“ينتقموا منا في الأولاد؟.. معلش.. إنا لله وإنا إليه راجعون”.. بهذه الكلمات ودع مراسل قناة “الجزيرة” في غزة، وائل الدحدوح، نجله محمود (16 عامًا) وزوجته وابنته شام (6 أعوام) وحفيده آدم (46 يومًا)، إثر قصف إسرائيلي للمبنى الذي يحتمي فيه رفقة عائلته في مخيم النصيرات جنوب قطاع غزة.
ورغم الألم والوجع تماسك الدحدوح الذي حرص خلال عمله كمراسل تليفزيوني على نقل الحقيقية من أرض الميدان داخل غزة، وكشف الكثير من جرائم الإبادة التي يمارسها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، قائلًا “الحمد لله رب العالمين، هذا هو جيش الاحتلال.. (دموعي) هذه هي دموع الإنسانية وليست دموع الخوف والانهيار والجبن، وليخسأ جيش الاحتلال”.
استهداف مراسل الجزيرة يأتي ضمن خطة ممنهجة للاحتلال يهدف من خلالها إلى ترهيب كل من يملكون الحقائق بحكم طبيعة عملهم، إعلاميون ودفاع مدني وأطباء وأطقم إغاثية، وذلك إما باستهدافهم بشكل شخصي وإما استهداف ذويهم بما يمثل ضغطًا عليهم، وذلك في محاولة مستميتة لطمس الحقيقة عبر جيوشه الإعلامية وترسانة الإعلام الدولي المتواطئ.
استهداف الصحفيين والمراسلين
منذ الحرب على غزة في السابع من الشهر الحاليّ، استشهد 13 صحفيًا من وسائل إعلامية عدة، بعضها وكالات أجنبية مثل “رويترز” التي استشهد منها الصحفي اللبناني عصام عبد الله، بجانب: حسام مبارك، وأحمد شهاب، وعلي نسمان، ومحمد أبو مطر، وإبراهيم لافي، ومحمد جرغون، ومحمد الصالحي، وأسعد شملخ، وسعيد الطويل، ومحمد صبح أبو رزق، وهشام النواجحة، والصحفية سلام ميمة التي استشهدت وزوجها وأطفالهما الثلاث، وآخرهم الصحفية دعاء شرف التي استشهدت اليوم مع طفلها.
ومن لم يمت من الإعلاميين برصاص القتل أو تحت أنقاض البنايات التي أسقطها القصف المتواصل، تعرض للاعتقال والتنكيل، كما حدث مع الصحفي نضال الوحيدي الذي أعلنت عائلته أسر قوات الاحتلال له رفقة آخرين، كما اعتقل في الضفة الغربية الصحفيون مصطفى الخواجا وصبري جبر وعبد الناصر اللحام ومعاذ عمارنة.
وبالتوازي مع ذلك تعرض صحفيون ومراسلون إلى الاعتداء من أفراد من الأمن الإسرائيلي، وهو ما حدث مع مراسلين شبكة “بي بي سي” البريطانية، وطاقم قناة “القاهرة الإخبارية” المصرية، حيث رُفح السلاح في وجوههم وأجبروا على المغادرة، فيما تعرض بعضهم للتهديد المباشر إن لم يتراجع عن نقل الحقائق التي تكذب الروايات الإسرائيلية التي لا تتوقف.
وللاحتلال سجل أسود في استهداف الصحفيين والإعلاميين بصفة عامة، حيث تعرض أكثر من 144 صحفيًا فلسطينيًا وأجنبيًا للاعتداء المباشر خلال تغطيتهم للأحداث في فلسطين خلال الفترة بين 2018- 2022 (90% منهم فلسطينيون و10% أجانب) بحسب تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، فيما سقط أكثر من 46 صحفيًا خلال معركة “سيف القدس” عام 2021، بحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين.
الانتهاكات، قتل أو اعتداء، لا تقتصر على الصحفيين فقط، بل تجاوزت ذلك إلى الاعتداء على مقار المؤسسات الإعلامية في غزة، حيث دمر الاحتلال عشرات المقار منها وكالة شهاب، ومكتب صحيفة الأيام، وشركة “إيفينت” للخدمات الإعلامية، ومكتب اليوم الإخباري، ووكالة معًا وسوا، وإذاعة القرآن الكريم، وإذاعة بلدنا، ومؤسسة فضل شناعة، بحسب “منتدى الإعلاميين الفلسطينييين”.
وفي عام 2021 وثقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين تدمير أكثر من 33 مؤسسة إعلامية خلال 10 أيام فقط من القصف الإسرائيلي على غزة، أبرزها: شبكة الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس الأمريكية وقناة روسيا اليوم والتليفزيون الألماني “زي دي إف” وتليفزيون دبي، وغيرها من المقار الخاصة بوسائل إعلام فلسطينية أو أجنبية.
