منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”، أعلنت حكومة الاحتلال عن هدف وحيد للردّ على مقتل 1400 إسرائيلي، يتمثل بـ”القضاء على حماس” في قطاع غزة.
وكرر المسؤولون في حكومة وجيش الاحتلال على مدار أيام العدوان الذي بدأ منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مصطلح “القضاء على حركة حماس”، ودفعوا الولايات المتحدة ودولًا غربية لدعمهم في تحقيق ذلك.
وعزفت دولة الاحتلال على نغمة تشبيه حركة حماس بتنظيم “داعش”، في سبيل شيطنتها وتسهيل القضاء عليها وتغيير واقع قطاع غزة كليًّا.
ومع أن إنهاء حركة حماس، المتجذرة بفكرها ومقاومتها تمامًا، هدف إسرائيلي يصعب تحقيقه، باعتراف مسؤولين وخبراء إسرائيليين وأمريكان، فقد أثيرت تساؤلات عن مخططات تل أبيب تجاه قطاع غزة حال انتصارها في المعركة.
غياب التصورات
لا يزال التصور الإسرائيلي لغزة من دون حماس غير واضح، كما لا يعرف أحد كيف يمكن أن يكون شكل الحكم في هذه البقعة البالغة مساحتها 360 كيلومترًا.
وبغض النظر عن نتيجة الحرب الإسرائيلية المقبلة، فليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان سكان غزة على استعداد للتخلي عن حماس، التي تعدّ أكثر من مجرد حزب سياسي أو فصيل عسكري.
لكن في خضمّ الحشد الإسرائيلي المستمر دوليًّا لفكرة “القضاء على حماس”، اعترف مسؤولون إسرائيليون بعدم وجود تصور واضح حتى الآن لما بعد هذه الخطوة، حال نجاحها.
وقال تساحي هنغبي، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، للصحفيين في 17 أكتوبر/تشرين الأول: “نحن بالطبع نفكر في هذا الأمر، بما يتضمن تقييمات ويشمل مشاركة الجيش وآخرين بشأن الوضع النهائي”، وتابع: “لا نعرف على وجه اليقين كيف سيكون (شكل إدارة قطاع غزة)، لكن ما نعرفه هو ما الذي لن يكون”، في إشارة إلى أن حماس لن تكون موجودة بعد الحرب.
وقالت مصادر مطلعة في واشنطن لمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، إن بعض مساعدي الرئيس الأمريكي جو بايدن يشعرون بالقلق من أن “إسرائيل” لم تضع بعد استراتيجية لمرحلة ما بعد حماس، وأضافت أن الرحلات التي أجراها وزيرا الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن إلى “إسرائيل”، شددت على الحاجة إلى التركيز على خطة ما بعد الحرب في غزة.
ولذلك ما زال على الإسرائيليين أن يبلوروا رؤية أو استراتيجية لما قد تبدو عليه غزة في مرحلة ما بعد حماس، وقال مسؤول إسرائيلي كبير لمجلة “تايم” الأمريكية: “من السابق لأوانه الحديث عن هذا الأمر بالنسبة إلينا. ينصبّ التركيز على القتال وكسب الحرب في الوقت الحالي، وما سيحدث في اليوم التالي سيستغرق بعض الوقت”.
ومع غياب التصورات والخطط الإسرائيلية، طرحت وسائل إعلام عديدة أبرز السيناريوهات لمرحلة ما بعد حماس.
سيطرة فتح
أحد السيناريوهات أن تتوصّل “إسرائيل” إلى تسوية مع السلطة الفلسطينية المشكّلة من حركة فتح للسيطرة على قطاع غزة بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي، لضمان عدم قدرة حماس على إنشاء جناح عسكري مرة أخرى، وفق ما تقول مجلة “تايم” الأمريكية.
كما أكد مركز بيغن السادات للأبحاث الإستراتيجية (عبري) أن “أفضل فكرة تخدم المصالح الإسرائيلية تتمثل بإنشاء إدارة مرتبطة بالسلطة الفلسطينية في غزة، إلى جانب برنامج إعادة إعمار ضخم تدعمه الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الدولية والإقليمية الأخرى التي تشارك “إسرائيل” المصالح الأساسية هناك”.
لكن هذا السيناريو غير مرجّح، لأن السلطة الفلسطينية لديها سجلّ رديء في غزة، كما أنها لا تحظى بشعبية في الضفة الغربية، حيث أدى الفساد إلى تأجيج الغضب والاستياء.
وفي عام 2007، طردت حماس قوات السلطة الفلسطينية من غزة ضمن ما عُرف بـ”الحسم العسكري”، إثر عدم تمكين الحركة الإسلامية من الحكم بعد فوزها بالانتخابات التشريعية بنسبة كاسحة عام 2006.
ولذلك، ترى مجلة “تايم” أنه من الصعب أن يساعد وضع السلطة الفلسطينية على دخولها إلى غزة على ظهور الدبابات الإسرائيلية، وتقول إن احتمال أن تعود حماس هنا كبيرة بمجرد مغادرة جيش الاحتلال.
وبدورها، رأت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أن هناك حاجة لدعم السلطة الفلسطينية، التي قد يُطلب منها إعادة فرض سيطرتها على غزة، رغم أنها تعتبر مؤسسة ضعيفة تفتقر إلى المصداقية بين الفلسطينيين.
وربما تتطلب أي خطوة من هذا القبيل تغييرات شاملة في سياسة “إسرائيل” تجاه الضفة الغربية المحتلة، حيث تتمركز السلطة الفلسطينية، بما في ذلك التوسع الاستيطاني، لكن يعارض ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف بشدة تقليص المستوطنات هناك، ما يضعف إمكانية تحقيق هذا السيناريو.
إعادة الاحتلال
وبسبب صعوبة سيطرة السلطة الفلسطينية، تتحدث وسائل إعلام عديدة عن احتمال آخر، يتمثل في احتلال “إسرائيل” قطاع غزة لعدة سنوات، واحتلت “إسرائيل” قطاع غزة سنة 1967 لكنها غادرت منه عام 2005، بعد سنوات من العمليات الفدائية الموجعة للاحتلال.
لكن خيار الاحتلال من شأنه أن يثير المزيد من الاستياء الفلسطيني تجاه “إسرائيل”، ما يؤدي إلى ظهور جيل جديد من المقاتلين، كما أن ذلك قد يخاطر بإثارة عدم استقرار إقليمي أوسع نطاقًا.
ولفتت مجلة “تايم” الأمريكية إلى أن أي أمل في إحياء اتفاق التطبيع الإسرائيلي السعودي الذي تتوسط فيه الولايات المتحدة، سيكون محبطًا مع هذا السيناريو، وهو ما أكده كذلك مركز بيغن السادات للأبحاث الاستراتيجية.
ومن المرجّح أن تتحول الصفقة من ميتة إلى مرحلة الدفن، لذلك لم يكن من المفاجئ أن الرئيس جو بايدن حذّر “إسرائيل” بالفعل من خطورة إعادة احتلال غزة.
وبدوره، يقول مركز بيغن السادات إن إعادة احتلال قطاع غزة على أساس طويل الأمد، من شأنه أن يزيد من سيطرة “إسرائيل” الأمنية إلى الحد الأقصى، لكنه أيضًا سيؤدي إلى تعظيم التكاليف السياسية والدبلوماسية، فضلًا عن العبء الاقتصادي.
وستتحمّل “إسرائيل” المسؤولية الكاملة عن سكان غزة، بما في ذلك إعادة الإعمار، كما أن وجود قواتها في المناطق الحضرية الفلسطينية من شأنه أن يجعلها مكشوفة باستمرار ومصدرًا دائمًا للاحتكاك، وهو جزء من السبب وراء انسحاب “إسرائيل” من القطاع في المقام الأول، وفق المركز.
الوصاية الدولية
ضمن السيناريوهات، يطرح بعض الأمريكيين والإسرائيليين فكرة الوصاية الدولية لحكم قطاع غزة على أساس مؤقت، إلى أن يتم التوصل إلى حلّ دائم، وهو نوع من العودة إلى نظام “الانتداب” الذي سبق إنشاء “إسرائيل”.
وهنا ستكون الأمم المتحدة بمثابة مشرف على توجيه عملية ضخّ ضخمة من الأموال للإغاثة الإنسانية، وإعادة بناء مدن غزة التي سُويت بالأرض، وبعد فترة من إعادة البناء الفعلي، تشرف قوة حفظ السلام على الانتخابات التي يستطيع الفلسطينيون من خلالها اختيار قادتهم الجدد، وفق ما تقول مجلة “تايم”.
وفي هذا السيناريو، تطرح “فاينانشال تايمز” إمكانية قيام الدول العربية، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية، بلعب دور مباشر، بما في ذلك الدعم المالي ودعم حفظ السلام في غزة.
لكن رغم أن الفكرة تبدو جيدة على الورق، فإن القليل من الناس يعتقدون أنها ممكنة، ويقول مركز بيغن السادات للأبحاث الاستراتيجية إن المشاركة الدولية أمر حيوي لتمويل وتوجيه وتنفيذ عملية إعادة الإعمار والنظام السياسي الجديد في قطاع غزة، لكن بعد التجارب المكلفة والفاشلة في العراق وأفغانستان، لن يكون لدى الدول الغربية ولا العربية القدر الكافي من الحماس لقبول المسؤولية الكاملة عن إدارة غزة.
ولا تنجح القوات الدولية في مهمات حفظ السلام إلا عند توفر إرادة حقيقية لذلك، ويمكن هنا الاستشهاد بالحال في سيناء، وحيثما تغيب هذه الإرادة فإن القوات الدولية إما أن يتم طردها وإما تصبح بلا أهمية بسبب عدم الرغبة في تحمل الخسائر.
سيناريوهات أكثر سوداوية
وفي ظل غياب السيناريوهات الواقعية أو صعوبة تطبيقها، بدأت تبرز خيارات أقل منطقية وأكثر سوداوية، من بينها أن يصبح الوضع الإنساني في غزة سيّئًا للغاية، ما يدفع المدنيين إلى الفرار بأعداد كبيرة إلى مصر المجاورة، وفق ما قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
ومنذ أن بدأت “إسرائيل” غاراتها العنيفة على قطاع غزة، طالبت المدنيين بالنزوح من الشمال إلى الجنوب تمهيدًا لتنفيذ توغُّل برّي، مع دعوات أخرى تقترح عليهم عبور الحدود نحو سيناء المصرية.
وهذا المخطط أعلنت دول عربية من بينها مصر والأردن رفضها له، وقالت إنه بمثابة إعلان حرب، كما أن سكان غزة يرفضونه لأنه بمثابة نكبة جديدة كالتي حدثت عام 1948، وإلى جانب هذا الطرح هناك سيناريو أكثر سوداوية، يتمثل في أن تصبح غزة مضطربة إلى درجة أنه سيكون من المستحيل على كيان حاكم واحد أن يسيطر عليها.
ويمكن أن “يخلق ذلك فراغًا يؤدي إلى ظهور عدة جيوب من الحكم للقوى المتطرفة، سواء كانت “داعش” أو أحد فروعها المتمركزة في مدينة رفح جنوب غزة، أو حركة إسلامية أو سلفية جهادية أخرى، أو نسخة جديدة من حماس، سواء في الاسم أو الروح”، وفق وصف مجلة “تايم”.