“منطقتنا في نقطة انعطاف، إما سنخوض حربًا كبيرة، وإما سنكون في سلام كبير”.. هكذا حاول وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، استشراف الأجواء التي تتحضّر فيها بلاده (رسميًا وشعبيًا) لبدء المئوية الثانية من عُمر الجمهورية، 29 أكتوبر/تشرين الأول، فيما يشدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن “تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي، ومن حقها التدخل السياسي والدبلوماسي، وربما العسكري” جراء العدوان على غزة.
تحذيرات أردوغان واضحة: “لا ينبغي لأحد أن يتوقع أن تظل تركيا صامتة، إزاء ما يجري في قطاع غزة، الهجمات الإسرائيلية همجية. كم من القنابل يجب أن تسقط على القطاع حتى يتدخل مجلس الأمن الدولي؟ الهجمات تتجاوز حد الدفاع عن النفس، تحولت إلى وحشية ومذبحة مكشوفة، الذين يدّعون التحضر يكتفون فقط بالمشاهدة، حماس ليست منظمة إرهابية، بل حركة تحرر وطني”.
لا تنفصل هذه المواقف الرسمية المُعلنة، عن تأكيد القدرات والجاهزية العسكرية التركية، لمواجهة أي تحديات تواجه الأمن القومي للبلاد، بحكم فعاليات النسخة الـ19 للمناورات العسكرية التركية مع جمهورية شمال قبرص، ومناورات “مصطفى كمال أتاتورك 2023” العسكرية مع أذربيجان مؤخرًا، بمشاركة تشكيلات جوية وبحرية وبرية ووحدات صواريخ ومدفعية وقوات خاصة وأخرى من الدرك.
الخطر يدق الأبواب
وهي تخطو نحو المئوية الثانية، تتحسب تركيا لتداعيات المغامرات العسكرية الإسرائيلية على منطقة الشرق الأوسط، ورغم تنامي العلاقات الرسمية بين البلدين منذ عام 1949، وجه وزير الخارجية التركي نصائح للخصوم والأعداء على السواء: “نحن دولة قوية ذات خبرة ولها ماضٍ تاريخي، فنأمل الالتفات لتحذيراتنا” حتى لا يتم استغلال الفوضى الإقليمية في الإضرار بالأمن القومي التركي.
فلسفة تركيا في التعامل مع المخاطر التقليدية وغير النمطية تعتمد، وفقًا للوزير هاكان فيدان، على الرد الحاسم، لا سيما إذا كان مصدرها جماعات وقوى انفصالية: “جميع البنى التحتية والفوقية ومنشآت الطاقة التابعة للتنظيم الإرهابي في سوريا والعراق أهداف مشروعة لقواتنا الأمنية والعسكرية والاستخباراتية.. رد قواتنا سيكون ملموسًا للغاية، سيجعل الإرهابيين يندمون على فعلتهم”.
تحاول تركيا قطع الطريق على اندلاع حرب إقليمية متعددة الأطراف، كونها ستؤثر على أمنها القومي ومصالحها الإقليمية، خاصة أن تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تهدد باضطرابات أوسع، قد تدفع بالشرق الأوسط إلى كارثة، وترى تركيا – التي تصل حجم تجارتها المشتركة مع “إسرائيل” إلى نحو 8 مليارات دولار سنويًا – أن حل المشكلات الإقليمية يكون عبر الحوار الذي يمهد لتحقيق السلام الدائم.
تطرح تركيا، وفق مقابلة إعلامية أخيرة أجراها الوزير هاكان فيدان، فكرة نظام يعتمد على أطراف ضامنة من أجل إحلال السلام الدائم للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بحيث تضمن بعض الدول الجانب الفلسطيني وأخرى “إسرائيل”، مع القدرة على إقناع الطرفين بما يجري التوصل إليه من حلول، وهو أمر يجري العمل عليه بين العواصم الفاعلة في المنطقة، على حد التأكيدات التركية.
أسباب تاريخية للقلق
لدى تركيا تخوفات تاريخية مرتبطة بالأجواء التي أحاطت بمطلع المئوية الأولى – إعلان الجمهورية قبل 100 عام على يد الراحل مصطفى كمال أتاتورك، الذي قاد الحركة الوطنية والجيش التركي في حرب الاستقلال ثم أصبح أول رئيس للبلاد – حتى لا تتعرض المنطقة لمزيد من التشرذم، ومن ثم فإن حكومة أردوغان تنخرط حاليًّا بشكل كبير للحد من انزلاق لبنان والأردن وسوريا في الحرب.
لا ينسى الأتراك أن معاهدة لوزان 24 يوليو/تموز 1923 التي تعد واحدة من أهم معاهدات السلام في العصر الحديث، رسخت لتسوية بين تركيا والحلفاء – المنتصرين في الحرب – وأعادت تشكيل منطقة الشرق الأوسط على نحو يرضي فقط قوى المصالح الدولية، وأنها كانت استكمالًا لاتفاقية سايكس- بيكو، ومعاهدة سيفر أغسطس/آب 1920 التي فككت الإمبراطورية العثمانية ووزعت مناطق نفوذها.
وقبل نحو 103 أعوام أُجبرت الإمبراطورية العثمانية الخاسرة في الحرب العالمية الأولى على التخلي عن مساحات داخل نطاقها الجغرافي، وأراضٍ كانت خاضعة لسيطرتها، أرمينيا نموذجًا، وآل إرثها لقوات الحلفاء، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، خاصة غرب تركيا وجنوبها، وجزء من جزر بحر إيجة ومضايق إستراتيجية تقع على جانبي مدينة إسطنبول.
وشكل تأسيس الجمهورية التركية “دولة قومية” بعد معاهدة لوزان، إعلانًا رسميًا عن نهاية حقبة الإمبراطورية العثمانية “ملكية مطلقة”، حيث أُلغي مكتب السلطان العثماني ومنصب الخلافة، واتُخذت خطوات أخرى حاولت التأسيس لدولة مدنية حديثة، لكن سرعان ما واجهتها عراقيل وصراعات داخلية بعد وفاة أتاتورك عام 1938، واستمرت هكذا حتى بداية حقبة حكم حزب العدالة والتنمية، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2002.
ولا تزال تركيا الرسمية تشعر بغصة تجاه “أولئك الذين تركوا تركيا خارج موارد الطاقة في حدودها الجنوبية قبل 100 عام”، والبلاد وهي على أبواب المئوية الثانية تتمسك بمشروع “الوطن الأزرق” وفق تأكيدات أردوغان: “سندافع عن حقوقنا وحقوق إخواننا وأخواتنا في الوطن الأزرق بشكل أقوى” كرؤية إستراتيجية.
طموحات خليفة المؤسس
تتشابه الطموحات الداخلية التي أحاطت بتأسيس الجمهورية التركية عام 1923، مع دخولها المرتقب حاليًّا للمئوية الثانية، حيث تبدو البلاد أمام أجندة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، خاصة صياغة دستور يليق بالمرحلة الجديدة من عُمر البلاد، كأحد أهم الاستحقاقات المهمة أمام الجمعية الوطنية الكبرى ،البرلمان، خلال الفترة المقبلة.
وتمثل مئوية تركيا بحسب أردوغان: “خريطة طريق شاملة من شأنها أن ترفع مكانة بلدنا فوق مستوى الحضارات المعاصرة، وتصميم أمتنا على تحقيق أحلامها التي تعود إلى قرون والمضي نحو أهداف أعظم بكثير، وهي تجسيد شعبنا وبناء مستقبله بروح حرب الاستقلال. سنحول هذه الرؤية تدريجيًا إلى واقع باتحاد شعبنا، وتناغم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وأجهزة الدولة”.
ويستعد أردوغان للمئوية الثانية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، بعدما أعلن عن تصوراته المبدئية السياسية والاقتصادية والصناعية ضمن برنامج شامل لمستقبل البلاد، يستكمل نجاح حزب العدالة والتنمية في إحداث تغييرات واسعة تحت مظلة تركيا الجديدة، لا تتوقف عند بلورة هوية ثقافية لا تتناقض مع الدستور، وتبني رؤية موسعة للنهوض بكل القطاعات، ومراكمة المكتسبات الوطنية.
الرؤية التشاركية التي يتبناها أردوغان تتبدى في مطالبته للقوى السياسية التركية بـ”صياغة دستور جديد للبلاد، يتوافق مع جهود الحكومة التي تدير الدولة بنجاح، وبمعايير عالمية تضعها في مصاف الدول الكبرى.. الدستور التركي تم تعديله أكثر من 20 مرة حتى أصبح مترهلًا.. أتحدث عن دستور مدني جامع وشامل يأتي بالتوافق والحوار ويليق بمئوية تركيا”.
يحدد أردوغان الخطوط العريضة لملف الدستور “سنعزز ديمقراطيتنا بدستور جديد حر ومدني وشامل ونتحرر من الدستور الحاليّ الذي كان ثمرة لانقلاب عسكري”، ووفق مصادر “نون بوست” ستكون التعديلات المرتقبة لدستور عام 1982 كاملة، وبتوافق وطني على معظم البنود، بغرض مد جسور التقارب بين السلطة والمعارضة خلال مطلع الألفية الثانية.
تتعدد ملامح المئوية الجديدة “قرن تركيا” بحكم المحاور الأساسية: الأمن – الاستقرار -التنمية – القوة – النجاح – السلام – العلم – دعم الشعوب – الإنتاجية – المواصلات – الاستثمار في الإنسان – رفاهية المواطن – تمكين الشباب. تركز الإستراتيجية على البنية التحتية للتكنولوجيا والاتصالات والمواصلات المتفرعة إلى الإنترنت والأقمار الصناعية ومحطة الفضاء، والاكتفاء الذاتي من التسليح وتصدير الفائض منه.
تسريع جهود النهوض بالاقتصاد التركي وإعادة تعويمه، ستكون حاضرة خلال مطلع الألفية الثانية، بعدما واجه تحديات عدة، محليًّا ودوليًا، خلال السنوات الأخيرة، لا سيما تفشي فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” والحرب الروسية – الأوكرانية وكارثة الزلزال، عبر خطط اقتصادية مرحلية، تعيد جذب الاستثمارات وتحقق معدلات نمو اقتصادي، وزيادة قيمة الصادرات والعائدات السياحية، وتحسين الأجور، فضلًا عن تخفيف الضرائب وخفض التضخم.
معركة الإرهاب مستمرة
مشروع “مئوية تركيا” يفرض نفسه على البرلمان التركي، الذي يعمل على استكمال الإطار القانوني والتشريع المعزز لكل القطاعات، منذ حسم الانتخابات البرلمانية في مايو/أيار الماضي، كما سيتم سن تشريعات وقوانين لتعزيز أمن المجتمع، والتصدي لظواهر العنصرية والكراهية، والأمن الاجتماعي، مع تعقب ظاهرة الإرهاب – حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن – والكيانات المرتبطة بها.
لا يخفي أردوغان خريطة العداءات التي تواجه الشعب التركي – 85 مليون مواطن – ويعترف في خطابه بافتتاح جلسات البرلمان مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، بأن “الدول العظمى سلطت على تركيا منظمات إرهابية، قضينا على أخطار كبيرة تتعلق بالإرهاب في الداخل والخارج، والتنظيمات الإرهابية تلفظ أنفاسها الأخيرة، لأننا نضربها بشكل دائم.. لن نسمح لتنظيم فتح الله غولن بالعودة”.
تتمسك تركيا بمواصلة العمليات العسكرية خارج الحدود، وأنها حق مشروع لها حتى تقضي على التنظيمات الإرهابية بالكامل، مع كل امتداداتها وأسمائها، وأنه على الدول استكمال نجاح تركيا، منذ 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في تطهير منطقتي تل أبيض ورأس العين شمال سوريا، من التنظيمات الإرهابية – الانفصالية، وإنشاء منطقة آمنة نسبيًا على طول الحدود، والعمل على إعادة الحياة لطبيعتها هناك.
خطوط عريضة للمئوية
سيتم العمل خلال مطلع المئوية الثانية على إنجاز عمليات إعادة إعمار 11 ولاية ضربها زلزال 6 فبراير/شباط الماضي، بعدما شُرد نحو 1.5 مليون شخص، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومواصلة خطط التحول الحضري وفق خطط طوعية، تتوافق مع خصائص المناطق واحتياجات المواطنين، لتحقق الاحتياجات الخدمية والاجتماعية والاقتصادية، وتحد من مخاطر الكوارث.
