منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي عمليته العسكرية في قطاع غزة التي أطلق عليها “السيوف الحديدية”، لمواجهة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أكّد المستوى السياسي والأمني والعسكري نيّته تنفيذ عملية برّية داخل أراضي القطاع.
وشكّل هذا الإعلان المتكرر من قبل بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت مصدر تندُّر بالنسبة إلى الفلسطينيين في القطاع عمومًا، فيما كان تعامل المقاومة الفلسطينية مختلفًا، من خلال الخطاب العسكري الواضح والصريح بأنها على درجة عالية من الجهوزية.
ومع دخول الحرب أسبوعها الرابع، يدور النقاش عن أسباب وجود حالة من التردد في السلوك الإسرائيلي الميداني فيما يتعلق باجتياح القطاع، بعد أن كانت المرة الأولى التي شهدت فيها غزة عملًا بريًّا في عدوان عام 2014 الذي تعرض فيه الاحتلال لخسائر أيضًا.
وتخللت الأيام الأخيرة من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة عمليات استطلاع بالقوة برًّا وبحرًا وفي أكثر من محور من القطاع، حيث أعلنت المقاومة عن إفشالها جميعًا، فيما كان الاحتلال يتدخل بالقوة الجوية لإنقاذ قواته عبر أحزمة نارية مكثفة تمنع المقاومين من أسر جنوده.
والليلة، بدا وكأن قوات الاحتلال قد بدأت بالفعل هجومها البري الذي يجري التهديد به منذ 21 يومًا، بعد أن قطعت “إسرائيل” الإنترنت والاتصالات عن القطاع وعزلته تقريبًا عن العالم الخارجي، وشنت أوسع حملة قصف جوي خلال ثلاثة أسابيع.
وأعلنت كتائب القسام -مساء أمس الجمعة- إنها تصدت “لتوغل بري في بيت حانون (شمال القطاع) وشرق البريج (وسط)، وأن اشتباكات عنيفة دارت مع الغزات على الأرض.
وتتالت تصريحات إسرائيلية وأمريكية عن أن هذا هجوم ليس هو الهجوم المرتقب، وأنه “توغل محدود” و”توسيع لنشاطها” في القطاع، وهي تصريحات رأى فيها أسامة حمدان ممثل حماس في لبنان، أسلوبًا إسرائيليًا “لحماية نفسه في حال حصول فشل متوقع على الأرض”.
ويبدو الاحتلال مترددًا في اجتياح القطاع بشكل شامل، إذ إن المنظومة الأمنية والعسكرية لا ترى هناك جهوزية لدى القوات في ذلك، فضلًا عن الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها فرقة غزة خلال تنفيذ المقاومة عمليتها الهجومية يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
وإلى جانب هذا، يبدو الاحتلال معنيًّا بتنفيذ عمل عسكري يعيد ثقة الشارع الإسرائيلي في منظومة الجيش، بعد سلسلة من الضربات التي تعرضت لها منظومة الجيش خلال السنوات الأخيرة أمام المقاومة الفلسطينية تحديدًا، وتراجع قوة الردع.
وبالتوازي مع ذلك كله، ادّعى الاحتلال مرارًا أنه حقق عامل الردع ضد المقاومة في غزة وتحديدًا حركة حماس، التي ظهر في نهاية المطاف أنها كانت تمارس عليه خداعًا استراتيجيًّا، يستهدف توجيه ضربة عسكرية نوعية وغير مسبوقة في تاريخ المقاومة داخل فلسطين.
ولا يبدو أن هناك وضوحًا في الخطط الإسرائيلية، ففي الوقت الذي عبّر الرئيس الأمريكي جو بايدن عن دعمه لعمل عسكري داخل القطاع، رفض عودة الاحتلال للسيطرة الكلية على غزة، أما نتنياهو فقد خرج مؤقتًا ليواصل الحديث المتكرر عن أن العملية البرية قادمة، دون تحديد موعدها وشكلها.
في الوقت ذاته، شدد الرجل الثاني في حركة حماس ونائب رئيس مكتبها السياسي، صالح العاروري، على أن المعركة البرية ستسهم في تحقيق المقاومة الفلسطينية لنصر كاسح على الاحتلال، وستؤدي إلى إلحاق هزيمة غير مسبوقة بجيش الاحتلال.
قراءة في العوامل.. هل الإسرائيليون جاهزون؟
قبل الحديث عن العملية البرية وشكلها، يجب طرح سؤال محدد هو مدى جاهزية الجبهة الداخلية الإسرائيلية لاستمرار هذه الحرب فترة طويلة، ومدى استعدادها لتحمل عدد أكبر من القتلى والأسرى والجرحى يعتبر هو الأكبر في تاريخ المواجهات في القرن الحالي.
فمن الناحية المنطقية، تبدو الجبهة الإسرائيلية غير مستعدة لدفع أي ثمن، خصوصًا على الصعيد العسكري بعد الهزيمة المذلة التي لحقت بفرقة غزة المسؤولة عن العمل في القطاع، أو حتى فرق أخرى تمّ قتل أعضاء منها، مثل سيرت متكال أو النحال أو المظليين وغيرها.
