مع اندلاع أي عدوان إسرائيلي على غزة، يسارع النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي للبحث عن دور مركزي عبر عرض خدماته من أجل التوسط لعقد اتفاق تهدئة.
ومن خلال هذه التحركات، يهدف السيسي إلى الظهور بمظهر المنقذ أمام المجتمع الدولي الذي يواصل انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في مصر ويرفع من أجل ذلك عصا قطع التمويل والمعونات.
وفي المقابل، ينتهج نظام السيسي نوعًا من الحياد السلبي في العلاقة بين غزة و”إسرائيل”، ويحاول الوقوف على مسافة واحدة من الضحية والجلاد.
تواطؤ مصري
منذ إطلاق كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، يواصل النظام المصري إغلاق معبر رفح أمام الأفراد والبضائع باستثناء تلك التي تدخل بعد موافقة وتفتيش إسرائيلي.
جيش الاحتلال الإسرائيلي وهُم يفتشون شاحنات المساعدات داخل الأراضي المصرية قبل دخولها إلى قطاع غزة . 🇵🇸🇪🇬
ياشعب مصر هل انت راضين بمايقوم به السيسي والله انه يهين الشعب المصري كيف يسمح لاسرائيل تفتيش المساعدات على ارض مصر
والله لانرضاها شعب مصر
قسمآ ان تحرير مصر قبل غزة
تحية لمصر pic.twitter.com/IgGq8M9KTU
— شموخ يماني (@yemeny_4) October 23, 2023
ويتواصل الإغلاق رغم انهيار الوضع الصحي في القطاع المحاصر بعد منع سلطات الاحتلال إدخال الوقود وقطع الماء والكهرباء والإنترنت والاتصالات، لذا يرى أهالي غزة أن النظام المصري يشارك في الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 16 سنة.
وبدلًا من مساندة غزة، دفعت الأجهزة الأمنية المصرية نحو حشد المواطنين للتظاهر في 20 أكتوبر/تشرين الأول، “دعمًا للقيادة السياسية” في موقفها من الأحداث، جاء ذلك بعد يوم من تفويض البرلمان المصري بغرفتيه (النواب والشيوخ)، خلال جلسات طارئة، السيسي، لاتخاذ إجراءات لحماية الأمن القومي وتأمين حدود البلاد ودعم الفلسطينيين.
لكن آلاف المتظاهرين الذين تواجدوا في “ميدان التحرير” بالقاهرة، رمز ثورة 25 يناير 2011، هتفوا بالقول: “مش تفويض لأي حد” و”عيش حرية عدالة اجتماعية” و”يا فلسطين يا فلسطين إحنا كمان محتلين”، وبعدها فرقت الشرطة المتظاهرين، كما منعت عدة مظاهرات باستثناء تلك التي يشرف على تنظيمها جهاز المخابرات المصري وبأعداد قليلة.
“دي مظاهرة بجد مش تفويض لحد”..
كيف أفشل المصريون تفويض السيسي المزعوم؟ pic.twitter.com/mvofOVtL00
— شبكة رصد (@RassdNewsN) October 21, 2023
ولا يعرف على وجه الدقة أسباب طلب السيسي التفويض والدفع بمظاهرات ثم منعها، لكن مراقبين يرجحون أنه يأتي للتخفيف من الغضب الشعبي المتصاعد بسبب المجازر الإسرائيلية في غزة.
لم يكتف السيسي بإغلاق معبر رفح ومنع المظاهرات، بل اتخذ أيضًا موقفًا سلبيًا من قضية مصير أهالي قطاع غزة في أثناء تنفيذ جيش الاحتلال عمليات قصف واسعة واستعداده للاجتياح البري.
وقال السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتز في 18 أكتوبر/تشرين الأول، إن ما يحدث في قطاع غزة هو “محاولة لدفع السكان والمدنيين إلى النزوح نحو مصر”.
ولفت إلى أنه “إذا كان من الضروري نقل مواطني القطاع خارجه حتى تنهي إسرائيل عمليتها المعلنة للقضاء على الفصائل المسلحة، فيمكن لها نقلهم إلى صحراء النقب وبعد ذلك يمكنها إعادتهم لو رغبت بذلك”، في إشارة إلى موافقته على التهجير بشرط ألا يكون إلى سيناء.
