ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، نزح 1.4 مليون شخص في غزة بعد أوامر إسرائيلية بالتهجير جنوبًا، وفقًا للأمم المتحدة. وهذا يمثل أكثر من 60 في المائة من سكان قطاع غزة.
في زمن الحرب، يضطر المدنيون أحيانًا إلى الفرار من المنطقة حتى تصبح العودة آمنة. في الأيام الأولى التي أعقبت الغزو الروسي في سنة 2022، على سبيل المثال، فرّ مئات الآلاف من الأوكرانيين بحثًا عن الأمان. لكن العديد من الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم يخشون أن أولئك الذين يحاولون الهروب من القتال في غزة لن يتمكنوا أبدًا من العودة إلى ديارهم وهم يخشون أن يصبح النزوح منفى دائمًا.
يساعد هذا في تفسير السبب الذي يجعل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي يحكم الضفة الغربية، يعارض بشدة أي خطة تنطوي على التهجير الجماعي للفلسطينيين. وترفض الدولتان العربيتان المجاورتان، مصر والأردن، استقبال سكان غزة جزئيًا بسبب المخاوف الأمنية والاقتصادية، ولكن أيضاً لأنهما تقولان إنهما لا تريدان السماح بمثل هذا النزوح. وقال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: “ما يحدث الآن في غزة هو محاولة لإجبار السكان المدنيين على اللجوء والهجرة إلى مصر”، مضيفًا أن مثل هذا التهجير سيجعل فكرة الدولة الفلسطينية غير قابلة للتنفيذ. وتابع: “ستكون الأرض موجودة، لكن بدون وجود الناس”.
هناك ثلاثة دوافع رئيسية لهذا الخوف أوّلها متأصل في الذاكرة الفلسطينية: ففي سنة 1948، طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين بشكل دائم خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، واستمرت عمليات التهجير المتقطعة منذ ذلك الحين حيث سعت إسرائيل إلى الحفاظ على أغلبية يهودية في الدولة من خلال دفع الفلسطينيين خارجها. أما الدافع الثاني فهو ما كان السياسيون الإسرائيليون يقولونه بشكل متزايد في الأشهر التي سبقت هجوم حماس – كان خطابهم المؤيد للطرد صارخًا للغاية لدرجة أن الخبراء حذروا من تزايد مؤشرات حدوث طرد جماعي آخر. أما الدافع الثالث هو ما تقوله مؤسسة الدفاع الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر: الدعوة إلى جعل غزة أصغر بشكل دائم يجعل عيش الفلسطينيين فيها مستحيلا ناهيك عن بناء دولة في يوم من الأيام.
إن فهم السياق التاريخي وما تريده إسرائيل اليوم هو المفتاح لفهم أين ستذهب هذه الحرب غدا – ولماذا لدى الفلسطينيين كل الأسباب للخوف من تهجير سكان غزة إلى الأبد.
معظم الفلسطينيين البالغ عددهم 2.1 مليون في غزة ليسوا في الأصل من غزة فهم أبناء أو أحفاد أكثر من 700 ألف لاجئ طردوا أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بإسرائيل خلال حرب سنة 1948 التي أدت إلى إنشاء الكيان. إن عملية الطرد هذه التي دامت 75 سنة – والتي يسميها الفلسطينيون النكبة وهي كلمة عربية تعني الكارثة” – ليست ذكرى تلاشت منذ زمن طويل بل ألم عميق ومتجذر ومستمر.
لا تزال العديد من العائلات الفلسطينية تحتفظ بمفاتيح المنازل التي تركوها في سنة 1948. وقد أخذوا المفاتيح معهم لأن القوات الإسرائيلية أخبرتهم أنهم سيتمكنون من العودة إلى ديارهم بعد بضعة أسابيع، وهذا لم يحدث قط. وبدلاً من ذلك، أصبحوا لاجئين دائمين. (اليوم، يمتد الشتات الفلسطيني من الأردن ولبنان وسوريا إلى دول الخليج العربية والغرب، في حين أن بعض الفلسطينيين هم مواطنون في إسرائيل، ويشكلون ما يقارب 20% من سكان البلاد).
