ما لا يعرفه أغلب زائري إسطنبول وسياحها، أن هناك حيًا عريقًا يحمل اسم “بلاط”، لا يقل سحر جماله عن أغلب أحياء المدينة العريقة، إلا أن لهذا الحي سحره الفريد من نوعه، والذي لا يشاركه فيه أي حي آخر من أحياء إسطنبول، ربما لأنه كان أكثر الأحياء المتسامحة دينيًا مع مختلف الأطياف والمذاهب والأعراق، وكان موطنًا لليهود الأتراك قبل هجرتهم، ولكن قبل أن نستكشف هذا الحي سويًا، فلنلق نظرة على يهود الأتراك أولًا.
“الدونمه” أو العائد مصطلح يطلق على يهود الأتراك، ويعود تاريخ المصطلح إلى يهود إسبانيا الهاربين من محاكم التفتيش آنذلك، ليكون “الأناضول” – الجزء الآسيوي من الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت – ملجأهم، ليعيشوا ويتعايشوا مع الأتراك المسلمين.
“الدونمه” أو العائد، مصطلح يطلق على يهود الأتراك الهاربين من محاكم التفتيش في إسبانيا
وإذا عدنا بالتاريخ قبل ذلك، سنتعرف على يهود الخزر، وهي كلمة مشتقة من اللغة العثمانية القديمة، بمعنى التجوال والرحيل والبداوة، حيث كان يهود الخزر جزءًا من الإمبراطورية التركية الغربية في آسيا الوسطى نحو منتصف القرن السادس الميلادي، وهم في الأصل الشعوب التي كانت تستوطن ما يعرف اليوم بدول وأقاليم أوزبكستان وأذربيجان وتركمانستان وقرغيزستان وكزاخستان، وقد هاجرت إلى ما يعرف اليوم بتركيا في القرن الثاني عشر الميلادي.
كان ليهود الخزر مكانة مهمة في التاريخ، إذ كان لهم تأثير مهم في وسط آسيا في ذلك الوقت بعد أن كان لهم دولة قوية نسبيًا ترث أجزاءً من الإمبراطورية الفارسية بحسب مصادر التاريخ، إلا أنها لم تنج كثيرًا من السجال المستمر بينها وبين الفتح العربي الإسلامي والمعارك المستمرة مع الإمبراطورية البيزنطية.
كان المد الإسلامي في طبيعته الثقافية والاستيعابية يمثل عملية صعبة المراس تكاد يستحيل مقاومتها
كان المد الإسلامي في طبيعته الثقافية والاستيعابية يمثل عملية صعبة المراس يكاد يستحيل مقاومتها، فتحولت الخزر بدولها وشعوبها إلى جزء من الأمة الإسلامية في النهاية، وما بين الدولة السلجوقية وصولًا للهولة العثمانية، انضم إليهم يهود “الدونمه”، أو يهود الإسبان العائدين (يهود سفارديون)، وتحولوا في النهاية إلى كيان يهودي يعيش ضمن سماحة الحكم الإسلامي.
أين عاش يهود الأتراك؟
بمرور التاريخ كان لليهود مراكز بعينها من الإمبراطورية العثمانية قامت عليهم حضارتهم الثقافية والدينية وكذلك مجتمعهم الاقتصادي الذي كان متميزًا قليلًا عما كان عليه الأتراك المسلمون حينها، وهذا ما كان وراء سبب اهتمام العثمانين بتلك الفئة من اليهود التجار والماهرين في الصناعة.
سكن اليهود مناطق عديدة من الدولة العثمانية، خصوصًا بعد ترحيب الدولة السلجوقية وبعدها الدولة العثمانية بوجودهم بينهم، خصوصًا أولئك الناجحين في الصناعة والتجارة المالية، فرحب العثمانيون بفكرة تملك اليهود أحيائهم الخاصة، مقابل دفعهم لضريبة “الخراج”، ليزداد عدد اليهود في إسطنبول وإزمير وإدرنة، وشُكِّلتْ مدرسة لتعليم الدين اليهودي في إدرنة التي أصبحت مركزًا ثقافيًا وتعليميًا للطلاب اليهود في جميع أنحاء البلاد.
