لم تشفع دماء أكثر من 53 شهيدًا من الأمم المتحدة في قطاع غزة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لدفع الأمم المتحدة ووكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” إلى الشعور بحجم الألم الفلسطيني والانحياز إلى جانب سكان قطاع غزة، بدلًا من الوقوف على “الحياد”، ومحاولة المساواة بين الجلاد والضحية.
وعلى الرغم من التصريحات المتتالية لمنظمات الأمم المتحدة والإنذارات التي تصدرها عن الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، فإن هذه التصريحات غابت في معظمها عن تحميل “إسرائيل” السبب المباشر، ومحاولة سلب الفلسطيني حقه في الدفاع عن نفسه، حتى في بيان نعي موظفي الأونروا، يقول المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، يوم الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023: “تأكد مقتل ما لا يقل عن 53 من زملائي، تلقينا تأكيدات بأن 15 منهم قتلوا في يوم واحد”، القاتل في نظر الأونروا مبني للمجهول.
الأونروا، التي تأسست عام 1949 من الجمعية العامة للأمم المتحدة، للعمل في فلسطين والشتات في سوريا ولبنان والأردن، لتقديم المساعدة الإنسانية والحماية للاجئي فلسطين المسجلين في مناطق عمليات الوكالة إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم، تمارس ذات النهج منذ تأسيسها وحتى العدوان الإسرائيلي الحاليّ في قطاع غزة، في أن تقدم خدماتها بعنوان أشمل خدمة اللاجئ، وهدف عميق في تنفيذ أهداف المحتل.
وخلال العدوان الإسرائيلي على غزة، ودعوات التهجير، ورغم مقتل موظفيها، المفترض حمايتهم دوليًا، تابعت الأونروا في مسار ممارستها، وأن تقول للفلسطينيين ارحلوا عن أرضكم وسوف نقدم لكم التعويضات، من خلال سلسلة إجراءات نفذتها على أرض الواقع، سحبت الخيار من أيدي كثيرين في شمال القطاع من البقاء في منازلهم، بل كانت شريكًا في دفعهم للهجرة نحو الجنوب، أي حيث أعلن الاحتلال.
مقاومة الاستعمار في قانون الأمم المتحدة
تحت ضغوطات الاحتلال، تراجع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، عن تصريحاته التي أكد فيها أن هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، “لم يأت من فراغ”، بل أعرب عن “صدمته” حيال ما وصفه بأنه “تحريف” لتصريحات أدلى بها في مجلس الأمن الدولي، كما لو أنه يبرر “الأعمال الإرهابية التي تقوم بها حماس”.
وحقيقة الأمر، أن تصريح غوتيرش الأول، بأن طوفان الأقصى لم يأتِ عبثًا أو من فراغ، هو الأقرب لروح القانون وإعلان حقوق الإنسان الذي تستند إليه الأمم المتحدة، ففي المادة الثانية من الإعلان الصادر في 26 أغسطس/آب 1789، “مقاومة القمع هي حق أساسي، وللفلسطينيين حق المطالبة به”.
وفي عام 1960، أي قبل أن تقوم ديباجة حل الدولتين بثلاثين عامًا، أصدرت الأمم المتحدة قرارها رقم 1514 لـ”إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة”، أكدت فيه أن “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
وفي عام 1970، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 2649 بـ”إدانة إنكار حق تقرير المصير خصوصًا لشعوب جنوب إفريقيا وفلسطين”، الذي ينص بالحرف على أن الجمعية العامة “تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأي وسيلة في متناولها”.
حق تقرير المصير، يشمل القضية الفلسطينية، وأكده بشكل مخصوص القرار الأممي رقم 3236، الصادر عام 1974، الذي نص على أن الأمم المتحدة “تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقًا لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد دعمها للشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقًا للميثاق”.
وبشكلٍ أكثر دقة، كي لا يُفهم حق تقرير المصير في قوالب المقاومة الشعبية السلمية والمسار السياسي، أكدت الأمم المتحدة على شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية، من خلال قرارها في ديسمبر/كانون الأول 1986، الذي ينص على “شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح”.
الاحتلال يخوّف والأونروا أول المنسحبين
في اليوم السابع للعدوان الإسرائيلي، أصدر الاحتلال الإسرائيلي تحذيره وإنذاره للفلسطينيين في قطاع غزة، بوجوب إخلاء شمال القطاع (شمال وادي غزة) والتوجه نحو الجنوب، حينها، أصدرت وزارة الداخلية في قطاع غزة دعوة للفلسطينيين بعدم التجاوب مع التسجيلات الصوتية التي يوزعها الاحتلال عشوائيًا على أرقام الهواتف والتي تهدد بالتهجير، وأن الاحتلال يسعى لضرب الداخلية الفلسطينية في إطار الحرب النفسية.
ومن الجدير بالذكر، أنه وفق إحصاءات وزارة الصحة فإن أكثر من 40% من شهداء قطاع غزة حتى اليوم العشرين من العدوان، ارتقوا في غارات الاحتلال جنوب وادي غزة، أي “المنطقة الآمنة” التي أعلن عنها الاحتلال.
المكتب الإعلامي الحكومي بدروه، أدان سلوك الأونروا، وتخليها بذلك عن دورها الإنساني وتنصلها من واجبها تجاه النازحين والمدنيين لا سيما اللاجئين في هذه الأوقات في شمال القطاع، وأشار المكتب في تصريح نشر يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن سلوك الأونروا لم يقتصر على الانسحاب بالموظفين وترك مراكز الإيواء التي تشرف عليها لتواجه المجهول، وإنما أيضًا عدم تحمل المسؤولية تجاه النازحين الذين استجابوا وتوجهوا لجنوب وادي غزة، حيث لم تقدم الوكالة لهم أي خدمات، لا من حيث توفير مراكز الإيواء أو تقديم المستلزمات الحياتية لهم.