لقد أصبحت هذه المفاتيح ترمز إلى ما يسميه الفلسطينيون “حق العودة” – أي حق اللاجئين الأحياء وأحفادهم في العودة إلى ممتلكاتهم الأصلية. وقد رفضت إسرائيل الاعتراف بهذا الحق، خوفًا من أن يشكل السماح لملايين اللاجئين بدخولها تهديدًا ديموغرافيًا – مما يحول الأغلبية اليهودية في البلاد إلى أقلية ويقوض مكانة البلاد كدولة يهودية.
والآن، وفي تكرار لما حدث سنة 1948، فرّ بعض الفلسطينيين في شمال غزة في الأسابيع الأخيرة من منازلهم ومفاتيحهم في أيديهم. قالت أروى الريس، طبيبة تبلغ من العمر 56 سنة، لصحيفة “نيويورك تايمز” قبل أن تغادر منزل طفولتها في مدينة غزة: “سآخذ مفتاح منزلي ولكني أتساءل؛ هل سأعود إلى منزلي يومًا ما؟”.
البعض في وسائل الإعلام يشيرون بالفعل إلى هذا على أنه “نكبة ثانية”، في حين أن الفلسطينيين الذين تحدثت إليهم قالوا إن هذه تسمية خاطئة لأنها تعني ضمنًا أن النكبة التي بدأت سنة 1948 قد انتهت.
قالت ميسون زيد، وهي فنانة كوميدية وكاتبة ومدافعة عن ذوي الاحتياجات الخاصة من أصل فلسطيني: “عندما يسألني الناس عما إذا كانت لدي ذكريات الماضي عن النكبة – أجيب، لا، أنا أعيش النكبة الآن! إنها نكبة مستمرة منذ سنة 1948”.
توافقها الرأي نادية ساعة، الناشطة الحقوقية الفلسطينية المقيمة في بروكلين ومؤسسة “مشروع 48”، وهو مصدر تعليمي حول النكبة، بقولها: “لقد كنا نحمل صدمة الأجيال التي عاشها آباؤنا، والآن، ما عايشه آباؤنا، نشاهده يتجلى أمام أعيننا على شاشة التلفزيون”، إذ هربت والدة ساعة إلى الأردن سنة 1948.
أخبرتني داليا حتوقة، وهي صُحفيّة أمريكية فلسطينية مقيمة حاليًا في الضفة الغربية، أن جدها قُتل وطُرد والدها من الريحانية في شمال إسرائيل الحالي – ليس في سنة 1948، بل في سنة 1953، عندما اشتبهت السلطات الإسرائيلية في أن القرويين كانوا يقيّمون علاقات دافئة للغاية مع لبنان، خصم إسرائيل في الشمال. وقالت: “هذا يدلّ على أن النكبة شيء مستمر، فهي شيء لم يتوقف أبدًا؛ لأن الناس يُطردون باستمرار”.
في سنة 1967، اندلعت التوترات التي طال أمدها في المنطقة وتحولت إلى حرب أخرى، دارت رحاها بين إسرائيل والتحالف العربي المكون من الأردن ومصر وسوريا. واستولت إسرائيل على الضفة الغربية (من الأردن)، وغزة وشبه جزيرة سيناء (من مصر)، ومرتفعات الجولان (من سوريا). وتم تهجير ما يقارب 300 ألف فلسطيني من الأراضي المحتلة حديثًا، معظمهم إلى الأردن.
منذ ذلك الحين، انتقلت أعداد متزايدة من الإسرائيليين إلى المستوطنات في الضفة الغربية. وتخدم هذه المجتمعات الجديدة، المدعومة من الحكومة، غرضًا سياسيًا يتمثل في خلق “حقائق على الأرض” جديدة – فالوجود اليهودي يجعل من المرجح أن تذهب الأرض إلى إسرائيل – وليس إلى الفلسطينيين- في أي اتفاق سلام مستقبلي محتمل. وفي السنوات القليلة الماضية، أصبح المستوطنون أكثر جرأة في ممارسة العنف ضد الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم، في حين كثفت السلطات الإسرائيلية عمليات هدم منازل الفلسطينيين بحجة أنها تقوم فقط بإنفاذ أنظمة البناء.
حتى قبل الحرب بين إسرائيل وحماس، كانت سنة 2023 بالفعل هي السنة الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ سنة 2005 إذ كان عنف المستوطنين في ارتفاع. وأصبح خطاب وأفعال كبار الضباط في إسرائيل فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية مثيرًا للقلق لدرجة أن الخبراء حذروا من أن نكبة أخرى قد تكون وشيكة.
ما قاله وفعله السياسيون الإسرائيليون في الأشهر التي سبقت هجوم حماس
في نيسان/ أبريل من هذه السنة، كتب بيتر بينارت، وهو صحفي يهودي أمريكي يكتب بشكل متكرر عن الشرق الأوسط، قصة بعنوان “هل تستطيع إسرائيل تنفيذ نكبة أخرى؟” في مجلة التيارات اليهودية. وأشار إلى أنه مع توجه الحكومة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نحو اليمين المتطرف، أصبحت فكرة طرد الفلسطينيين سائدة بشكل متزايد في المجتمع الإسرائيلي. وفي استطلاع للرأي أجراه العالم السياسي خليل الشقاقي سنة 2017، قال 40 في المائة من اليهود الإسرائيليين إنهم يعتقدون أنه يجب طرد أو نقل العرب الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية.
بحلول سنة 2021، كان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يخبر الأعضاء الفلسطينيين في الكنيست، الهيئة التشريعية الإسرائيلية، أنهم “جاءوا إلى هنا عن طريق الخطأ – لأن [مؤسس إسرائيل ديفيد] بن غوريون لم يكمل المهمة وقام بطردكم في سنة 1948”. (أدرك وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس، وهو الآن عضو في مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، ذلك على حقيقته، قائلاً: “يريد سموتريتش التسبب في نكبة فلسطينية أخرى – بالنسبة له، التصعيد أمر مرغوب فيه”.) وبحلول سنة 2022، شعر وزير الأمن إيتمار بن غفير بالجرأة الكافية لوضع لوحات إعلانية لحملته الانتخابية كتب عليها “فليُطرد أعداؤنا” أسفل صور أعضاء الكنيست من الأحزاب الفلسطينية.
وفي حين أن سموتريتش وبن غفير (كلاهما لا يزال في منصبيهما في الحكومة) معروفان بالمتطرفين، فقد أكد بينارت على أن هذه المشاعر كانت تزدهر أيضًا في حزب الليكود الذي ينتمي إلى يمين الوسط بزعامة نتنياهو، مع وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يوآف غالانت، ومستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، ووزير الزراعة آفي ديختر، الذين يلمح جميعهم إلى إبعاد الفلسطينيين.
عندما يدعي الفلسطينيون أن هدف إسرائيل على المدى الطويل ليس إقامة دولة فلسطينية بل طرد الفلسطينيين، فإنهم ليسوا مصابين بالهلوسة… في حين أن وتيرة طرد الفلسطينيين تذبذبت خلال 75 سنة منذ حرب استقلال إسرائيل، إلا أن هناك سببًا للقلق من أن التطرف من الممكن أن يؤدي مع استمرار حكومة إسرائيل الحالية، إلى جانب تصاعد العنف في الضفة الغربية، إلى تحويل التدفق الحالي إلى طوفان؛ لذلك فإن نكبة أخرى ممكنة.
وفي مقال نشرته صحيفة “ذا نايشن” في شهر آب/ أغسطس الماضي، حذرت مؤرخة الشرق الأوسط آن عرفان من أن “الظروف الحالية في إسرائيل وفلسطين تظهر بعض أوجه التشابه المثيرة للقلق مع الفترة التي سبقت سنة 1948”. وأشارت إلى أن شخصيات بارزة في الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل كانت تدعو علنًا إلى المزيد من عمليات طرد الفلسطينيين:
وقعت إحدى أسوأ الهجمات في شهر شباط/ فبراير، عندما اجتاح حوالي 400 مستوطن بلدة حوارة والقرى المجاورة لها في شمال الضفة الغربية. وأدى إضرام النار في حوارة إلى مقتل مدني وإصابة 100 آخرين، أربعة منهم في حالة خطيرة. والأهم من ذلك، أن هذا النوع من عنف المستوطنين ليس منفصلاً عن الدولة الإسرائيلية؛ حيث حظيت مذبحة حوارة بدعم مفتوح من بعض الوزراء. وغرد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يتولى أيضا السلطة على الشؤون المدنية في الضفة الغربية، قائلًا إنه يجب “محو حوارة”. وبالمثل، وصف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير المستوطنين “الأبطال” الذين يهاجمون الفلسطينيين. وبشكل عام، رأت عرفان أن الوضع كان بمثابة برميل بارود “كل هذا يعني أن خطر النكبة الثانية بلغ أعلى مستوياته منذ 75 سنة”.
وبعد أقل من شهرين، هاجمت حماس إسرائيل، فقتلت 1400 شخص واختطفت أكثر من 200. وأعلنت إسرائيل الحرب.
ما تقوله مؤسسة الدفاع الإسرائيلية منذ هجمات حماس
لعل السبب الأكثر وضوحًا لخوف الفلسطينيين الآن من التهجير الدائم هو أن السياسيين الإسرائيليين ظلوا يطرحون هذا الاحتمال بشكل أكثر وضوحًا منذ هجوم حماس، الذي كان مذهلًا ومروعًا لدرجة أنه أيقظ صدمة وخوف وغضب شديدين في صفوف الحكومة الإسرائيلية والجيش والجمهور على حد سواء.
فيما يلي اقتباسات مباشرة من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية هذا الشهر:
- كتب أرييل كالنر، عضو البرلمان من حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، على موقع “إكس” بعد هجوم حماس: “في الوقت الحالي، هناك هدف واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 48. نكبة غزة ونكبة كل من يجرؤ على الانضمام إليهم”!
- وكتب ريفيتال جوتليف، وهو عضو آخر في البرلمان من حزب الليكود، على موقع “إكس” أنه يجب على الحكومة أن تفكر في استخدام أسلحة نووية تسمى صواريخ أريحا في غزة. “الانفجار وحده يهز الشرق الأوسط؛ حيث سيعيد لهذا البلد كرامته وقوته وأمنه! لقد حان الوقت لسلاح يوم القيامة. وإطلاق صواريخ قوية بلا حدود. ليس تدمير حي، ولكن سحق وتسوية غزة”.
- كتب جيورا إيلاند، وهو لواء احتياط ورئيس سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، في إحدى الصحف الشعبية الناطقة بالعبرية: “ليس أمام دولة إسرائيل خيار سوى تحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه بشكل مؤقت أو دائم”. وفي تدوينة أخرى، ذكر أن “إسرائيل بحاجة إلى خلق أزمة إنسانية في غزة، وإجبار عشرات الآلاف أو حتى مئات الآلاف على البحث عن ملجأ في مصر أو الخليج”. وبالفعل يجب على إسرائيل أن تطالب “بأن يتحرك جميع سكان غزة إما إلى مصر أو الانتقال إلى الخليج”. وأخيرا قال إن “غزة ستصبح مكانًا لا يمكن أن يوجد فيه إنسان”.
- وألمح وزير الخارجية إيلي كوهين إلى الضم الجزئي، بحسب إذاعة الجيش الإسرائيلي. وقال كوهين: “في نهاية هذه الحرب، لن تكون حماس موجودة في غزة فحسب، بل ستنخفض مساحة غزة أيضًا”.
- وعلى نحو مماثل، قال الوزير الإسرائيلي جدعون ساعر إن “غزة يجب أن تصبح أصغر بحلول نهاية الحرب”، موضحًا أنه يقصد “في الشرق والشمال على حد سواء”، لأن خسارة الأرض هي “ثمن الخسارة الذي يفهمه العرب”. وأضاف: “يجب أن نجعل نهاية حملتنا واضحة لكل من حولنا. ومن يبدأ حربًا ضد إسرائيل عليه أن يخسر الأرض”.
- وحذر هيرزي هاليفي، رئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، من أنه بعد الهجوم العسكري الإسرائيلي، فإن “غزة لن تبدو كما كانت بعد”.
تشير هذه التعليقات – إلى جانب الخطاب اللاإنساني، مثل تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “إننا نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف وفقًا لذلك” – إلى أن جزءًا من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية ليس مهتمًا فقط بإسقاط حماس (إذا كان الأمر كذلك، فهناك هي طرق أفضل مما تفعله إسرائيل الآن)؛ وبدلاً من ذلك، فهذه دعوات صريحة للتهجير الدائم وفقدان الأراضي. لذلك ليس من المستغرب أن يعتقد بعض الفلسطينيين أن إسرائيل ستستولي على جزء على الأقل من الأراضي في غزة بعد الحرب.
ولم تطمئنهم التعليقات الأخيرة التي أدلى بها غالانت، الذي قال إنه بعد الحرب مع حماس، تتوقع إسرائيل إنهاء “مسؤوليتها عن الحياة في قطاع غزة”، لدرجة أنه حتى العلاقات الهشة بينهما – مثل السماح لبعض سكان غزة بدخول إسرائيل العمل أو السماح بدخول بعض البضائع إلى غزة – سيتم قطعها.
هناك خلاف عميق بين الحكومة الإسرائيلية والجيش، واقتتال داخلي صاخب داخل الحكومة نفسها بحيث يبدو أنهم يفتقرون إلى خطة موحدة. (يقال إن الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء هذا الأمر، وقد حذر بايدن نفسه في زيارة إلى تل أبيب هذا الشهر من أن إسرائيل تحتاج إلى “الوضوح بشأن الأهداف”.) وقد يكون بعض المسؤولين الإسرائيليين مهتمين بشكل أكثر تحديدًا باستراتيجية عسكرية مشروعة للإطاحة بحماس والدفاع عن المواطنين الإسرائيليين، في حين أن آخرين يسيرون نحو إلى اليمين؛ حيث يرون في هذه الحرب فرصة لطرد المزيد من الفلسطينيين.
وقد حدد الخبراء بعض السيناريوهات المحتملة على المدى الطويل، وجميعها سيئة أو غير قابلة للتنفيذ، وهي: سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة (وهو أمر صعب للغاية نظراً لعدم شعبيتها)، وحكم الوصاية الدولية في غزة للأمم المتحدة كحاضنة أطفال (وهو أمر غير واقعي إلى حد كبير)، أو ظهور جماعات متطرفة جديدة لملء فراغ السلطة (وهو كابوس أمني لإسرائيل)، أو ينتهي الأمر بإسرائيل إلى إعادة احتلال غزة.
باستثناء إعادة الاحتلال الكامل، وهو الأمر الذي قال السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة إن إسرائيل “ليس لديها رغبة” فيه، فإن أحد الاحتمالات هو أن تأخذ إسرائيل جزءًا من أراضي غزة لتوسيع “المنطقة المحظورة” أو “المنطقة العازلة” التي كانت موجودة منذ عدة سنوات داخل غزة على طول السياج المحيط الذي يفصل بين القطاع وإسرائيل. (ولا يستطيع أحد أن يعيش هناك حاليًا، وقد تم إطلاق النار على الفلسطينيين الذين يقتربون كثيرًا من السياج).
هذا ما تنبأت به ميسون؛ حيث قالت لي: “سوف تستولي إسرائيل على تلك الأرض وتصبح مثل ’المنطقة العازلة‘”. فهناك سابقة لذلك: لقد قامت إسرائيل في السابق بتقليص حجم غزة بهذه الطريقة عندما اندلع القتال. وفي سنة 2012، أشارت سارة روي، الباحثة في جامعة هارفارد، إلى أن المنطقة العازلة استوعبت “ما يقرب من 14 في المائة من إجمالي أراضي غزة وما لا يقل عن 48 في المائة من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة”.
