لم يكن الدين واللغة والعادات والتقاليد، الروابط والقواسم المشتركة بين الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا فقط، بل وصل الأمر إلى نظام الحكم الذي كان سائدًا حتى العام 2011، فتونس كانت تحت حكم الضابط زين العابدين بن علي، ومصر يحكمها الفريق محمد حسني مبارك، فيما كان العقيد معمر القذافي هو الحاكم لليبيا، لتكون الديكتاتورية العسكرية المسيطرة والمتحكمة في مصير أكثر من مئة مليون مواطن على رقعة جغرافية تقترب من الثلاثة ملايين كيلومتر مربع لعقود من الزمن، مارس ثلاثتهم فيها ذات الممارسات القمعية وصادروا الحريات وأمعنوا في تجهيل وتجويع شعوبهم مع مراعاة الفوارق بين ممارسات كل منهم.
ليكون المشهد واحدًا لنظام الحكم في تلك الدول العربية وهو نظام الحكم العسكري، وكأنه كتب عليها أن تعيش نفس المشهد السياسي كراهية وليس طواعية، ففي هذه المنطقة من حوض المتوسط تتأثر الشعوب ببعضها البعض نظرًا للتقارب والتواصل الكبيرين بينهم.
نظام الحكم في المنطقة (مصر، ليبيا، تونس) كان ذات نظام الحكم، ربما لضمان استقرار المنطقة التي تشكل اهتمامًا غربيًا بالنظر لموقعها الجغرافي المتميز
العام 2011 أتى بقاسم مشترك من نوع آخر بين الدول الثلاثة، فخلال شهر ثارت الشعوب الثلاث على جلاديها وأبت إلا أن تغير مشهدها السياسي.
14 من يناير كانت الثورة التونسية التي انتهت بسقوط نظام بن علي وهروبه من تونس إلى السعودية وانتهاء الحكم العسكري فيها، ليثور الشعب المصري في 25 من يناير ويسقط حكم مبارك الذي دخل السجن لاحقًا بعد تنحيه عن الحكم مكرهًا.
وفي 17 من فبراير كان الدور على الشعب الليبي لينتفض على حكم القذافي الذي استمر لأكثر من أربعة عقود، ويقتل العقيد بخلاف سابقيه في العشرين من أكتوبر من نفس العام.
بالعودة لما سبق نرى أن نظام الحكم في المنطقة (مصر، ليبيا، تونس) كان ذات نظام الحكم، ربما لضمان استقرار المنطقة التي تشكل اهتمامًا غربيًا بالنظر لموقعها الجغرافي المتميز، والخيرات والموارد الطبيعية التي تتمتع بها، وليس القرن التاسع عشر ببعيد إبان حقبة الاستعمار للمنطقة، ويظهر ذلك جليًا في الحرب التي شنها العالم بقيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمباركة الأمم المتحدة على نظام القذافي عندما رفض التنحي عن السلطة وقرر أن يقمع الثورة في ليبيا بالحديد والنار.
فما كان من الدول الغربية والإقليمية أصحاب المصلحة إلا أن قاموا بتسخير كل الإمكانيات لأدوات الثورة الليبية وقتها ليضمنوا استمرارها وتحقيقها لأهدافها بتغيير نظام الحكم في ليبيا والإطاحة بنظام الطاغية القذافي، مستفيدين من الأرصدة الليبية المجمدة لديهم في رسالة واضحة بأنه من لا يسمح بأي شكل من الأشكال أن تشذ ليبيا – الغنية بالنفط – عن تونس ومصر، وأن التغيير في المنطقة لا بد أن يكون كاملاً، غير أن التغيير المنشود كان في تونس وكذلك مصر دون أن يكون هناك حرب ولا دماء ولا دمار مقارنة بما حصل في الدولة التي تتوسطهما، التي استمرت الحرب فيها بين الثوار وآلة القذافي العسكرية ثمانية أشهر، خسرت ليبيا فيها الآلاف من خيرة شبابها، ودمرت الكثير من المنازل والمؤسسات الخاصة والعامة، فرغم أن الثوار انتصروا نهاية المطاف فإن الضريبة كانت كبيرة جدًا مقارنة بكل من تونس ومصر، الدولتين الأكثر تنظيمًا وتقدمًا على مستوى دولة المؤسسات.
في الثامن عشر من مارس 2011 انطلقت عملية فجر الأوديسا التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، بمئة وعشرة صواريخ توماهوك على مواقع محددة ومرصودة بدقة لشل القدرة العسكرية والمعلوماتية لقوات القذافي
لم يستغرق العالم أكثر من شهر ليبدأ في ضرب قوات القذافي، ففي الثامن عشر من مارس 2011 انطلقت عملية فجر الأوديسا التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، بمئة وعشرة صواريخ توماهوك على مواقع محددة ومرصودة بدقة لشل القدرة العسكرية والمعلوماتية لقوات القذافي، لتتوالى بعدها العمليات العسكرية، من استهداف لأرتال القذافي ميدانيًا، وتضييق الخناق عليه سياسيًا، ودعم الثوار لوجستيًا، وإبعاد رجاله مخابراتيًا، فالرسالة واضحة وصريحة ليبيا يجب أن تتغير أسوة بتونس ومصر مهما كلف الثمن، وهذا ما كان ففي أكتوبر قضي على القذافي وأعلن تحرير ليبيا رسميًا يوم الـ23 من ذات الشهر لتلحق بشقيقتيها تونس ومصر في التغيير.
