يبدو أن حالة من الفوضى وعدم اليقين بدأت تسود العالم، أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. فقد شهد القادة المستبدون صعودا في الساحة السياسية وأصبحت الديمقراطية تحت الحصار، وبالتالي، بدأ نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية في التلاشي مع نشوب حروب حول النزاعات الحدودية. أما المؤسسات الدولية (التي بُنيت على الأقل لتكون مكابح للذبح الوحشي) فقد فشلت في تقديم أية حلول. وبدلا من أن يثير ذلك غضب الحركات الشعبية على جانبي المحيط الأطلسي، ساهم في إثارة التخوفات من ديانات “الآخرين” وخاصة المسلمين.
في الواقع، إن هذه التحديات التي يواجهها الغرب قد تمت بلورتها في فكر يخلط بين مفاهيم تتمحور جُلها حول ما يحدث في سوريا حيث “يقتل المسلمون المسلمين”. والآن، بعد مرور سبع سنوات على اندلاع الحرب، لقي ما يقارب 400 ألف سوري حتفهم وغرق الملايين في البؤس، وفرّ الملايين إلى البلدان المجاورة، بينما لجأ بعضهم إلى أوروبا. من جانب آخر، تبدو الفكرة المتمثلة في أن المجتمع الدولي بعد الحرب لم يعد يسمح للقادة بقتل مواطنيهم، في تراجع تام. ولعل محاربة النظام السوري لمعارضيه وشعبه خير مثال على وحشية الدولة التي لم يشهد لها مثيل منذ عقود.
وفي خضم كل ذلك، كان بشار الأسد يختبئ وراء ذريعة زادت شعبيتها إبان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2011 سنة؛ ألا وهي “دحر الإرهاب”. وفي هذا الصدد، قال المنشق السوري، ياسين الحاج صالح، وهو يساري علماني ومعتقل سياسي قضى قرابة عقدين في سجن النظام في عهد والد الأسد حافظ وسلفه بشار، “لم تتسبب سوريا في كل شيء، لكنها في المقابل ساهمت في تغيير العالم”.
حتى الهجوم الصاروخي الذي شنته الولايات المتحدة على قاعدة جوية عسكرية سورية، الذي أمر به الرئيس ترامب ردا على الهجوم الكيميائي الذي استهدف بلدة يسيطر عليها المتمردون، هو مجرد رد فعل بسيط أمام أحداث ضخمة مضطربة
في الحقيقة، إن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشلول، أما وكالات الإغاثة فمغلوبة على أمرها. فحتى الهجوم الصاروخي الذي شنته الولايات المتحدة على قاعدة جوية عسكرية سورية، الذي أمر به الرئيس ترامب ردا على الهجوم الكيميائي الذي استهدف بلدة يسيطر عليها المتمردون، هو مجرد رد فعل بسيط أمام أحداث ضخمة مضطربة، علما وأن هذه العملية العسكرية تعد آخر تدخل أحادي في الحرب.
في المقابل، وبعد أسبوعين، واصلت الحكومة السورية، المدعومة من قبل روسيا، سياسة الأرض المحروقة. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يزال هناك توافق في الآراء حول؛ ما كان ينبغي، أو هل لازال من الممكن القيام به في سوريا، أو ما إذا كان النهج الدولي المتبع أكثر أو أقل شدة من المطلوب، وهو ما كان من المفترض أن يحقق نتائج أفضل.
في الواقع، تشبث البيت الأبيض في عهد أوباما بموقفه إزاء الشأن السوري وأبقى على أسس حازمة ومفهومة لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي ارتكبت عند غزو العراق واحتلاله. وزعم القادة الغربيون أنه على خلاف الحرب الأهلية، التي جدت في البوسنة في التسعينات، فإن الصراع السوري يمكن أن يشتعل بمعزل عن بلدانهم. وسواء كان ذلك أخلاقياً أم لا، فقد كانت حساباتهم خاطئة ووصلت الأزمة لعتبة أوروبا وباتت تتجلى في سياستها.
وفي هذا الشأن أفاد المواطن الهولندي، جوست هيلترمان، وهو مدير الشرق الأوسط لمجموعة الأزمات الدولية، “لقد ألقينا القيم جانبا، ولكننا لم نتمكن أيضا من العمل من أجل مصالحنا الخاصة، لأننا تركنا الأمور في سوريا تخرج عن سيطرتنا”.
