“هبط ثور السماء، خار فقتل مئة رجل، خار ثانيةً فقتل مئتي رجلٍ ثم ثلاثمئة، هجم على أنكيدو فأمسك أنكيدو بقرنيه، أرغى الثور وأزبد فأمسك أنكيدو بذيله ونادى: جلجامش ظفرنا به، وبين السنام والقرنين أنفذ السيف، فقتلا ثور السماء وأخرجا قلبه”.
لم تكن تلك الكلمات المستوحاة من أسطورة ملحمة جلجامش البابلية، سوى مدخلًا للحديث عن مصارعة الثيران، أو Corrida de Torros باللغة الإسبانية، تلك الرياضة أو التراث أو التسلية – سمها ما شئت فكل المسميات صحيحة – التي ما زالت تُمارس حتى يومنا هذا، بنفس القواعد والأسس التي كانت عليها تقريبًا عند ظهورها الأول!
مصارعة الثيران التي تُمارس في إسبانيا في القرن الـ21، لا تختلف كثيرًا بوحشيتها ودمويتها عن تلك التي كان يُمارسها الإنسان في العصور الحجرية!
نعم صدقوا، مصارعة الثيران التي تُمارس في إسبانيا في القرن الـ21، لا تختلف كثيرًا بوحشيتها ودمويتها عن تلك التي كان يُمارسها الإنسان في العصور الحجرية! مع اختلافٍ غير بسيطٍ يكمن في الغاية، فمصارع العصر الحجري كان يواجه الثور ليحفظ بقاءه ويؤمن قوته وقوت عياله، بعكس مصارع العصور الحديثة، الذي يواجه الثور بغرض الشهرة والمال وتسلية الناس، وشتان ما بين الغايتين!
لوحةٌ رمزيةٌ تمثل صراع جلجامش مع الثور في الملحمة الأسطورية الشهيرة
إذًا، مرت مصارعة الثيران بالعديد من الأحقاب التاريخية كما قلنا، لم تعرف خلالها الكثير من التغييرات على صعيد الطرق والقوانين، إنما كانت الغايات هي من تتغير، فالملك الروماني الشهير يوليوس قيصر، عُرف بعشقه للنزالات الدموية، فكان يرعى حفلات المصارعة الشهيرة التي كانت تتم بين العبيد والثيران، وتنتهي غالبًا بمقتل الإنسان أو الثور، ولا يهم ذلك طبعًا في عُرف الملك والحاشية والحضور، الذين جاؤوا للتسلية وإرضاء نفوسهم المريضة المحبة للدماء!
وجد أجدادنا العرب المسلمون في الأندلس صراع الثيران جزءًا من تراث البلاد التي فتحوها ومكثوا فيها 8 قرون، فكان أن تركوها على حالها دون محاربتها أو تشجيعها
واختلفت الغايات في عصورٍ أخرى، فكان الصراع بين الإنسان والحيوان يمثل الصراع بين الخير والشر بحسب عُرف الإغريق، وكان وسيلةً لتدريب المقاتلين وتمتين عضدهم بحسب عُرف أجدادنا العرب المسلمين في الأندلس، الذي وجدوا تلك الصراعات جزءًا من تراث البلاد التي فتحوها ومكثوا فيها 8 قرون، فكان أن تركوها على حالها دون محاربتها أو تشجيعها.
ويصف الكاتب الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في أحد مؤلفاته، شكل نزالات مصارعة الثيران في عصره، علمًا بأنه عاش في غرناطة وتوفي منتصف القرن الـ14:
“يُطلق الثور أو بقر الوحش في الساحة، ثم تُطلق عليه كلاب اللان المتوحشة، فتأخذ في نهش جسمه وتعلق بأذنيه كالأقراط، وذلك تمهيدًا للقاء المصارع الذي يكون فارسًا مغوارًا يصارع الثور وهو على فرسه، ثم يصرعه في النهاية برمحه”.
لوحةٌ زيتيةٌ لبيكاسو تعود لعام 1901 تجسد رياضة مصارعة الثيران
وبقيت تلك النزالات ملتصقةً بإرث سكان الأندلس، حتى بعد خروج العرب وسقوط آخر معاقلهم في غرناطة عام 1492، بل ارتفعت شعبيتها في مختلف أرجاء أوروبا منتصف القرن الـ16، قبل أن يصدر قرارٌ كنسيٌ باباوي بتحريمها عام 1567، مما حد من شعبيتها وانتشارها في القارة العجوز، لتقتصر ممارستها على شبه الجزيرة الإيبيرية المتمثلة بإسبانيا والبرتغال، مع انتقال عدواها إلى دولٍ أخرى بفعل الجوار كفرنسا، أو بفعل حملات الاحتلال الإسبانية والبرتغالية في دول أمريكا اللاتينية خاصة.