ولعل أحدث جرائم الاستهداف المباشر للإعلاميين كان في 11 مايو/أيار 2022 حين أغتيلت مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، خلال تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، وهي الجريمة التي حاولت قوات الاحتلال التنصل منها لكن كل الشواهد والأدلة أثبتت تورطها دون أن تصل التحقيقات بشأنها إلى نتائج ملموسة حتى الآن، في ظل مماطلة ممنهجة من حكومة الاحتلال لإحراز أي تقدم بشأن سير التحقيقات.
الأطباء والدفاع المدني على قوائم الاستهداف
الانتهاكات ذاتها مورست ضد فرق الدفاع المدني، حيث استشهد قرابة 7 منهم: 4 خلال استهداف مقر للدفاع المدني شرق غزة، و4 آخرين في مقر آخر بحي تل الهوى جنوب غرب القطاع، هذا بخلاف تعرض أكثر من 17 منهم لاعتداءات على أيدي قوات الاحتلال، وفق ما أعلنه الهلال الأحمر الفلسطيني.
ويشير الهلال الأحمر إلى أن الاعتداءات التي تستهدف فرق الدفاع المدني هي اعتدءات ممنهجة تعكس رغبة الاحتلال في عرقلة عملهم، مؤكدًا في بيان له استشهاد 4 مسعفين وإصابة 5 آخرين جراء القصف الإسرائيلي، بجانب تعرض 8 سيارات إسعاف لأضرار مختلفة، كما لحقت أضرار جسيمة بمقر الجمعية شمال قطاع غزة وغرفة عمليات الطوارئ.
الأطباء كانوا كذلك على قوائم الاستهداف من قوات الاحتلال، فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ وثقت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة استشهاد 44 من فرق القطاع الصحي وإصابة 70 آخرين، أبرزها الاغتيالات المباشرة التي استهدفت 3 أطباء مع عائلاتهم، هذا بخلاف استهداف منازل عدد من الأطباء العاملين في مشافي القطاع.
الاستهداف ذاته طال 23 سيارة إسعاف تعرضت لقصف جوي مباشر، ما تسبب في إخراجها عن الخدمة بشكل كامل، كذلك استشهاد 10 مسعفين بجانب إصابة آخرين بحسب إحصاءات وزارة الصحة قبل أيام، مع ترجيح زيادة تلك الأعداد ساعة تلو الأخرى في ظل الإجرام الممنهج الذي ترتكبه حكومة الاحتلال دون رادع أو تحرك يوقفها عن حرب الإبادة التي تشنها في القطاع.
الترهيب لقتل الحقيقة
تحاول دولة الاحتلال بشتى السبل أن تكون سرديتها بشأن الحرب في غزة حكرًا عليها، وأنها الوحيدة التي تتناقلها وسائل الإعلام في شتى بلدان العالم، من أجل حشد وتجييش الرأي العام العالمي لصالح أجندتها الاستعمارية التوسعية، وبالتالي فإن أي سردية أخرى تنقل الحقيقة من قلب الميدان بالصوت والصورة تجهض تلك المحاولات وتضعها في مأزق حرج أمام العالم.
ومن هنا كان التحرك لإسكات تلك الأصوات هو الحل الوحيد لبقاء جسور الدعم الدولي لها مستمرة، ومن خلال متابعة الأحداث فإن الأطراف الفاعلة ميدانيًا واللصيقة بالمشهد عن كثب هم الأطباء والإعلاميون وفرق الدفاع المدني، ومن ثم فإن ترك هؤلاء يعملون بأريحية سيكون له تأثيره في تفنيد الرواية الإسرائيلية وإجهاضها بشكل كامل.
ومن هذا المنطلق عكفت قوات الاحتلال على بذل المستطاع لإسكات الأصوات كافة، إما بالاستهداف المباشر وإما بالترهيب عبر استهداف عوائلهم أو هدم منازلهم أو تدمير مقار عملهم، بما يدفعهم نحو التقهقر والرضوخ لتلك التهديدات، وهو ما يجعل المحتل المصدر الوحيد للخبر بما يخدم توجهاته وسياساته، وهو ما يمكن الوقوف عليه في ردود فعل الكثير من قادة العالم بشأن الجرائم المرتكبة، حيث لا يرون إلا ما يراه الاحتلال.
يبدو أن الاحتلال لم يتعلم من التاريخ ودروس الماضي، فمع كل فاجعة أو أزمة يتعرض لها الفلسطينيون يخرجون منها أقوى مما كانوا، مهما كان حجم الخسائر، فالترهيب يزيدهم قوة، والاستهداف يزيدهم إصرارًا، والتنكيل يثقل عزائمهم، ومع كل شهيد يسقط منهم يخلفه عشرات المشاريع من الشهداء من أطفال ولدوا رجالًا وعقدوا العزم على الثأر والانتقام وإن خذلهم الجميع.