سكن اليهود مناطق عديدة من الدولة العثمانية، خصوصًا بعد ترحيب الدولة السلجوقية وبعدها الدولة العثمانية بوجودهم بينهم
كان ذلك سببًا كافيًا لهجرة الكثير من يهود الشام ومصر والدولة البيزنطية ويهود المجر وفرنسا أيضًا، ليجدوا في الدولة العثمانية ملجأ لها، وعلى الرغم من أن نهاية اليهود الأتراك لم تكن كبدايتها خصوصًا مع بداية ميلاد الجمهورية التركية، فيمكننا أن نلقي نظرة على الأحياء التي عاش فيها اليهود قبل هجرتهم إلى إسرائيل.
حي بلاط.. أحد أحياء التراث العالمي
يقع الحيّ في إسطنبول، في منطقة “الفاتح”، بين منطقتي “أيوان سراي” و”فنار” التاريخيتين، إلى الغرب من منطقة “إمينونو””، مطلًا على القرن الذهبي، ومتميزًا بمنازله القديمة الملونة، ومبانيه التاريخية والكنائس الأرثوذكسية، ومدارس ومعابد الجاليات والأقليات اليهودية واليونانية والأرمنية، مما جعله يدخل قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
يضم الحي ثلاثة معابد وكنائس لليهود، أبرزها “معبد أهريد”، وهو المعبد الذي بُني في القرن الخامس عشر، الذي لا يزال يؤدي دوره وتتم إدارته من قبل أحد الحاخامات، ويمكن دخوله بإذن مسبق، ويتميز المعبد بشكله المشابه لمقدمة السفينة، يُشبّهه البعض بسفينة نوح، في حين يظن البعض أن شكل السفينة ترمز إلى السفن العثمانية التي حملت المهاجرين اليهود الذين تم طردهم من الأندلس إلى الأرصفة العثمانية.
يضم الحي ثلاثة معابد وكنائس لليهود، أبرزها “معبد أهريد”
يحتوي الحي على كنيسة يهودية أخرى، وهي كنيسة “يانبول”، يرجع اسمه إلى اليهود المهاجرين من حي يانبولو في مقدونيا، وهو المبنى اليهودي القديم الثاني في المنطقة، وتحوي جدرانه وأسقفه لوحاتٍ يُعتقد أنها تصور الحي المقدونيّ.
أما عن الآثار البيزنطية والأرثوذكسية، فلعلّ أبرز ما تركت من أثر كانت “كنيسة ومتحف شورا” أو “خورا”، أحد الشواهد البيزنطية الباقية، كان للمتحف اسم آخر هو ”كنيسة المخلص المقدس”، وتحول من كنيسة بيزنطية إلى جامع في القرن السادس عشر، ومن بعده إلى متحف سُمي بمتحف “شورا” عام 1948.
كنيسة القديسة ماري
هنا تأتي ميزة حي “بلاط” الفريدة من نوعها، فنرى جامع “فرّوح كتهدا”، الذي بُني عام 1562 في عهد السلطان سليمان القانوني، وصممه المعماري الشهير “سِنان”، فكان الجامع مُخصصًا للدراويش على مدى سنين طويلة، مما جعله يبدو منعزلًا بعض الشيء عما يحيط به.
يمكنك من خلال المشي لمدة تزيد على الخمس عشرة دقيقة أن تصل إلى قمة الحي، وهي قمة أو تلة “المُلّا عشقي”، المطلة على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي، حيث يمكنك من هناك التقاط أروع الصور لمدينة إسطنبول، حيث تظهر بجمال جانبها الأوروبي وسحر جانبها الآسيوي من على قمة تلك التلة.
من داخل المعبد “الكنيسة اليهودية”
كان الحي في العقود الأخيرة مستقرًا للعديد من الأشخاص ذوي الدخل المحدود، والطبقات الاجتماعية الفقيرة، نتج عن ذلك إهمالًا واضحًا لكثير من معالمه، والتي تجد بعضها مهجورًا إلى يومنا هذا، فبعد هجرة أهل الحي من يهود ومسيحين، لم يحب كثير من الأتراك اتخاذ منازلهم سكنًا بعد ذلك.