استوحى كبار فناني ومثقفي إسبانيا عددًا من أعمالهم الفنية والأدبية البديعة من مصارعة الثيران، كلوحات بابلو بيكاسو وسلفادور دالي، ومنحوتات فرانشيسكو غويا، وقصائد فيدريكو غارسيا لوركا
وتعمق ارتباط مصارعة الثيران بالثقافة الإسبانية على مدى القرون التالية، إلى درجةً أصبحت فيه رمزًا للشخصية الإسبانية التي تتسم بالجرأة والشجاعة، وقد استوحى منها كبار فناني ومثقفي البلاد عددًا من أعمالهم الفنية والأدبية البديعة، كلوحات بابلو بيكاسو وسلفادور دالي، ومنحوتات فرانشيسكو غويا، وقصائد فيدريكو غارسيا لوركا.
مشهد إطلاق الثيران في شوارع مدينة بامبلونا قبل بداية حفل المصارعة
والآن، وبعد أن تعرفنا على خلفية مصارعة الثيران التاريخية، دعونا نقتحم إحدى حلباتها الواسعة الانتشار في المملكة الإسبانية، لنتابع معًا وقائع إحدى حفلات موسم مصارعة الثيران في إسبانيا، والذي يبدأ في شهر مارس وينتهي في شهر أكتوبر من كل عام، حيث تسبق تلك المنازلات التي تُعد مهرجاناتٍ احتفاليةٍ في المدن التي تجري فيها، عادةٌ قديمة تقضي بإطلاق الثيران من حظائرها في شوارع المدينة، حيث يركض الناس أمامها وهي في طريقها إلى الحلبة.
يبدأ موسم مصارعة الثيران في إسبانيا في شهر مارس وينتهي في شهر أكتوبر من كل عام، وتسبق المنازلات عادةٌ قديمةٌ تقضي بإطلاق الثيران من حظائرها في شوارع المدينة
وفي الحلبة، وعلى وقع أنغامٍ من الموسيقى الإسبانية التراثية، يدخل الثور ذو القرنين الحادين المنحدر من فصيلة “برابو” الخاصة، والذي يبلغ وزنه بين 400 و500 كغ، وعمره بين 4 و10 أعوام، ليجد في انتظاره المصارع الرئيسي الذي يُدعى “التوريرو” أو “الماتادور”، والذي يرتدي بدوره لباسًا تراثيًا خاصًا، ويحمل قطعة قماشة حمراء على شكل معطف، يقوم بتحريكها بشكلٍ يثير انتباه الثور دون تهييجه.
لحظة طعن البيكادور للثور برمحه
ثم تبدأ المرحلة الثانية وهي أشد المراحل إيلامًا وقسوةً على الحيوان المسكين، حيث يظهر على الحلبة عددٌ من المصارعين المساعدين، يتقدمهم مصارعٌ يُدعى “بيكادور” يمتطي صهوة جوادٍ ويمسك برمحٍ طويل، يقوم بغرزه في ظهر الثور بعمق حوالي 10سم، في عمليةٍ تهدف لإثارته من جهةٍ وإضعاف قوته من جهةٍ أخرى، ثم يكمل بقية المساعدين عملهم بغرز أسهمٍ ملونةٍ قصيرة النصال على كتفي الحيوان المسكين.
يتعرض الثور لعدة طعناتٍ في ظهره عبر رمحٍ وأسهمٍ صغيرة، قبل أن تنتهي المصارعة الدموية بسيفٍ طويلٍ يغرزه الماتادور في قلب الثور المنهك
ليأتي الدور أخيرًا على المصارع الرئيسي “الماتادور”، الذي يقوم بمناورة الثور المنهك النازف ببعض الحركات الاستعراضية التي تثير الجمهور، قبل أن يُجهز عليه بضربةٍ من سيفه الحاد الطويل، يقصد بها عادةً إصابة قلبه لإنهاء معاناته سريعًا، ولكنه يخطئ هدفه في أغلب الأحيان، ليضطر لطعنه مرةً أخرى في رقبته، قبل أن يستدير باتجاه الجماهير الصاخبة لتحيتها.
تنتهي المصارعة الدموية بسيفٍ طويلٍ حادٍ يغرزه الماتادور في قلب الثور
وهكذا يخر الثور المسكين صريعًا بعد معركةٍ من طرفٍ واحد، تخللتها عمليات تعذيبٍ للحيوان جرت تحت أنظار آلاف المتابعين، الذين ينهالون تصفيقًا للماتادور المغامر الذي عرض حياته للخطر في سبيل إمتاعهم، ولو أن نسبة المغامرة حاليًا تقل بكثير عنها قبل عدة عقود، حيث لم تكن مراحل إضعاف الثور بالطعنات موجودةً بهذا الشكل، كما لم تكن إجراءات السلامة المتمثلة باللباس الواقي، والمصارعين المساعدين المتأهبين لدخول الحلبة في أي لحظةٍ يشعرون فيها بالخطر على حياة الماتادور.