وإلى جانب ذلك كله، تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق، ستسهم في تكبُّد خسارة كبيرة تشمل 5 آلاف جندي بين قتيل وجريح وأسير، وهو ما يعني نجاح المقاومة في توجيه ضربة عسكرية غير مسبوقة للجيش الإسرائيلي.
وبالتوازي مع ذلك كله، لا يعلم الاحتلال الذي فشلت منظومته الأمنية والعسكرية بمعرفة عملية “طوفان الأقصى” وتوقعها مسبقًا، عن استعداد المقاومة الدفاعية التي تدلّل الوقائع على الأرض أنها تطورت كثيرًا عمّا كانت عليه خلال مواجهة عام 2014 في غزة.
وتشكّل شبكة الأنفاق العنكبوتية التي بنتها المقاومة على مدار أكثر من عقد، إحدى الوسائل الدفاعية التي تستخدمها المقاومة لتجنُّب الحركة فوق الأرض، في ظل القصف الإسرائيلي المركّز على المباني وعلى الطرق ضمن ما يعرَف بـ”سياسة الأرض المحروقة”.
ومع ذلك، تمتلك المقاومة أدوات دفاعية لمواجهة المدفعية، مثل الكورنيت أو قاذف الياسين وغيرهما من الأسلحة التي تعود إلى مرجعية كورية شمالية أو روسية، وقادرة على شلّ قوات الاحتلال برًّا، عدا عن الصناعات العسكرية لمواجهة بعض أنواع الطائرات مثل صواريخ متبر وسام-7.
وسط ذلك كله، تمتلك المقاومة الفلسطينية عشرات الآلاف من المقاومين المدرّبين على المواجهة، والذين خضع عدد كبير منهم لدورات وتدريبات عسكرية تستهدف التصدي لأية هجمات إسرائيلية برّية واسعة النطاق، حال قرر الاحتلال تنفيذها خلال أي فترة.
وشهدت الفترة الأخيرة إعلانًا أمريكيًّا لإرسال حاملة الطائرات الهجومية “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط، وتأكيد وسائل إعلام وصول طائرات إي-10 الأمريكية إلى منطقة الخليج، لدعم الاحتلال في حال نشوب أي نزاع إقليمي، فيما لو تدخلت أطراف برعاية إيرانية.
عقبات وعراقيل.. ثمن مكلف
من جميع النواحي، يبدو الدخول إلى القطاع برًّا مكلفًا بسبب النتائج الكارثية التي سيتسبّب بها القرار، على اعتبار أنه يتطلب تكتيكات واستراتيجية للقتال في الأماكن الآهلة بالسكان، فضلًا عن الضرر الكبير الذي لحق بفرقة غزة قبيل بدء المقاومة لهذه الجولة.
وشهدت جميع الجولات التي تلت عام 2008 تراجعًا في التفوق العسكري الإسرائيلي أمام المقاومة وتحديدًا كتائب القسام، التي تتفوق في المواجهة البرية بشكل كبير، ما دفع الاحتلال في الكثير من الحروب التي تلت ذلك أو جولات التصعيد إلى الاعتماد على سلاح الجو أو المدفعية.
ويلعب ضعف معنويات جنود الاحتلال الإسرائيلي بعد “الطوفان”، دورًا في عدم نجاح أي عملية عسكرية برية، إلى جانب الخطاب الدعائي الذي نشرته المقاومة في الأيام الأولى للمعركة، والذي أظهر عمليات الاشتباك والأسر للجنود والضباط.
ومن العوامل التي تلعب دورًا هو فشل عمليات الاستطلاع بالقوة التي جرت في المناطق الشرقية للقطاع أو البحرية، والتي أظهرت رصدًا دقيقًا من قبل المقاومة للمناطق البرية والبحرية، رغم حجم الكثافة النارية المستخدمة في عمليات القصف اليومية للقطاع.
نفذت إسرائيل ليلة أمس محاولة توغل بري محدود بالدبابات وسط قطاع غزة، ووسعت الليلة محاولة التوغل إلى محاور عدة وسط وشمال القطاع.
بدلاً عن عملية برية واسعة أو قبلها، تنفذ إسرائيل التوسع التدريجي والمستمر لعمليات محدودة بالدبابات بهدف الإنهاك لخطوط الدفاع وكشفها.
— أحمد أبازيد (@abazeid89) October 27, 2023
وسط كل ذلك، يظهر نجاح المقاومة في تنفيذ عمليات إنزال خلف الخطوط، رغم كل الدمار الكبير الذي ألحقه الاحتلال بغزة خلال فترة 4 أسابيع، بطريقة فاقت جميع جولات التصعيد والحروب التي شنّها الاحتلال على القطاع منذ عام 2006 وحتى الآن.
وبالتالي، إن الراجح أن يقدم الاحتلال على عمليات إنزال محدودة للغاية برًّا أو بحرًا، يعمل من خلالها على ترويجها لقاعدته المتمثلة في المستوطنين، في ظل معرفته المسبقة بصعوبة الوصول إلى المستوطنين أو الجنود الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية.