لم يكد الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا ينتهي بنتيجة “نعم”، حتى بدأت التصريحات المضادة للنفوذ الإيراني تنطلق من عدد من العواصم العالمية، متهمةً النظام الإيراني برعاية الإرهاب.
بدأت بتصريحات الرئيس التركي أردوغان لتلحقه تصريحات المسؤولين الأمريكيين ثم البريطانيين والفرنسيين، وكأن الدول الكبرى كانت تنتظر نتيجة الاستفتاء، ليتسنى لها التعامل مع دولة تركية قوية في المنطقة، وهي في طريقها لتحجيم النفوذ الإيراني، وفق خطة تتوزع فيها الأدوار على أكثر من دولة.
ما الجديد بحملة التصريحات ضد النظام الإيراني وأتباعه؟
رغم أن تصريحات القادة الغربيين والأتراك في توصيفها للحالة الإيرانية لم تأت بجديد، لكن الجديد هو الموقف الذي بدأوا يتخذونه ضد النظام الإيراني وفي هذا التوقيت تحديدًا، ومع أن الرئيس الأمريكي صرح علنًا في أيامه الأولى في البيت الأبيض عن عدائه لإيران، بل وأصدر عقوبات على 25 كيانًا إيرانيًا ردًا على التجارب الصاروخية الإيرانية، لكن البرود الذي أصاب ترامب وإدارته بعد ذلك بسبب انشغاله بإخفاقاته على صعيد سياسته الداخلية، أعطى رسالة خاطئة للنظام الإيراني، وظنوا أنهم في فسحة من الضغط الأمريكي الغربي، وأن بإمكانهم الاستمرار بما يفعلونه منذ سنوات عديدة، حتى وصل بهم الأمر لارتكاب جريمة ضرب المدنيين بالسلاح الكيمياوي من خلال ذراعهم النظام السوري.
أبدت كثير من دول العالم ارتياحها لهذه الضربة، وترحيبها بالتحولات السياسية الأمريكية تجاه النظام السوري
جاء الرد الأمريكي على غير المتوقع، ذلك عندما وجهت ضربة صاروخية للمطار الذي انطلقت منه الطائرات السورية لتنفيذ الضربة الكيمياوية، متجاهلين بذلك الوجود الروسي العسكري على الأراضي السورية بل ومستهين به، والتي لم تستطيع أن تقوم بأي رد فعل ذي قيمة ضد هذه الضربات، ولسان حال الولايات المتحدة الأمريكية يقول إنها طوت صفحة محاولاتها بالسعي لتأهيل النظام السوري، وآن الأوان لكي يغادر الأسد وعائلته السلطة، بسبب خرقه للاتفاقيات الدولية الخاصة بالأسلحة الكيمياوية.
بعدها أبدت كثير من دول العالم ارتياحها لهذه الضربة، وترحيبها بالتحولات السياسية الأمريكية تجاه النظام السوري، بل إن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون لم يتأخر بتأييده للولايات المتحدة الأمريكية بضربتها الصاروخية وطالب بتكرارها، ووصف بشار الأسد (بالإرهابي الأكبر)، بل إنه لم يستبعد مشاركة بريطانيا بضربات أخرى مشتركة مع الأمريكان، وطالب أيضًا بجر الأسد لمحكمة الجنايات الدولية، وهذا يعني أن التحولات في السياسة الغربية وارتفاع نبرة الانتقادات التركية ضد النظام الإيراني، لها ما ورائها هذه المرة.
من أين سيبدأون بتحجيم النفود الإيراني؟
ووفق التحركات الدولية الحالية، فإن الدول الغربية عقدت النية على ضرب إيران في مناطق نفوذها المنتشرة في المنطقة، بدءًا من سوريا، ومرورًا باليمن وانتهاءً بالعراق، فخيوط الإدانة لإيران وتابعها النظام السوري بدأت تحاك من فرنسا، عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان أيرولت أن بلاده ستقدم دلائل على ضلوع نظام الأسد في الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وأضاف أن الاستخبارات الفرنسية ستقدم خلال أيام دليلاً على ضلوع قوات الأسد بالهجوم الكيميائي.