في أكتوبر من العام 2011، شهدت تونس أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، وقد شهدت نتائج هذه الانتخابات فوزًا للأحزاب الإسلامية، وحقق حزب النهضة الإسلامية الفوز بأغلبية كبيرة لتتشكل أول حكومة في تونس بعد ثورة يناير، وليسيطر الإسلاميون على نظام الحكم في تونس.
كذلك كان الحال في مصر، ففي نهاية نوفمبر من العام 2011 بدأت انتخابات مجلس الشعب المصري التي سيطر فيها حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفي على نتيجة هذه الانتخابات، لتبعث برسالة واضحة أن الإسلاميين هم من سيسيطر على نظام الحكم، وهذا ما تحقق بين شهري مايو ويونيو من العام 2012 بوصول محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة لكرسي الرئاسة في مصر.
للمرة الأولى في تاريخ المنطقة منذ العام 1969 يتم التغيير ويسيطر الإسلاميون على نظام الحكم في ليبيا ليس لأنهم أغلبية، بل لأن التغيير في تونس ومصر كان لصالحهم وبالتالي على ليبيا أن تتغير بحسبهما
ولم يكن لليبيا خيارًا لتشذ عن تونس ومصر، ففي يوليو 2012 انتخب الليبيون أعضاء المؤتمر الوطني العام ليقود البلاد بعد ثورة فبراير، ورغم أن الأحزاب الإسلامية لم تحصل على أغلبية في هذه الانتخابات، فإن النظام السياسي في ليبيا لا بد أن يسيطر عليه الإسلاميون، وهذا ما كان بفضل التحالفات داخل المؤتمر الوطني التي مكنتهم من السيطرة على مركز القرار، وبفضل الدعم الذي حصلوا عليه وخصوصًا من قطر وتركيا، وما كانت عليه البلاد من تقدير لمن كان لهم دور نضالي ضد القذافي وشارك في الثورة بكل ما أوتي من قوة.
للمرة الأولى في تاريخ المنطقة منذ العام 1969 يتم التغيير ويسيطر الإسلاميون على نظام الحكم في ليبيا ليس لأنهم أغلبية، بل لأن التغيير في تونس ومصر كان لصالحهم وبالتالي على ليبيا أن تتغير بحسبهما، تغيير كان ثمنه باهظًا، كتب بدماء زكية، بعد حرب الثمانية أشهر.
رغم أن تونس من بدأت بالتغيير في 2011، فإن مصر سبقتها في التغيير الثاني للنظام السياسي في المنطقة وذلك بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي الشهير في يوليو من العام 2013، لينهي حكم الإسلاميين في مصر ليبدأ في رسم خارطة سياسية جديدة في المنطقة يرجع بموجبها الليبراليون للحكم، وذلك بالتصالح مع النظام السابق، لتلحق تونس بها في أكتوبر 2014 باعتلاء الليبراليين لسدة الحكم بعد التصالح والتحالف مع النظام السابق أيضًا.
وكما كان المشهد معقدًا وصعبًا ودمويًا ليحدث التغيير الذي لا بد منه في ليبيا أسوة بشقيقتيها، فقد جاء العام 2014 ليكون عامًا مخضبًا بالدماء، فقد بدأ العقيد المتقاعد أسير حرب تشاد السابق خليفة حفتر بمحاولة انقلابية على خطى حليفه الذي يملك نفس العقلية العسكرية عبد الفتاح السيسي، وبمساندة من الليبراليين الذين يحصلون على دعمهم من مصر والإمارات لإنهاء نظام الحكم الإسلامي في المنطقة وذلك في مايو من العام 2014.
لكن التغيير في ليبيا لا يكون سهلاً كما في تونس ومصر، بل يكون بعد دفع ضريبة كبيرة من حرب ضروس تأكل خيرة الشباب والثروات، هكذا حال التغيير في ليبيا، فكانت عملية الكرامة التي أطلقها العقيد حفتر تحت مسمى محاربة الإرهاب الذي قصره على الإسلاميين، ووضع كل من عارضه في خانته، فقاد البلاد بكل غباء وعناد إلى مزيد من الدماء والدمار وعدم الاستقرار الذي كان يلوح في الأفق خاصة بعد الانتخابات البرلمانية، التي كان يفصلنا عليها وقتها أقل من شهر، مما جعل تحالفًا ينشأ في الغرب الليبي بقيادة مدينة مصراتة تحت مسمى “فجر ليبيا” لخوض معركة في طرابلس طرد من خلالها من تحالف مع حفتر في انقلابه ولقيت دعمًا كبيرًا من أعضاء المؤتمر الوطني العام ذوي التوجه السياسي الإسلامي، فانقسمت ليبيا إلى قسمين شرقًا حيث مؤيدي الكرامة وغربًا حيث مؤيدي فجر ليبيا.
هكذا هي ليبيا لا تغيير إلا بحرب ينتصر فيها طرف ويقصي الآخر
ومع مضي ما يزيد على عامين ونصف العام على محاولة انقلاب خليفة حفتر، لا يزال الانقسام الحاد مسيطرًا على المشهد الليبي رغم محاولات الوفاق المتعددة، ولن يحدث التغيير إلا بانتصار أحد القسمين على الآخر، هكذا هي ليبيا لا تغيير إلا بحرب ينتصر فيها طرف ويقصي الآخر وهذا ما لم يحدث حتى تاريخه.