لقي المصارع الإسباني فيكتور باريو حتفه في يوليو الماضي نتيجة ضربةٍ قاتلةٍ من قرن أحد الثيران
ورغم كل ذلك فقد تنتهي المواجهة بمأساة، كما حصل مع المصارع الإسباني فيكتور باريو، في حلبة مدينة تيروال الإسبانية يوم 9 من يوليو لعام 2016، حيث لقي الشاب ذو الـ29 ربيعًا حتفه، عندما فشل في منع أحد الثيران الجريحة من توجيه ضربةٍ قاتلةٍ بقرنه نحو صدره، ليصبح أول ضحايا تلك الرياضة الخطيرة من المصارعين في القرن الـ21.
لحظة غرز الثور قرنه في صدر المصارع الراحل فيكتور باريو
وقد نعتقد أن إزهاق روحٍ بشريةٍ سببٌ كافٍ لإعادة النظر في أهلية أي الرياضة، فماذا لو عرفنا بأن 134 شخصًا قد فقدوا حياتهم بسبب مصارعة الثيران!
يتجاوز عدد الحلبات في إسبانيا حاليًا 400 حلبة، سعة كل منها بين 15 و20 ألف مشاهد
هذا ما أفصحت عنه صحيفة البايس الإسبانية العام الماضي، موضحةً أن عدد المصارعين الذين فقدوا حياتهم خلال القرن الماضي بلغ 33، فيما تجاوز عدد الضحايا من الناس في الشوارع الـ100 شخص، دون أن يردع ذلك الجماهير هناك عن عشقها الغريب، الذي تزايد بدلًا من أن يتناقص، ليتجاوز عدد الحلبات المعتمدة في إسبانيا 400 حلبة، سعة كل منها بين 15 و20 ألف مشاهد، محققًةً أرباحًا خياليةً سواءً على المستوى الرسمي للحكومة الإسبانية، أو على المستوى الخاص للمستفيدين من تلك الحفلات، من متعهدي ومربي ثيران وقنوات بثٍ تليفزيونيٍ وأصحاب إعلاناتٍ وفعالياتٍ تجارية، فضلًا عن المصارعين أنفسهم، والذين أضحوا نارًا على علمٍ في بلادهم.
مشهدٌ من مظاهرة في مدريد عام 2016 ضد رياضة مصارعة الثيران
ولا يعني ذلك أن الجميع موافقٌ على تلك الصراعات الدموية وسعيدٌ بها، فإذا كان ارتباطها بنواحٍ تراثيةٍ قد حال دون حظرها في إسبانيا، فإن الأمر ليس كذلك في بلدانٍ أخرى، كالبرازيل والأرجنتين والأورغواي وكوبا وموزمبيق التي قامت حكوماتها بحظر تلك الرياضة تمامًا منذ وقتٍ طويل، كما نجحت جهود المناهضين لتلك الرياضة بالتعاون مع جمعيات حقوق الحيوان، باستصدار قراراتٍ حدت من انتشارها وعنفها في بلدانٍ أخرى كفرنسا والمكسيك والولايات المتحدة.
نجحت جهود المناهضين لمصارعة الثيران بالتعاون مع جمعيات حقوق الحيوان، بالحد من انتشارها وحظرها في عددٍ من البلدان
وحتى في إسبانيا مرتع مصارعة الثيران الأول والأبرز، يبدو الجمهور منقسمًا بين مؤيدٍ يرى فيها تراثًا أصيلًا يجب حفظه، وتجارةً رائجةً يجب الاستفادة منها، ومعارضٍ يرى فيها مظهرًا متخلفًا لا يليق ببلدٍ أوروبي يعيش في القرن الـ21، وعادةً همجيةٍ أكل عليها الزمان وشرب.
يرى مؤيدو مصارعة الثيران فيها تراثًا أصيلًا وتجارةً رائجة، فيما يرى فيها معارضوها مظهرًا متخلفًا وعادةً همجية
وبين هذا وذاك، تستمر مصارعة الثيران حيةً في إسبانيا، رغم المظاهرات العديدة التي عمت شوارع معظم المدن الإسبانية الكبرى، تنديدًا بقرار المحكمة الدستورية الصادر في أكتوبر من عام 2016، والذي رفع كل القيود عن مصارعة الثيران في كامل مدن البلاد، ملغيًا قراراتٍ سابقةٍ بحظر ممارستها في إقليمي كاتالونيا وجزر الكناري، وفاسحًا المجال أمام مزيدٍ من الرواج لتلك الرياضة الدموية.