“الفراشية القلعية” حرفة وموروث ثقافي مهددان بالاندثار بعد ما يقارب 400 سنة، ما زال البعض من سكان وأهالي منطقة “قلعة الأندلس” الواقعة بالشمال التونسي، يجتهدون بقوة للحفاظ على أحد أهم وأبرز موروث ثقافي وتقليدي ذي طابع أندلسي تمتد جذوره إلى ما يقارب 400 سنة، والذي يتمثل في غطاء “الفراشية” أو “الفراشية القلعية” نسبة إلى مدينة القلعة، هذه المنطقة التي تبعد نحو 30 كم عن العاصمة التونسية.
فلا ريب أنك لو زرت يومًا مدينة القلعة ومررت بشوارعها الضيقة، تعترض سبيلك سيدة تتلحف “الفراشية” وتسرع في مشيتها حياءً واحتشامًا رغم ثقل ما تضعه فوق جسدها وهو لباس الفراشية.
تعتبر “الفراشية القلعية” لباسًا تقليديًا نسائيًا وهو عبارة عن لحاف أبيض اللون، شبيه إلى حد ما بـ”السفساري” ولكنه يتميز بطبقته الخشنة، فتتلحف به النسوة عند الخروج من المنزل
وتعتبر “الفراشية القلعية” لباسًا تقليديًا نسائيًا وهو عبارة عن لحاف أبيض اللون، شبيه إلى حد ما بـ”السفساري” ولكنه يتميز بطبقته الخشنة، فتتلحف به النسوة عند الخروج من المنزل لقضاء “شورهن” كما يقال باللهجة العامية من السوق الأسبوعية أو لزيارة الأهل والجارات والأقرباء، وفي موسم الأعراس، فـ”العروس القلعية” بدورها تكتسي الفراشية في أثناء الاحتفال بزفافها وذلك عند الذهاب في تجمع احتفالي إلى الحمام أو عند توجهها إلى قاعة الحلاقة يوم الزفاف، وذلك حتى لا تكشف عن وجهها للعيان وهي من العادات الموروثة في المجتمع التونسي للحفاظ على جمال العروس.
ولو صادف وكنت في السوق الأسبوعية فستلحظ أن بعض النسوة وخاصة ممن تقدمن في السن ما زلن يحافظن على لباس “الفراشية”، فلا يخرجن دونه ولذلك فإن عين الرائي لا تراهن إلا وهن يسرن وعلى رأسهن “الفراشية” تلفهن وتزيدهن تشبثًا بالموروث التقليدي والثقافي والذي قيل عنه إنه أندلسي الأصل ويعود إلى مئات السنين، فقد حمله معهم الأندلسيون حين هاجروا مكرهين ومطرودين من أرض الأندلس وإسبانيا سنة 1608م و1609م، ليستقروا حينذاك ببلدان شمال إفريقيا منها تونس حيث استقروا بمدن وقرى تونسية.
بولوج الأندلسيين من علماء وصناعيين وحرفيين وفلاحين إلى البلاد التونسية حملوا معهم كل طابع ابتدعوه ليخلد ذكراهم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم والأهم من ذلك كل مزايا دينهم الإسلامي الحنيف
“وقد اختار أصحاب الحرف الدقيقة حاضرة تونس (حومة الأندلس وباب سويقة) ومدينة بنزرت والوطن القبلي واختار الفلاحون حوض مجردة (تستور وطبرقة وقلعة الأندلس) وسهول وقرى الوطن القبلي سليمان وقرنبالية ومنطقة بنزرت (غار الملح ورفراف والعالية وراس الجبل ومنزل جميل ومنزل عبد الرحمان وماطر…)، وذلك وفق دراسة نشرت للباحث محمد صالح الوسلاتي بعنوان “بنزرت من خلال التزاوج الحضاري التونسي الأندلسي”.
وبولوج الأندلسيين من علماء وصناعيين وحرفيين وفلاحين إلى البلاد التونسية حملوا معهم كل طابع ابتدعوه ليخلد ذكراهم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم والأهم من ذلك كل مزايا دينهم الإسلامي الحنيف.
وعلى مر الزمن استطاع أهالي منطقة “قلعة الأندلس” المحافظة على لباس “الفراشية” فلا يخلو منها ركن ولا بيت ولا شارع، لذلك فزوار هذه المدينة أول ما تلحظه أعينهم هو اللباس الذي ترتديه النسوة في فصل الشتاء والصيف، فلكل فصل ما يناسبه من “الفراشية”، فهي تختلف بين الشتاء والصيف ومعدة للتكيف مع التغيرات المناخية، وذلك للوقاية من البرد والقر أو أشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف.
تصنع “الفراشية القلعية” من الصوف الطبيعي
وتصنع “الفراشية القلعية” من الصوف الطبيعي، حيث تقوم العائلة بتجميع الصوف وغسله وتجفيفه جيدًا تحت أشعة الشمس الحارقة ثم تنتقل إلى مرحلة “النول” وتثبيت الصوف ثم الغزل اليدوي الذي يتطلب مهارات وإتقان بالغ ليحول الصوف إلى خيوط رفيعة تعتمد فيما بعد في النول والنسيج وهو ما يستغرق مدة طويلة للحصول على فراشية وفق المواصفات المطلوبة دافئة شتاء وباردة صيفًا، فبالإضافة إلى وظيفة الستر تعتمد الفراشية كغطاء للوقاية من البرد الشديد في فصل الشتاء.
وقد تداولت الأجيال وتناقلت هذه الحرفة والصناعة اليدوية التي باتت اليوم مهددة بالاندثار في عصر الانفتاح والعولمة، خاصة أنه لم تتبق غير عائلة واحدة تعرف بدار محمد بن حميدة تجتهد للحفاظ على صناعة واحتراف هذا الموروث الأندلسي الأصيل والعتيق.