لا نستبعد أن تقوم الدول الغربية بعمليات عسكرية خارج إطار مجلس الأمن الدولي
موضحًا أن جهازي الاستخبارات والاستخبارات العسكرية في فرنسا يجريان تحقيقات سيعقبها تقديم الدليل، مشيرًا إلى أن لدى باريس معلومات تتيح إظهار الحقيقة، وبالتأكيد سيعقب تقديم تلك الأدلة، اتخاذ قرار أممي بتجريم النظام السوري وتقديم رموزه للمحاكم الدولية بتهمة خرق القرار الأممي القاضي بتخلصه من الأسلحة الكيميائية فضلًا عن استخدامها.
وإذا ما فكرت روسيا باستعمال حق الفيتو هذه المرة، فلا نستبعد أن تقوم الدول الغربية بعمليات عسكرية خارج إطار مجلس الأمن الدولي، وستعاني حينها روسيا، عزلة دولية خانقة لا تستطيع تحملها، في الوقت الذي أجمعت كل الدول الفاعلة بالعالم على ضرورة وضع حد للنظام السوري ومن خلفه النظام الإيراني.
لذلك فمن غير المرجح أن تستمر روسيا بتقديم تلك الخدمات للنظام السوري إذا ارتفعت كلفة فاتورته السياسية والاقتصادية، بل من المرجح أن تقبل روسيا بإيجاد حل وسط يقضي بالتخلص من نظام الأسد وعائلته على شرط ضمان مصالح روسيا في ملفات أخرى لا تقل أهمية عن الملف السوري بالنسبة لروسيا، وما التدخل البري الأمريكي الذي بدأ بالتحرك في سوريا دون التنسيق مع روسيا أو إيران أو النظام السوري، عندما قامت بعملية عسكرية أسفرت عن القضاء على أحد أهم مساعدي البغدادي، إلا دليلًا على أن الولايات المتحدة حسمت أمرها وبدأت العمل من غير مراعاة لأحد من اللاعبين بالمحور الروسي.
وعلى ما يبدو أن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، لن تكتفي بالرد على إيران في سوريا فقط، إنما عزمت على الرد عليها في اليمن أيضًا، فقد صرح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس من السعودية أن إيران تلعب دورًا يزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط، ويتعين دحر نفوذها لإنهاء الصراع في اليمن، وأضاف “في كل مكان حيثما تنظر إذا كانت هناك مشكلة في المنطقة فإنك تجد إيران”، وأكد قائلًا: “علينا التغلب على مساعي إيران لزعزعة استقرار بلد آخر (بإشارة إلى اليمن) وتشكيل مليشيا أخرى على شاكلة حزب الله اللبناني”.
وتخطط الولايات المتحدة الآن لإجبار الحوثيين (الذراع الإيرانية في اليمن) على الجلوس إلى طاولة المفاوضات برعاية أممية، وإلغاء دورهم كلاعب عسكري وسياسي مهم في اليمن، وتمكين الشرعية المتمثلة بحكومة هادي، ويرجح أن تصل جهود الولايات المتحدة بهذا الشأن، إلى حد دعم التحالف العربي عسكريًا ولوجستيًا، من أجل كسر شوكة الحوثيين.
إن العراق سيكون آخر محطة لمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة وأكثرها عنفًا
وعلى ما يبدو فإن العراق سيكون آخر محطة لمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة وأكثرها عنفًا، ذلك لأن إيران ستكون أكثر شراسة في الدفاع عن نفوذها فيه، كونه يمثل بالنسبة لها، التجربة الناجحة الوحيدة بشكل كامل، في الاستيلاء على بلد ضمن قائمة البلدان التي تروم الاستيلاء عليها، كما مثَّل العراق لإيران المتنفس الاقتصادي الأهم وكان له دور كبير في تخطيها للصعوبات الاقتصادية التي واجهتها بسبب العقوبات الغربية في فترة ما قبل توقيع الاتفاق النووي.
كما أن العراق كان وما زال يمثل لها الخزان البشري الذي تستعين به لرفد مليشياتها المنتشرة بكثير من الدول بالعناصر المليشياوية، والواضح من السياسة الأمريكية وتصريحات مسؤوليها، أنها لن تتوقف عما يمكن أن تفعله موسكو لإنقاذ إيران والأسد، بل انطلقت للبدء بإجراءات تحجيم النفوذ الإيراني في العراق وسورية، والكلام الذي سمعه حيدر العبادي بزيارته لواشنطن كان واضحًا بحل وإبعاد مليشيات الحشد الشعبي ذات الولاء الإيراني، عن مفاصل الحكم في العراق.
الولايات المتحدة تتبع سياسة النفس الطويل بما يخص العراق
يبدو أن الولايات المتحدة تتبع سياسة النفس الطويل بما يخص العراق، فهي ما زالت مشغولة في إدارة حرب عناصر داعش في الموصل ومن بعدها ستتوجه لمكافحة عناصر داعش في مدن الأنبار الحدودية مع سوريا، وبعد ذلك ستتفرغ لموضوع الذراع الإيراني في العراق والمتمثل في المليشيات المنضوية تحت اسم “الحشد الشعبي”، لكنها بنفس الوقت يزيد الجيش الأمريكي من وجود قواته حاليًا في العراق، وترعى الإدارة الأمريكية كل الاجتماعات التي يقوم بها السياسيون السنَّة في تركيا وعواصم أوروبية أخرى، لإيجاد مرجعية سياسية للمكون العربي السنَّي، تمهيدًا لإصلاح العملية السياسية في العراق وفق الرؤية الأمريكية، مستبعدةً فيها النفوذ الإيراني، المسيطر عليها منذ سنوات.
أين تركيا من كل هذه الأحداث؟
خرجت تركيا بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية بموقف سياسي أقوى من السابق، وسيؤهلها ذلك للعب دور أكبر وأكثر أهمية في المشاكل التي تعيشها المنطقة، فبعد يومين من الاستفتاء قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “إيران تنتهج سياسة انتشار وتوسع فارسية وأصبحت تؤلمنا في العراق”، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك ووصف الحشد الشعبي (الذراع الإيراني في العراق) بشكل صريح، بأنه “منظمة إرهابية” قائلاً: “من هؤلاء الحشد الشعبي؟ من يدعمهم؟ البرلمان العراقي يؤيد الحشد الشعبي ولكنها منظمة إرهابية بصراحة ويجب النظر إلى من يقف وراءها”، وهو أجرأ تصريح يطلقه مسؤول تركي بخصوص ما يحدث في العراق، وفيه إشارة واضحة للنظام الإيراني.
لتركيا دورًا مركزيًا في هذا العمل سواء كان في سوريا أو في العراق
والسؤال هنا، وماذا بعد ذلك؟ وكما قلنا إن هناك على ما يبدو توافقًا غربيًا وعربيًا وتركيًا بتنسيق العمل لتحجيم النفوذ الإيراني، وبالتالي فإن لتركيا دورًا مركزيًا في هذا العمل سواء كان في سوريا أو في العراق، فالغرب أبعد خلافاته مع الأتراك جانبًا حينما خرجت تركيا من الاستفتاء كدولة قوية، وبدأ الغرب بالتعامل بواقعية سياسية مع دولة تركية قوية ظهرت الآن، بعد أن غيرت النظام السياسي الحاكم بالبلد إلى نظام أكثر قوة وأقل مشاكل داخلية.
ويرجح أن يكون تحديد مناطق آمنة في شمال سوريا وعند الحدود التركية، من أول النقاط التي سيتم العمل عليها مع الأتراك وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، أما في الشأن العراقي فمن المرجح أن تدعم الولايات المتحدة خططًا تركية بما يخص توجيه ضربات لحزب العمال الكردستاني والمدعوم من قبل إيران داخل العمق العراقي.