع المسلمين حول العالم، وسيمتلك الناس أدوات وطرقًا وأفكارًا ووسائل ورسائل وحكايات ومحتوى ليصلوا به لغيرهم، وسيستفيدوا مما وصلت له علوم التسويق والتكنولوجيا والبحث العلمي.
وسنجد مواقع كمواقع العمل الحر للدعوة الحرة، تطلب فيها تصميم دعوي بمناسبة شهر رمضان فيُصممه لك شخص من باكستان، ويتبرع صاحب مطبعة مصري سكندري بطباعته، وسيُحضر لك المطبوعات شخص آخر في طريق عودته للقاهرة، وسنجد شابًا له تجربة جيدة بالجزائر مع دعوة سائقي سيارات الأجرة يحكيها لنا ويُعلّمنا إياها، وسنجد شابة من إندونيسيا تستلهم فكرة “TEDx” وتصنع نموذجًا دعويًا فتجوب فكرتها العالم الإسلامي لتستنهضه.
سيد قطب: المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها
وسنجد الفئات الكثيرة المتنامية (الشعراء وكتاب السيناريو والرسامون والمدربون ورواد الأعمال وصانعو الأفلام) يدخلون في الدائرة ليمتلكوا رسالتهم ويُبلّغوا دعوتهم وسنجدك معهم.
يقول الأديب والكاتب العالمي سيد قطب: “التجار وحدهم هم الذين يحرصون على العلامات التجارية لبضائعهم، كي لا يستغلها الآخرون ويسلبوهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها، إلى حد أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين”.