“لا يصرف لنا الله مع كل حدث كارثيّ فنانًا بحجم بيكاسو ليقوم مفردًا بصياغة بيان المذبحة، يُشهد الناس عليها ويُشركهم في أهوالها، وإن كان يفعل ذلك على طريقة الفن، يوجز ويختصر ويُجَرِّد”.
– رضوى عاشور
وعلى الرغم من أن للفن طريقته الخاصة في تجريد مشاعر وحياة الناس وتصويرها، ولا يحتاج الفنان أن يعيش مآساة ويتخذها مصدرًا لإلهامه، فإن المذابح لم تنته، وبالأخص عند الفنانين العرب، الذين كانت حياتهم ببساطة إلهامًا لهم لما خرج لنا من أعمال فنية تجسد كل ما مر به العرب في العصر الحديث، فكان ما كان من تصوير الحرب والفقر، ليعود إلينا بيكاسو من جديد، ولكن بيكاسو العرب هذه المرة.
“إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف، إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حرية التعبير”. بابلو بيكاسو
وفي ظل ما مر به الوطن العربي من تغيرات جذرية وشهود لصعود القوميات الدينية والحزبية والأيدولوجية، فإن الفن وجد طريقته الخاصة في التأريخ والتوثيق، ذلك لقدرته على تجريد الحدث من لحظته التاريخية، وتخليده كنموذج لكل ما يعبر عنه العمل الفني مدى الحياة، ولا يكون حكرًا على إطار اللوحة الواحدة.
يقول الفيلسوف الفرنسي هنري مالديناي: “ما يجعل أي عمل، عملًا فنيًا قيّمًا ليس ارتباطه بسياق تاريخي أو اجتماعي محدد، قد يؤمّن ذلك له نوعًا من الحجة المتينة والثبات، ولكن الثبات ليس مرادفًا للوجود الفعليّ، المرادف الفعليّ للوجود هو الهشاشة التي تسلبه من ارتباطاته تلك، الهشّ هو كل حاد الأطراف وهو الرقيق القابل للكسر”.
بيكاسو العرب.. ضياء العزاوي
من أعمال ضياء العزاوي
يتبع العزاوي أسلوب “بيكاسو” في الفن التكعيبي، إلا أنه كان له طابعه الخاص كفنان معاصر أو حداثي
ربما هو الفنان الأكثر شهرة الذي لم تسمع عنه من قبل، فهو الفنان الذي لا يتوقف عن الاستكشاف، ويعيد ابتكار نفسه باستمرار، على الرغم من عمله متأثرًا بشكل ضخم بالتراث العربي كونه مولودًا في العراق، فأعماله تتميز بالتجدد باستمرار.
“لولا الفن لكنت ذهبت إلى مستشفى الأمراض العقلية، ذلك لأن الفن طريقي للحياة”. ضياء العزاوي
يتبع العزاوي أسلوب “بيكاسو” في الفن التكعيبي، إلا أنه كان له طابعه الخاص كفنان معاصر أو حداثي، ذلك الطابع الذي تأثر بدراسته للآثار، وخلفيته التي ترعرعت بين جدران المتحف العراقي للفنون، فكان العزاوي من رواد الفن الحداثي، ليس فقط في العراق، بل من رواد الفن المعاصر العالمي أيضًا.
لم تكن دراسة العزاوي للآثار محض صدفة، فكانت درايته بحضارات العالم المختلفة سببًا كافيًا لتميّز أعماله الفنية التي بزغت من وحي خياله، مع المنحوتات التي يعود عمرها إلى ثلاثة أو خمسة آلاف سنة في الماضي، إلا أنها بالنسبة للعزاوي، مرتبطة بثقافتنا الحالية الآن.
لوحة جرنيكا صبرا وشاتيلا
رسم بيكاسو لوحة “الجرنيكا” مجسدًا بها الحرب الأهلية في فرنسا، ورسم العزاوي “جرنيكا صبرا وشاتيلا”
رسم بيكاسو لوحة “الجرنيكا” مجسدًا بها الحرب الأهلية في فرنسا، ورسم العزاوي “جرنيكا صبرا وشاتيلا”، حيث أخذت القضية الفلسطينية بُعدها الواضح والكثيف في أعماله منذ سبعينيات القرن الماضي، كما أخذت قضية الحرب على العراق واحتلاله البعد نفسه في أغلب أعماله.
“إن ما أعمله هو انعكاس لموقف أيّ مثقف من الناحية الأخلاقية والفنية، لا تعنيني عبارة القضية وحدودها بقدر ما أعرف صدق مشاعري برفض الهيمنة السياسية والاجتماعية لجهة ما، رفض التطهير الاجتماعي والعرقي من أيّ جهة يصدر، رفض ممارسة سياسة اللاّعدل والقمع اجتماعيًا أو دينيًا، هذا ما أسعى إليه بضم صوتي إلى صوت من لا صوت له إزاء ذلك”.
– ضياء العزاوي
عبد الهادي الجزار.. فنان المساكين
من أعمال عبد الهادي الجزار
يقال عنه فنان المساكين والمهمشين والفقراء، ربما لأنه نشأ بينهم، حيت وُلد عبد الهادي الجزار بحي شعبي في مدينة الإسكندرية عام 1925، ليكون ذلك الحي وما تلاه من بيئته المحيطة أثرًا بالغًا نراه واضحًا في أعماله الفنية، التي كان للمساكين والحمّالين وأبطال قصص الكفاح فيها دورًا مهيمنًا.
