اعلم يارعاك الله! أن النحو العربي ليس باللوغاريتمات صعبة الفهم، ولا بِقِمَةِ إيفرست التي يجد الكثيرون المشقةِ في تَسَلُّقِها، فالنحو العربي فنٌ من فنون العربية الذي لا يستقيم اللسانُ دونها، ويساعدك على تفهُّمِ المباني وإدراك المعاني واستنباط الحقائق والوصول لدقائق المسائل والأحوال.
هُجْرَانَ العربيةِ هو السبيل الأول للأخطاء النحوية الشائع
وحين بلغ اللسان درجةً من الركاكةِ والضعف، جَنَحَ به خيالُه إلى التوهُّمِ بأن القدرة على الحديث بلسانٍ عربيٍ لا لحن فيه إنما يعادل وجودَ الغولِ والعنقاءَ والخلِ الوفي! لكن التجرُّدَ والإنصاف يقتضي التأكيد على أن هُجْرَانَ العربيةِ هو السبيل الأول للأخطاء النحوية الشائعة، وإمكانية تعديل هذه الأخطاء والتخلص منها أمرٌ واردٌ بشرط أن ينضو المرء عنه رداء الكسل، وأن يستل سيف الهمة، ليشق طريقه نحو القمة، ويصبح من أنصار النحو ويمتلك ذائقةً لغوية فريدة.
قد يبدو ذلك حلمًا ورديًا بعيد المنال، لكن اسمح لي أن أسوق لك مثالًا تسترشد به في هذا المساق، إذا نظرت إلى هذا الغلام الجميل الهيئة والذي يعاني من ثِقلٍ في لسانِهِ، وقد أقبلَ من بلادِ فارس إلى البصرةِ ليطلب علم الحديث، إنه عثمان بن قنبر، وقد أطلقت أمه عليه لقب سيبويه ومعناه رائحة التفاح لحبها له فغلب عليه فأصبح اسمه ولقبه بين الناس، وقد جلس في حلقة حماد بن سلمة.
وذات يومٍ سأل الصبي أستاذه: هل حدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجلٍ رَعُفَ في الصلاة؟ فقال حمادٌ: لحنتَ يا سيبويه، إنما هو رَعَفَ، فانصرف سيبويه إلى كعبة علومِ العربية الأمين، الخليل بن أحمدٍ الفراهيدي، أستاذ مدرستي البصرة والكوفة في اللغة، وقَصَ سيبويه على الخليل الخبر، قال الخليل: صدقَ حماد، ومثلُ حمادٍ يقول هذا، ورَعُفَ لغة ضعيفة.
عاد سيبويه لحلقةِ حماد لينهلَ من علم الحديث، وبينما يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس من أصحابي من أحدٍ إلا لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء” فظن سيبويه أن أستاذه قد لحن، فرد سيبويه على أستاذه قائلًا: ليس أبو الدرداء، لم يفطن سيبويه للأمر، فقال الأستاذ: لحنتَ يا سيبويه! هذا ليس حيث ذهبت، إنما ليس ههنا استثناء، فقال سيبويه كلمته الخالدة: سأطلُبُ عِلمًا لا يُلحِنُني فيه أحد، ربما كانت كلمةً خرجت منه كرد فعلٍ انفعالي، ولكن إذا تمعنت في الأمر، لرأيت أن سيبويه قد استمسك بهذا المبدأ في مستقبلِ حياتِه.
السبب الأول لبلوغ سيبويه سنام علم اللغة والنحو العربي كان الخطأ في اللغة بين يدي أستاذه
لَزِمَ سيبويه مجلِسَ الخليل، حتى قال ابن النطاح: كنت عند الخليل، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبًا بزائِرٍ لا يُمل، قد يكون طلب سيبويه للحديث لم يكن بنفس درجةِ حُبِ وشغفِ عروة بن الزبير لطلب الحديث إذ قال: أتمنى أن يحمل الناس عني حديث رسول الله، فأصبحَ من أكبر المحدثين، ولكن هنا وقفة مهمة تتلخص في أن عروة بن الزبير لم يقف عند حد الأمنية في طلب الحديث، كما أن سيبويه لم يقف عند حد الأمنية في طلب علمٍ لا يلحنه فيه أحد، حتى إن أبا عمرو المخزومي وكان كثير المجالسة للخليل بن أحمد قال: ما سمعت الخليل يقول لأحدٍ مرحبًا بزائِرٍ لا يُمل إلا سيبويه، بعد ذلك أصبح سيبويه إمام أهل البصرة في اللغة وهو ابن الثلاثين حولاً.