السيسي: يمكن نقل الفلسطينيين إلى صحراء النقب
واشنطن بوست
+
رفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مجددا فكرة ما وصفها بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى مصر وقال خلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز في القاهرة يوم الأربعاء، إن الأحداث الحالية في غزة ليست مجرد… pic.twitter.com/trVifuNFTe
— ZaidBenjamin زيد بنيامين (@ZaidBenjamin5) October 18, 2023
وهذه ليست المرة الأولى التي تضيق فيها مصر الخناق على قطاع غزة بإغلاق المعبر أو تتخذ موقفًا محايدًا من العدوان عليها، فقد أبدى رئيس النظام المخلوع حسني مبارك ضمنيًا موافقته على أول حرب إسرائيلية على غزة عام 2008.
وبدأت هذه الحرب بعد لقاء مبارك وزيرة الخارجية الإسرائيلية وقتها تسيبي ليفني في القاهرة، ونظيرها آنذاك أحمد أبو الغيط، ورئيس المخابرات المصرية الأسبق عمر سليمان.
وعرضت ليفني آنذاك رغبة “إسرائيل” في الإطاحة بحكم حركة “حماس” التي تسيطر على قطاع غزة، وهو نفس الموقف الذي كان يدعمه مبارك، لكن السيسي تجاوز مبارك بمراحل كبيرة من ناحية استغلال الحروب والأزمات لصالحه، كما عمق العلاقات مع تل أبيب بشكل كبير.
كيف يستفيد؟
تُعد مصر الوسيط التقليدي بين “إسرائيل” وحركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007 بعد أحداث الانقسام الفلسطيني الداخلي، وقد ازداد اهتمامها بعقد الوساطات منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، خلفًا لسابقه دونالد ترامب.
في يوليو/تموز 2020، غرد بايدن قائلًا: “محمد عماشة في المنزل أخيرًا بعد 486 يومًا في السجون المصرية لحمله لافتة تظاهر، الاعتقال والتعذيب واستبعاد الناشطين مثل سارة حجازي ومحمد سلطان أو تهديد عائلاتهم غير مقبول، لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل”.
Mohamed Amashah is finally home after 486 days in Egyptian prison for holding a protest sign. Arresting, torturing, and exiling activists like Sarah Hegazy and Mohamed Soltan or threatening their families is unacceptable. No more blank checks for Trump’s “favorite dictator.” https://t.co/RtZkbGh6ik
— Joe Biden (@JoeBiden) July 12, 2020
منذ ذلك الحين وحتى العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/أيار 2021، لم يلتق بايدن السيسي ولم يتحدثا هاتفيًا، وصعدّت واشنطن من انتقادها أوضاع حقوق الإنسان في مصر لتصل العلاقات بين الجانبين إلى أدنى مستوى.
لكن بعد اندلاع هذه المعركة التي عرفت باسم “سيف القدس”، بدأ التواصل بين واشنطن ونظام السيسي الذي سعى لاستغلال التوتر من أجل تبييض صورته دوليًا وتعزيز نفوذه إقليميًا وتحقيق مكاسب داخلية.
وقالت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” العبرية في 11 يونيو/حزيران من ذات العام: “السيسي سعى لاستغلال إعادة إعمار قطاع غزة لتعزيز نفوذه”.
وأشارت إلى أن “مصر تعتمد على مشروع إعادة إعمار غزة بقيمة 500 مليون دولار لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، مستفيدة من النفوذ الذي اكتسبته من خلال التوسط في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس”.
وذكرت أن “السيسي تعهد بضخ الأموال لإعادة إعمار غزة بعد صراع استمر 11 يومًا”، مؤكدة أنه “جرت الإشادة به على نطاق واسع بما في ذلك من الرئيس بايدن، لأنه لعب دورًا محوريًا في التفاوض على إنهاء الحرب المميتة”.
وأثارت حزمة المساعدات التي أعلن عنها السيسي وقتها استغرابًا كبيرًا لمرور مصر بأزمة اقتصادية، وقد جاءت في شكل أعمال بناء بدأت بتنفيذها الشركات المصرية، وبذلك قدم رئيس النظام المصري نفسه كنقطة مرجعية لمفاوضات التهدئة أمام الولايات المتحدة.
ويمثل العدوان الحاليّ على غزة فرصة ذهبية أخرى لنظام السيسي، بعد أن قررت الولايات المتحدة في 15 سبتمبر/أيلول الماضي، حجب 85 مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لمصر بسبب عدم إطلاق سراح عدد كافٍ من المعتقلين السياسيين.