وقد صرح الوزيران الإسرائيليان، جدعون ساعر وآفي ديختر، صراحة بأن هذا جزء من الخطة الإسرائيلية. وقال ديختر: “في قطاع غزة طوال الوقت، سيكون لدينا هامش. ولن يتمكنوا من الدخول؛ حيث ستكون منطقة محروقة. وبغض النظر عمن تكون، فلن تتمكن أبدًا من الاقتراب من الحدود الإسرائيلية”. وأضاف أن عرض المنطقة العازلة يجب أن يتم تحديدها وفقًا لمسافة الجيش الإسرائيلي أو المستوطنات الإسرائيلية”.
إن غزة هي بالفعل واحدة من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان في العالم. ويخشى الفلسطينيون من أن أي خسارة للأراضي من شأنها أن تجعل القطاع، الذي وصفته الأمم المتحدة لسنوات بأنه غير صالح للعيش، أكثر مما هو عليه الآن – ما لم يتم قتل أعداد كبيرة من الناس أو إجبارهم على الخروج.
وقال حتوكة، الصحفي في الضفة الغربية: “كانت فكرة النكبة بأكملها هي التخلص من الناس من أجل الحصول على الأرض. ومن الواضح أن قتل الناس كان جزءًا منه، فكيف يمكنك دفع الناس إلى الفرار؟ وما أراه الآن هو أن الأمر مستمر. إن الفكرة هنا هي التخلص من أكبر عدد ممكن من المدنيين”.
قال لي ساه: “إن الإسرائيليين يريدون وضعًا يغير قواعد اللعبة ويتحدثون علنًا عن النزوح الجماعي وجعل غزة غير صالحة للعيش. ينبغي أن نأخذ كلامهم على محمل”. وبغض النظر عما سيحدث في نهاية المطاف للقطاع، فإن الحياة لن تكون كما كانت بالنسبة للعديد من الناس في غزة، حيث تجاوز عدد القتلى بالفعل 7000 شخص، وفقًا لمسؤولي الصحة الفلسطينيين.
ويشير تحليل صور الأقمار الصناعية الذي أجرته مجلة الإيكونوميست إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية في غزة دمرت أو ألحقت أضرارًا بنحو 11 ألف مبنى – وما زال العدد في ازدياد. وبحسب التحليل، “لن يكون لدى ما لا يقل عن 92 ألف شخص منزل يعودون إليه عندما يتوقف القتال”. وسوف يكون هذا صحيحًا بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك في الحرب بين إسرائيل وحماس.
في الوقت الحالي، ليس من الواضح إلى أين يمكن أن يذهب لاجئو غزة، سواء بشكل مؤقت أو دائم. وتستمر مصر في رفض دخولهم، لكن بعض الخبراء يقولون إنه من الممكن أن تقتنع الأمة العربية، التي تعاني من أزمة اقتصادية، بالتراجع مقابل حوافز مالية. وهذا قد ينقذ الأرواح، ولكن على حساب النزوح. ومن الممكن أيضًا أن يتحرك المجتمع الدولي، الذي يرى الدمار المتزايد في غزة، لقبول اللاجئين؛ وعرضت اسكتلندا أن تكون أول دولة في أوروبا تفعل ذلك. في حين أن الساسة الأمريكيين منقسمون.
في نهاية المطاف، قد يولد هذا الفصل من النكبة الفلسطينية، أو لا يولد، نفس النوع من الطرد الجماعي الدائم الذي حدث قبل 75 سنة. لكن التجريد من الملكية يمكن أن يحدث بطرق أخرى، ابتداءً من ارتفاع عدد القتلى إلى التشرد. وقالت ميسون: “آمل ألا يتم دفعهم إلى مصر. لكن هؤلاء الناس أصبحوا لاجئين الآن. ودمرت إسرائيل منازلهم. فليس لديهم ما يعودون إليه”.
المصدر: فوكس