اتفق عبد الهادي الجزار مع العزاوي على التأثر بالطابع الحضاري والتراث التاريخي والثقافي في الفن، فكان الجزار هو الآخر دارسًا للآثار، بعد حصوله على درجة “الأستاذية” أو الدكتوراة في دراسة الفنون، ليكون الجزار من مؤسسي جماعة الفن المعاصر في مصر.
الفلكلور وقراءة وجودية في الشعب المصري
لوحة الجوع
كانت لأعماله طابعًا فلكلوريًا مميزًا، كانت فيه الطبقة المصرية الكادحة من العمال والمهمشين مركزية الاهتمام، حيث سلط الجزار الضوء على معاناة الشعب المصري، فنرى لوحة بعنوان “الجوع” يظهر فيها الفرق الشاسع بين الطبقة الكادحة من عامة الشعب، والنظام الملكي الحاكم للبلاد في ذلك الوقت.
كانت لأعماله طابعًا فلكلوريًا مميزًا، كانت فيه الطبقة المصرية الكادحة من العمال والمهمشين مركزية الاهتمام
كان أول الفنانين الذين اعتقلوا بسبب فنهم، إلا أن السجن لم يكن نهاية مشوار هذا الفنان المبدع، فلم تدم فترة اعتقاله سوى شهر، خرج بعدها ليكمل مسيرته الحافلة، فكان فنانًا شاملًا بمعنى الكلمة، كانت له الدكتوارة في مجال الفنون، وكان دارسًا للآثار وحضارات العالم المختلفة، وكان كذلك دارسًا للموسيقى.
قال عنه الناقد التشكيلي المصري مختار العطار:
“اتخذ الجزار الرسم رسالة اجتماعيّة وإنسانيّة تُشعلها وتُضرم نارها المُقدسة موهبة غزيرة واستعدادات نادرة وثقافة واسعة فوصل فنه إلى مستوى رفيع اندمج فيه الشكل بالمضمون الإنساني العميق، لقد تبلورت عظمته في ارتباطه بآمال شعبه وآلامه ومخاطبته الجنس البشري عامة”
كاظم حيدر.. الفنان الذي كرّس حياته للفن
من أعمال كاظم حيدر
تميز أسلوب كاظم حيدر بالأصالة مع قدرة كبيرة على التأليف الدراماتيكي للموضوعات الأسطورية المنتقاة من الأساطير العراقية
فنان عراقي، كان دارسًا للآداب مع دراسته للفنون الجميلة، كما كان دارسًا لفن الديكور المسرحي كذلك، كان كاظم حيدر يدرك أن الأمل من أكثر الحقائق صلة بالحياة، وبفضل هذا الإدراك راح يعبر عن رؤيته بوضوح تام، ففي السنوات الأخيرة من حياته، رسم مجموعة كبيرة من اللوحات التي تلقي الضوء دفعة واحدة على المناطق المجهولة من وعي الفنان، والتي لا يمكن فصلها عن أعماله الأخرى.
تميز أسلوب كاظم حيدر بالأصالة مع قدرة كبيرة على التأليف الدراماتيكي للموضوعات الأسطورية المنتقاة من الأساطير العراقية والمآسي والأحداث التاريخية الكبرى، متفردًا بطرائقه التشكيلية المبتكرة.
بعد مسيرته الحافلة في تشكيل الفن المعاصر في العراق، كان له دور بارز في الفن المسرحي كذلك، فاهتم كثيرًا بديكور المسرح، حيث ارتبط بفرقة مسرح الفن الحديث، التي عهدت إليه أعمالها المتميزة، مثل مسرحيات النخلة والجيران والشريعة وهاملت عربيًا وبغداد الأزل بين الجد والهزل، فكان أسلوبه في الديكور يعطي للمسرحية بُعًدا جماليًا وتعبيريًا من خلال كتل الخشب ومساحات الحركة والفصل التي يخلقها داخل العرض المسرحي.
أسعد عرابي وصدمة الحضارة
من أعمال أسعد عرابي
اجتهد الاستعمار الثقافي في إظهار الفن العربي وكأن ذاكرته الفنية بدأت فقط مع حقبات الاستقلال
العنوان مأخوذ من كتاب للفنان التشكيلي السوري والناقد الفني أسعد عرابي، ويعتبر أسعد عرابي الفن العربي المعاصر “تاريخًا لم يكتب بعد”، حيث يذكر في كتابه أن “مسخ تاريخ الفن التصويري العربي جاء عبر إدخاله في غربال التحليل والتحريم، وليس عن طريق الصدفة بل بضغط من الاستعمار الثقافي الذي اجتهد في إظهار الفن العربي وكأن ذاكرته الفنية بدأت فقط مع حقبات الاستقلال”.
ذلك يعود إلى التعسف الاستشراقي وثقافة الاستعمار في اختزال المحترف العربي والإسلامي عمومًا إلى مرجعيات إغريقية ورومانية
أشار أسعد في كتابه أن سبب ذلك يعود إلى التعسف الاستشراقي وثقافة الاستعمار في اختزال المحترف العربي والإسلامي عمومًا إلى مرجعيات إغريقية ورومانية، وتجاهل كل الموروث اللوني للمنطقة العربية عمدًا.
ربما تم إهمال ما سبق ذكره من كبار الفن المعاصر العربي في العصر الحديث، إلا أنه حان الوقت لإعادة ذكرهم الآن، فهات الموروث الفني العربي الذي تمّ طمسه وخذ ما سيدهشك ويدهش العالم.