اندلع النزاع سنة 2011، مع احتجاجات سياسية قوبلت بقصف من قبل قوات الأمن السورية، وبدعم غربي أقوى في التصريحات الكلامية منه في الواقع. قام بعض خصوم الأسد بحمل السلاح. وهو ما ردت عليه الحكومة باعتقالات واسعة، فضلا عن التعذيب، والحصار وقصف المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. ومن هناك نشأ الجهاديون المتطرفون، وفي نهاية المطاف أعلن تنظيم الدولة الخلافة وانتشرت أعمال العنف في أوروبا.
تم استخدام صور حشود اللاجئين اليائسين، والعنف الشديد الذي واجهوه في بلدهم الأم، من قبل السياسيين لتغذية المخاوف من الإسلام، والمسلمين
وعلى ضوء ذلك، فر أكثر من خمسة ملايين سوري من بلادهم، وانضم مئات الآلاف منهم إلى صفوف اللاجئين الذين عبروا البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. في الحقيقة، تم استخدام صور حشود اللاجئين اليائسين، والعنف الشديد الذي واجهوه في بلدهم الأم، من قبل السياسيين لتغذية المخاوف من الإسلام، والمسلمين. ورفعت الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة شعارات مناهضة للاجئين، من فنلندا إلى المجر.
من جانب آخر، شكلت أزمة اللاجئين واحدة من أكبر التحديات التي يواجهها تماسك الاتحاد الأوروبي وبعض قيمه الأساسية على غرار؛ حرية التنقل، والحدود المشتركة، والتعددية. وقد زاد ذلك أيضا من القلق إزاء الهوية والثقافة، مما أدى إلى انعدام الأمن الاقتصادي وعدم الثقة في النخب الحاكمة التي نمت على مدى عقود مع العولمة والأزمات المالية.
رجل يحمل جثة طفل ميت، بعد الهجوم بالأسلحة الكيميائية على مدينة خان شيخون في إدلب التي يسيطر عليها المتمردون، سوريا 4 نيسان/ أبريل 2017.
فجأة أقامت الدول الأوروبية أسوارا ومعسكرات اعتقال لوقف المهاجرين. وفي حين رحبت ألمانيا باللاجئين، قاومت بلدان أخرى تقاسم العبء. تحدث اليمين المتطرف عن حماية الأبيض، أوروبا المسيحية. حتى حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد لعبت جزئيا، على مخاوف اللاجئين.
في يوم الأحد، من المرجح أن تتمكن المرشحة المناهضة للمهاجرين والمسلمين، مارين لوبان، التي ترغب في بقاء الأسد في السلطة، من لفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية. كما أن الحزب اليميني الألماني المتطرف ينافس المستشارة أنجيلا ميركل.
وفي الانتخابات الهولندية التي أجريت الشهر الماضي، كان أداء حزب اليمين المتطرف التابع لخيرت فيلدرز أسوأ بكثير مما هو متوقع، لكن على الرغم من ذلك تحول الطيف السياسي إلى اليمين، حيث اعتمد الحزب الحاكم تكتيكاته الشعبية، مما أدى إلى المواجهة مع تركيا فيما يخص المهاجرين.
كشف الصراع السوري – وازداد سوءا – عن فشل جل الأنظمة التي تناهضها الأحزاب اليمينية
وبالتالي، كشف الصراع السوري – وازداد سوءا – عن فشل جل الأنظمة التي تناهضها الأحزاب اليمينة. وقد وقع لإنشاء الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في القرن الماضي، بعد حروب مدمرة، للحفاظ على السلام، ومنع الاضطهاد، وإخضاع القادة للمساءلة وتقديم المساعدة إلى أشد الفئات ضعفا. لكن الثقة في هذه البلدان تنحسر عندما تكون هناك حاجة ماسة إليها. كما أن اتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب – التي لم تنفذ على الدوام، يتم التهرب منها علنا.
من جانب آخر، أعرب المنشق السوري صالح، عن قلقه من أن “سورنة العالم” يمكن أن تتعمق أكثر من ذلك. وهو الآن يقارن بين الشعبوية والإسلاموفوبيا، والفاشية ومعاداة السامية التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية، إذ قال “إن الأجواء في العالم لن تتجه نحو الأمل والديمقراطية والفرد، وإنما تسير نحو القومية والكراهية وصعود الدولة الأمنية”.
في الولايات المتحدة، كما هو الحال في أوروبا، يعتبر المتطرفون اليمينيون من بين أولئك الذين يتبنون الاستجابات الاستبدادية العنيفة العشوائية للتهديدات الإسلامية المصورة. وينشر القوميون البيض مثل ريتشارد سبنسر وديفيد ديوك، وهو زعيم كو كلوكس كلان السابق، صور منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي للأسد الذي يصور نفسه كحصن منيع ضد التطرف.