تساوقت الأونروا وحملت الراية هذه المرة بشكلٍ لا لبس فيه لترويج ما يريده الاحتلال ومن خلفه العالم من قضية إدخال المساعدات، وهو الانسحاب من المطالبة بوقف العدوان إلى السعي لترسيخ دخول المساعدات كمعيار لقبول مشهد الإبادة الجماعية في غزة
وذكّر المكتب الإعلامي الحكومي الوكالة أن انسحابها من غزة والشمال لا يعفيها من مسؤولياتها تجاه جميع النازحين خاصة اللاجئين في هذه المناطق، واستنكر احتجازها للمساعدات التي كان سيتم تقديمها في مراكز الإيواء وإبقائها في مخازنها حتى اللحظة.
المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، نشر تحذيرًا من اتساق الأونروا مع مخططات التهجير القسري في قطاع غزة، وقال فيه إن الأونروا أعلنت في 13 أكتوبر/تشرين الأول إخلاء طواقمها العاملة في محافظتي غزة وشمال القطاع بعد وقت قصير من إنذار جيش الاحتلال سكان المحافظتين بإخلاء مناطق سكنهم والنزوح إلى جنوب وادي غزة، من دون توفير ممرات أو بدائل آمنة لهم، وإثر ذلك اختفت طواقم الأونروا، ولم يعد هناك من يتابع شؤون النازحين بمن فيهم اللاجئين في مراكز الإيواء التابعة للوكالة الدولية التي تنصلت من دورها الإنساني تجاههم بادعاء عدم قدرتها على توفير الحماية لمقراتها.
ونقل الأورومتوسطي إفادات من سكان القطاع، فقال محمد أبو عودة، الذي نزح مع عائلته من بلدة بيت حانون في شمال قطاع غزة إلى مركز إيواء تابع للأونروا: “إدارة الوكالة لم توفر لنا إلا الماء والكهرباء فقط وبعض وجبات الطعام، ثم اختفت طواقمها فجأة دون إبلاغنا ودون مراعاة لسوء أوضاعنا تحت القصف الإسرائيلي المستمر”.
أما رجاء سعيد، التي نزحت مع أطفالها السبع إلى مركز إيواء تابع للأونروا في حي تل الهوى في غزة فقالت للأورومتوسطي، إن موظفي الوكالة تخلوا عن مسؤولياتهم ولم يتواصلوا معهم بأي معلومات، رغم تكرار التقارير عن عزم “إسرائيل” قصف المركز لإخلائه بالقوة، ما تركهم في رعب وفزع دون حد أدنى من احتياجاتهم الإنسانية.
وبعد أن هدد الاحتلال بقصف 5 مدارس تأوي نازحين في قطاع غزة، سارعت الأونروا إلى إخلاء موظفيها، فيما دعت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، الأونروا، إلى عدم إخلاء المدارس وعدم الرضوخ للتهديدات الإسرائيلية.
المساعدات: اقتل لكن قدم لغزة الفتات
ومن الاتساق مع مخططات التهجير، إلى المساعدات القادمة نحو غزة، تساوقت الأونروا وحملت الراية هذه المرة بشكلٍ لا لبس فيه لترويج ما يريده الاحتلال ومن خلفه العالم من قضية إدخال المساعدات، وهو الانسحاب من المطالبة بوقف العدوان إلى السعي لترسيخ دخول المساعدات كمعيار لقبول مشهد الإبادة الجماعية في غزة.
فدخول المساعدات إلى قطاع غزة، جاء في اليوم الخامس عشر للعدوان، تزامنًا مع ارتكاب الاحتلال مجزرة مستشفى المعمداني التي أسفرت عن استشهاد أكثر من 470 فلسطينيًا، وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش إلى مصر وتفقده الجانب المصري من معبر رفح.
وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وبعد وساطات دولية وشروط أمريكية، دخلت أولى قوافل المساعدات الدولية إلى غزة، والتي ضمت 20 شاحنة محملة بمياه الشرب ومساعدات طبية وأغذية، ضمن اتفاق مصري أمريكي يقضي بتسليم هذه المساعدات إلى 3 جهات فقط، وهي: الأمم المتحدة (الأونروا)، ومنظمة الصحة العالمية، والهلال الأحمر الفلسطيني.
وستتولّى هذه الجهات أمر الشاحنات فور دخولها القطاع، لنقلها إلى مستودعات “الأونروا” في خان يونس، التي بدورها ستكون مسؤولة عن توزيعها، ثمّ تضمن هذه المؤسسات عدم إيصال أي من المساعدات إلى شمال قطاع غزة، وإلا فإن الشاحنات المُحمّلة بها ستُقصف.
حتى الآن، وصل إلى هذه المنظمات في جنوب القطاع 84 شاحنة من المساعدات، دون أن يرى منها الشمال شيئًا، وبالطبع، كل ذلك بدون أي تنسيق مع الجهات الحكومية في غزة، التي تشرف على المؤسسات الأكثر فاعلية واحتياجًا للمساعدات، كالمستشفيات.
أعادت الأونروا مشهد النكبة مرة أخرى ببنائها مخيمًا في خان يونس جنوب القطاع لتعزز فرضية ترحيل أهل غزة من شمال القطاع إلى جنوبه، كما فعلت عام 1949، حين حاولت أن تستبدل بالوطن المحتل الخيام ثم بيوت الزينكو وثم المخيمات، وكما تفعل منذ تأسيسها وحتى اللحظة، إلى ملاحقة حتى موظفيها الذين يصدرون تصريحات رافضة للاحتلال، وتطلب من الفلسطيني المقهور المسلوب الأرض والحق، أن يقف على الحياد!