رغم انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي من العراق مطلع العام 2011، فإنَ الدولة العراقية بقيت منقوصة السيادة، وبالتأكيد ليست بآليات عسكرية خارجية فقط وإنما بآليات وأشكال أخرى، ومنها “بطريقة فك الارتباط مع الدولة الأُم”، كما هو حاصل اليوم بالنسبة للمليشيات المسلحة.
ففشل الأطراف السياسية العراقية بعد العام 2003 في مشروع إدارة الدولة، وعدم الاتفاق على مشروع وطني، وإصرارها على التمثيل الطائفي والقومي، أدى إلى إفشال الدولة برمتها، وهذا الفشل انعكس على مختلف جوانب الحياة في البلاد، وزاد من شهية الدول الإقليمية ودول الجوار على وجه الخصوص، في البحث عن موطئ قدم لها في العراق بأشكال وصور مختلفة، سواءً عن طريق الأحزاب السياسية أو الشخصيات الدينية أو عن طريق تشكيل أجنحة عسكرية تابعة لها.
المليشيات الخارجة عن سيطرة الدولة تتكاثر حتى امتلأت الساحة العراقية بها
ظلت هذه المليشيات الخارجة عن سيطرة الدولة تتكاثر حتى امتلأت الساحة العراقية بها، وهي ترتبط بدول إقليمية مجاورة من حيث التدريب والتسليح والتمويل والتنظيم فضلًا عن تلقي الأوامر، كما أنها في الغالب مرتبطةً أيديولوجيًا مع تلك الدول بدوافع مذهبية، حتى غدت هذه المجاميع يدًا ضاربة، تمثل إرادة مموليها الخارجيين وتنفذ ما يريدونه، حتى لو كان ذلك على حساب كرامة العراق وإهانة سيادته.
آخر هذه الإهانات كانت قضية اختطاف الصيادين القطريين، الذين دخلوا الأراضي العراقية بطريقة رسمية، فقامت مليشيا مسلحة مرتبطة بإيران باختطافهم، واستخدمتهم كورقة للتفاوض بشأن قضايا وملفات خارج حدود الوطن، المستفيد منها طهران وحزب الله اللبناني.
تتعامل الحكومة العراقية مع الخاطفين لصيادين القطريين وفقًا لقوانينها التي تعتبر الخطف جريمة إرهاب، باعتبار أن الصيادين دخلوا البلاد بطريقة رسمية، إلا أنها ظهرت كطرفٍ ضعيفٍ يفاوض الخاطفين وغير قادر على فرض هيبته
كان من المفترض أن تتعامل الحكومة العراقية مع الخاطفين وفقًا لقوانينها التي تعتبر الخطف جريمة إرهاب، باعتبار أن الصيادين دخلوا البلاد بطريقة رسمية، إلا أنها ظهرت كطرفٍ ضعيفٍ يفاوض الخاطفين وغير قادر على فرض هيبته، وهذا الأمر يكشف بوضوح مدى سيطرة أصحاب السلاح والدعم الخارجي على الداخل العراقي، وأنهم المتحكمون الفعليون فيه.
هناك الآلاف من السياح القطريين الذين يقصدون إيران ولبنان بهدف السياحة، لماذا لمْ يختطفهم الإيرانيون وعناصر حزب الله على أرضهم ويفاوضون عليهم؟ باختصار لأنهم حريصون على سيادة بلدانهم، فضلًا عن أنهم لا يريدون ضرب سياحتهم، وللأسف وجدوا من ينفذ لهم هذه الجريمة التي أعطت إشارة لجميع الدول بأن العراق تحكمه عصابات تستطيع قلب الموازين في أي زمانٍ ومكان.
قضية اختطاف الصيادين ما هي إلا تأكيد جديد على أن هنالك دولة موازية داخل الدولة العراقية تنفذ أجندات أطراف خارجية
قضية اختطاف الصيادين ما هي إلا تأكيد جديد على أن هنالك دولة موازية داخل الدولة العراقية تنفذ أجندات أطراف خارجية وتتحدث بشكلٍ علني عن ولائها وتبعيتها لهذه الأطراف، وهذه حقيقة من الصعب إنكارها، والعراق لن يستقر أبدًا بوجود دولتين على أرضه.
فبقاء تحرك هذه المليشيات بحرية تامة، سيقوض هيبة الدولة “داخليًا وخارجيًا”، داخليًا من خلال ترسيخ عدم احترام القانون وتقويض دور المؤسسة العسكرية، وخارجيًا من خلال ضعف الشرعية الدولية للدولة وضياع هيبتها، بالإضافة إلى إضعافها اقتصاديًا، فالشركات العالمية لن تغامر بالاستثمار في بيئة تخضع لهيمنة جهات خارجة عن إرادة الدولة ولا تمتثل لقوانينها.