ويحاول البعض في الغرب تطبيع العلاقات مع الأسد، على أمل أن يساعد ذلك في محاربة تنظيم الدولة وإرجاع اللاجئين إلى ديارهم. ولكن دون المساءلة أو الإصلاحات السياسية، فإن هذه النتائج لن تحدث. في العقد الماضي الذي قضيته في تغطية العنف المسلط ضد المدنيين في الشرق الأوسط، كثيرا ما يبدو أن القتل الجماعي المرتكب من قبل الدول أقل إثارة للاهتمام الجماهير الغربية من عدد عمليات القتل المروعة المرتكبة من قبل تنظيم الدولة والقاعدة.
ومن الصعب التغلب على الشعور بأن المخاوف الغربية من الإرهاب قد ازدادت حدة لدرجة أن الكثيرين مستعدون للتسامح مع أي عدد من الوفيات في صفوف المدنيين العرب أو المسلمين، وأي انتهاكات لسلطة الدولة، باسم محاربته.
وقد لعبت الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب دورا بارزا في جعل انتهاكات القواعد الإنسانية والقانونية روتينية؛ لعل أبرزها الاعتقالات في خليج غوانتانامو، والتعذيب في أبو غريب، واستمرار الطائرات بدون طيار والحروب الجوية مع تزايد الخسائر المدنية في سوريا والعراق واليمن وفي أماكن أخرى.
ومن ثم اندلعت الحرب السورية أيضا عندما كانت المرحلة العالمية مهيأة للانقسامات وعدم الفعالية. في الوقت نفسه، كانت روسيا تسعى للاضطلاع بدور رئيسي وأكبر في المنطقة، أما الولايات المتحدة فقررت التراجع، أما أوروبا فكانت تواجه العديد من المشاكل الداخلية. وقد اختلفت مصالح كل من روسيا والولايات المتحدة في سوريا، مما وضع مجلس الأمن في ورطة.
لا يمكن للأمم المتحدة أن تفعل شيئا يذكر ما عدا توثيق جرائم الحرب خاصة وأنها أصبحت شيئا روتينيا
كشفت الأزمة عن عيوب منظومة الأمم المتحدة ونقائصها التي تمنح مجلس الأمن حق النقض (الفيتو) أمام المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وامتيازات سيادية دون وضع بنود ضد الدول التي تقتل أفراد شعبها. أما مبدأ “المسؤولية عن الحماية”، وهو مبرر قانوني للعمل العسكري لوقف الدول من قتل مواطنيها، كما في كوسوفو وليبيا، فقد دفن في سوريا.
في الحقيقة، مبدأ “الخط الأحمر” الذي وضع سنة 2013، والضربات التي هدد بها الرئيس أوباما ولكنها لم تنفذ ردا على هجوم كيميائي سوري أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص، قد أكدت مبدأ الإفلات من العقاب. ويبدو أن بشار الأسد لم يفي بعهوده بالتخلي عن جميع الأسلحة الكيمائية.
من جانب آخر، لا يمكن للأمم المتحدة أن تفعل شيئا يذكر ما عدا توثيق جرائم الحرب خاصة وأنها أصبحت شيئا روتينيا. وفي الوقت الراهن، يهدد الصراع السوري الأساس الوحيد للحياد الطبي في الحرب، وهو مبدأ من اتفاقيات جنيف اللازمة للحفاظ على الجهود الصحية العالمية مثل مكافحة الأوبئة، وهذا ما خلصت له كل من المجلة الطبية البريطانية “ذا لانسيت” والجامعة الأمريكية في بيروت. علاوة على ذلك، حذرا أيضا من “استهداف الرعاية الصحية” في سوريا، وخاصة من قبل الحكومة، حيث قُتل أكثر من 800 عامل طبي في مئات الهجمات، وألقي القبض على الأطباء لعلاج المتظاهرين المصابين، وحُجبت الإمدادات الطبية من المناطق المحاصرة.
وقال الدكتور منذر خليل المسؤول الصحي في محافظة إدلب التي يسيطر عليها المتمردون، بعد يوم واحد من معالجة ضحايا الهجوم الكيميائي الأخير إن “ما حصل سيتكرر في أماكن أخرى. وإذا كانت أوروبا والولايات المتحدة صادقين في الحفاظ على القيم التي يدافعون عنها، فستحارب هذا القمع. لذلك يجب أن يكون هناك ضغط سياسي على النظام”.
المصدر: نيويورك تايمز