وتقدم واشنطن مساعدات عسكرية لمصر تبلغ قيمتها نحو 1.3 مليار دولار سنويًا، وذلك بعد توقيعها معاهدة سلام مع “إسرائيل” عام 1979، ويرتبط جزء صغير من هذه المساعدات – نحو 320 مليون دولار – بسجل القاهرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولإعادة ضبط العلاقة مع واشنطن، سارع السيسي في نفس يوم انطلاق معركة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعرض خدماته والإعلان عن تكثيف الاتصالات لاحتواء الموقف ومنع التصعيد.
ونشر المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية عدة صور للسيسي ضمن بيان على صفحته بموقع “فيسبوك”، قال فيه إن رئيس النظام المصري “يتابع الموقف العام لتطورات الأحداث من مركز إدارة الأزمات الإستراتيجي، وذلك في ضوء تطورات الأوضاع في قطاع غزة”.
استغلال الأزمات
يرى ناشط سياسي فلسطيني أن مصر في عهد السيسي تستغل أزمات قطاع غزة للتقرب من “إسرائيل” وتلقي الدعم من المجتمع الدولي وشراء الصمت الأمريكي على أوضاع حقوق الإنسان.
ويوضح هذا الناشط الغزي الذي رفض الكشف عن اسمه خوفًا من تعرضه للمنع من السفر عبر معبر رفح، أن السيسي لا يفضل أن تنتهي أزمات قطاع غزة بالمطلق، فهو يستفيد من استمرار الانقسام الداخلي بين حركتي فتح وحماس، كما يستغل الحروب الإسرائيلية على غزة للتواصل مع العالم الذي يدين ملفه في حقوق الإنسان.
واستدل بذلك على عدد المسؤولين العرب والأوروبيين الذين زاروا القاهرة بعد انطلاق معركة “طوفان الأقصى” وطلبوا من مصر التدخل لدى حركة حماس للإفراج عن “محتجزين” أسرتهم خلال الهجوم على مستوطنات غلاف غزة.
وفضلًا عن العودة إلى الأضواء الدولية وتكثيف النشاط السياسي والدبلوماسي مع الغرب، يؤكد هذا الناشط أن مصر المأزومة ستستفيد اقتصاديًا في مرحلة ما بعد الحرب وخاصة في ملف الإعمار.
وتقول مجلة فورين بوليسي الأمريكية إنه بينما لا تزال “إسرائيل” وحماس عالقتين في الصراع، فإن الأضواء الدبلوماسية تتحول نحو مصر التي كانت وستظل لاعبًا أساسيًا في الاستجابة الدولية للحرب.
وتابعت في 24 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ: “قبل الحرب، كانت مصر مهمشة بشكل متزايد في السياسة العربية، كما أنها تعاني من اقتصاد متعثر، لكن عندما يتعلق الأمر بغزة، فإن القاهرة لديها مصالح حاسمة ونفوذ قوي”.
وأوضحت أنه “تم تهميش مصر، التي كانت ذات يوم مركزًا للسياسة والثقافة العربية، مع تزايد مشاكلها وتحول انتباه العالم نحو دول الخليج. ومن هنا فإن القيام بدور مركزي في قضية عربية رفيعة المستوى مثل الحرب بين “إسرائيل” وحماس يجلب هيبة لحكومة تكافح بشكل متزايد في الداخل”.
ومن خلال هذا النفوذ في الصراع، تسعى مصر للاستفادة اقتصاديًا، وتقول المجلة إن الرئيس الأسبق حسني مبارك تفاوض على أكثر من 10 مليارات دولار لتخفيف الديون الخارجية من الولايات المتحدة وحلفائها مقابل مساعدة مصر في حرب الخليج عام 1991.
وأوضحت المجلة أن “فورة الاقتراض في القاهرة خلال السنوات الأخيرة تعني أن الدين الخارجي لمصر اليوم يبلغ عدة أضعاف هذا المبلغ، وأن اقتصادها يئن تحت وطأة السداد”.
ومن خلال جهودها للتهدئة “ستسعى مصر بالتأكيد للحصول على فوائد، ويمكن للولايات المتحدة أن تساعدها ماليًا، في الغالب من خلال نفوذها على المؤسسات المالية الدولية، التي تدين لها القاهرة بعشرات مليارات الدولارات”.