السبب الأول لبلوغ سيبويه سنام علم اللغة والنحو العربي كان الخطأ في اللغة بين يدي أستاذه، ويقول النحاةُ: أقبحُ اللحنِ لحنٌ بإعراب، وهذا ما دفع سيبويه للاجتهاد في التخلص من هذه المعرة، واسألك بحبٍ وتجرد: كم مرة لحنت وأنت تقرأ؟ وما ردةُ فِعلِك الأولى بعد عِلمِك بأنكَ أخطأت؟ فإن كان الأمر لم يستنفر هِمتَك، فأدعوكَ للاهتمام باللغة قدر استطاعتك لأن ذلك سيكشِف لك عن مواطن قوتِك اللغوية التي تغافلت عنها طواعيةً، وسيبويه مثالٌ حيٌ على ما نؤصِل له الآن.
قد يدخل في إطار السبب الأول لبلوغ سيبويه المكانة المتفردة في تاريخ الضاد خوفه من الفشل، وأنت تعلم أن النجاح له أسباب متباينة منها الخوف من الفشل. فقام سيبويه بشجاعة بالتصدي لموطن الضعف الذي نبهه له أستاذه مرتين، فلم يتذرع بأنه ليس عربي المنشأ واللسان، ولم يتعلل بأنه يطلبُ الحديث وليس يتخصص في دراسة النحو، بل كان ألمعيًا في معالجة موطن الضعف الذي بدا عليه، ماذا عنك أنت؟ وربما تلحنُ ليلَ نهار دون أن يحرِّك ذلك فيك ساكنًا! بإمكانك تدارك الأمر، وضع نصب عينيك أنه إذا أدرك المرء ما فاته من العلا، فإلى الحزمِ يُعزى لا إلى الجهلِ يُنسَبُ.
السبب الثاني لنجاح سيبويه يمكن إجماله في الإصرار على معالجة موطن الضعف والقصور، لك أن تبرع في اللغات التي تحِبُ دراستها والعلوم التي تتخصص فيها، لا أُنكِرُ عليك ذلك بل أشدُ على يديك، وأفخرُ بنجاحاتِك فهي شهادةٌ لمجتمعنا وأمتنا العربية بأن أبناءها قادرون على خوض شتى المجالات الحياتية بقوةٍ وألمعيةٍ، وأن ديننا لا يحارب العلم والتكنولوجيا بل هو دين العلم، وفي التنزيل العزيز: “بل جئناهم بكتابٍ فصلناه على علمٍ هدى ورحمةً لقومٍ يوقنون”، لكن ما قد يندى له الجبين أن ترى الرجل يتحدث بغير لغته بطلاقة، فإن اقتضى الأمر الحديث إلى بني جلدته تراه وكأنما أُغشى عليه من الموت، فلا الكلماتُ تسعِفُه ولا علمُه يصل لأهله لينتفعوا به.
السبب الثالث لنجاح سيبويه هو مجالسة العلماء وأهل التخصص، فالطالب النجيب يطلب العلم من أهل العلم وليس من المتشدقين والمتقعرين، ويتوقف نجاح الطالب إلى حدٍ ما على انتقاء المعلم الذي يساعده على التحصيل والتقدم في طلب العلم بحبٍ وإخلاص، لذلك وجد سيبويه في رحاب الخليل ما جعله ينكب على مواصلة الطلب، فمرحبًا بزائِرٍ لا يُمل تحية تجبرُ الطالب على حبِ معلمه وعدم الانقطاع عنه، ومواصلة الطريق على مشاقِهِ وصعوبته.
وقد تسأل صديقي العزيز: كيف السبيل إلى دراسة النحو والتمكن منه؟
يمكنك دخول النحو من بابه الكبير بتخصيص عشر دقائق يوميًا لدراسة النحو، فإن وجدتَ صعوبة في ذلك فابدأ بخمس دقائق
وإليك الجواب الذي يشفي صدرك ويسقي بذرة أملك في بلوغ درجة الإتقان في علم النحو، يمكنك دخول النحو من بابه الكبير بتخصيص عشر دقائق يوميًا لدراسة النحو، فإن وجدتَ صعوبة في ذلك فابدأ بخمس دقائق ثم مع الأيام وبقدر تمكنك مما فهمته سيكون إقبالك على الدراسة، ابدأ بمطالعة بعض الكتب السهلة أو شروحات كتب النحو الميسرة وما أكثرها، فإن أتقنتها فلك أن تطالع شروحات أخرى أكثر توسعًا وإفادة كشرح ألفية الإمام ابن مالك لابن عقيل، وكتاب قطر الندى وبل الصدى لابن هشامٍ الأنصاري، وله كذلك كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وكذلك الأشباه والنظائر في النحو للإمام السيوطي وغيرها الكثير.
لا تلتهم الوجبات الكبيرة حتى لا تشعر بالتخمة وتزهد الطلب، التمس النحو وغيره من العلوم شيئًا فشيئًا، فهذا أدعى لثبات المعلومة في ذهنك وأقرب إلى حسن التذكر، وعليك بالمران والتدريب على ذلك قدر استطاعتك لتصل إلى ما تصبو إليه.