ستشهد البلاد تنفيذ المزيد من المشاريع العملاقة في البنى التحتية: كمطار إسطنبول الجديد، وقناة إسطنبول الجديدة، وتزويد المناطق بشبكات للمواصلات وجسور وطرقات وسكك حديدية، والربط بين البحر الأسود شمالًا وبحر مرمرة جنوبًا لتغير وجه النقل البري والبحري في تركيا، وتخفيف الضغط على قناة البوسفور في الشرق ،أكثر الممرات المائية ازدحامًا وكثافة ملاحية عالميًا، فضلًا عن تعزيز الدخل القومي.
ستواصل تعزيز ملف الصناعات الدفاعية والعسكرية – 7 شركات محلية من إجمالي 2000 شركة تركية متخصصة في الصناعات الدفاعية، ضمن قائمة أفضل 100 شركة عالمية – الذي يحظى بأهمية بتقاطعاته الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية، وارتباط ذلك بخطط تنويع موارد الاقتصاد التركي، وتعزيز الدخل القومي التركي، في منطقة الشرق الأوسط التي تتصدر أقاليم العالم في توقيع صفقات التسليح.
يتواصل العمل خلال المئوية الثانية على دمج وتمكين الشباب – نحو 13 مليون من إجمالي 85 مليون نسمة – عبر العمل على تعزيز المكتسبات والوفاء بمطالب الشباب، خاصة النهوض الاقتصادي، وتوفير 6 ملايين وظيفة جديدة في 5 سنوات، وتخفيض معدلات البطالة، والتركيز على قطاعات المستقبل: الاستدامة والتنمية والعلم والاتصال والرقمنة والإنتاج.
ستحظي جهود ملفات السياسة الخارجية وإدارة التناقضات الجيوسياسية، إقليميًا ودوليًا، بدور واضح بما يتماشى مع مزاج الشعب التركي، الذي يميل لتعزيز القوة الوطنية والقدرة على التأثير، من خلال وحدة المسار بين الأمن وصياغة السياسات الخارجية، مع استكمال خطوات التهدئة الإقليمية، وإنجاز تفاهمات سياسية جديدة، تحمي المصالح المشتركة، وتجابه التهديدات المتعددة.
ستحاول تركيا، خلال مطلع المئوية الجديدة، الموازنة في علاقاتها الخارجية، شرقًا – الشرق الأوسط والصين وروسيا وإيران – وغربًا – حلف الناتو – ولا ينكر أردوغان أن “سلوك الاتحاد الأوروبي تجاه تركيا غير عادل، وأنه لم يفِ بوعوده – ضمها لمنظومة الاتحاد – رغم التزامنا بالتعهدات.. هم يتعاملون مع تركيا بشكل منحاز.. لن ننتظر على بابه بعد الآن”.
الماضي للاسترشاد فقط
من الماضي إلى الحاضر، لا تبدو تركيا بعيدة عن التحديات الإقليمية الدولية، وتأثرها الواضح بما يتم في منطقة الشرق الأوسط، لذا يتعهد أردوغان بمواصلة العمل من أجل الحفاظ على الجمهورية، ورفعها لمستوى الحضارات المتقدمة، والعمل على تحقيق أقصى استفادة لتركيا، وسط صراعات إقليمية ودولية، وتعزيز الحضور في كل النطاقات.
خلال المئوية الجديدة يتواصل النهج التكتيكي الإستراتيجي، الذي عبرت عنه في وقت سابق عمليات عسكرية: عملية درع الفرات في أغسطس/آب 2016، وعملية غصن الزيتون في يناير/كانون الثاني 2018، وعملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019، فيما تكفلت عمليات “المخلب” بمواجهة الإرهاب القادم من شمال العراق، وسلسلة قواعد عسكرية لتعزيز إستراتيجية الدفاع المتقدم.
الحسابات الدقيقة والتوازنات السياسية الدولية ستحدد مسار تركيا خلال الفترة الأولى من المئوية الجديدة، حيث يسترشد أردوغان بالمعارك التاريخية الكبرى، بدءًا من الحروب الصليبية وصولًا إلى حروب جناق قلعة، في كشف خريطة العداءات المتجددة، والعمل على تعزيز استقلال القرار الوطني، من خلال “التغلب على العقبات، وحتى تنبت البذور وتتحقق الأحلام”.