الحكومة التركية ودورها في سياسة “الاستطباق”
ما الاستطباق؟ أو في سياق آخر استبدال طبقة محل الأخرى، وبالنسبة لحالة “بلاط” وكثير من الأحياء التاريخية القديمة في إسطنبول، فهذا يعني استبدال الطبقة المتوسطة أو محدودة الدخل بالطبقات الغنية في المجتمع، والتي على استعداد بأن تتملك بالسعر الذي تقره الدولة، بعدما طرحت مشاريع التطوير والتحسين الحضري لتلك المنطقة في يد المستثمرين، ذلك بالإضافة إلى رغبة رجال الأعمال أنفسهم وغيرهم من أصحاب رؤوس الأموال في المجالات الحرة كالمطاعم والكافتيريات من أن يكون لهم حصة من تلك المشروعات الاستثمارية.
لم يكن “بلاط” مركزًا لاهتمام الدولة وأصحاب رؤوس الأموال فحسب، فكانت لليونسكو أيضًا حظًا من الخطة التطويرية بمشروعها التطويري الحضري للعلوم والثقافة للحفاظ على معالم حي “بلاط” الأثرية وإعادة ترميم ما تم هجره منها لعقود.
وعلى الرغم من أن زائر “بلاط” يستطيع تمييز الطبقة المجتمعية المتوسطة ومحدودة الدخل التي تسكن كثيرًا من أزقة الحي، إلا أنه سيستطيع أيضًا تمييز ما تم تجديده لكثير من المباني والبيوت، وسيلاحظ ارتفاع في أسعار الإيجارات والشراء بالنسبة للمباني وللمنازل المستقلة أيضًا، ذلك نتيجة لزحف الطبقة الأكثر ثراءً نحو الحي، وارتفاع نسبة الضرائب المفروضة على المنازل هناك.
يمكن للبعض أن يرى تلك السياسة (الاستطباق) بالأمر السلبي بعض الشيء، ذلك لأنها ستتسبب بشكل غير مباشر بالضغط على السكان الأصليين للحي، لأنهم ببساطة لن يستطيعوا مواكبة أسلوب حياة الطبقة الأكثر ثراءً، ولن يستطيعوا دفع المبالغ التي يدفعها الأثرياء، ولهذا يمكن لبعضهم أن يختار منزلًا أصغر حجمًا مما كان فيه في البداية، أو يختار البعض الآخر أن ينتقل من الحي كليًا إن لم تجد له الدولة فرصة أخرى للبقاء، إلا أنه على الصعيد الآخر يعطي للمستثمر إشارة جيدة بخصوص الاقتصاد التركي، الذي ظهرت فيه طبقة مجتمعية كاملة على أتم استعداد أن تدفع أكثر، وهو ما يعطي صورة إيجابية عن النشاط الاقتصادي في البلد بشكل عام.
إن تعبت خلال تجولك بين أزقة حي “بلاط” يمكنك أن تستريح في المقاهي المتنوعة الأشكال والألوان والخدمات في الحي، فتعد أزهي ما يزين “حي بلاط” باختلاف أشكالها ونوعية الطعام التي تقدمه بداية من المأكولات التركية التقليدية والقهوة التركية المشهورة إلى أشهى المأكولات الغربية والحلويات المختلفة.
ولا تنس أن تلق نظرة على محلات “الأنتيكا” أو أسواق المقتنيات العتيقة، فيمكن أن تبتاع من هناك تذكارًا لن تجده في مكان آخر سوى “بلاط”، فهناك سترى التماثيل تخلد قصص الحي التاريخية بين اليهود والمسيحين، وسترى نجمة داوود تجاور الصليب، وسيكون البائع مسيحي، ويبيعك تذكارًا لشعار الإمبراطورية العثمانية الذي يحمل علم الخلافة تحت شعار “الدولة الأبدية”.