أكثر من 35 ساعة عاشها قطاع غزة دون شبكات الاتصال والإنترنت، دون أن يعرف العالم الخارجي بما يرتكبه الاحتلال من عدوانٍ وقصف، وتُرك الأمر لبضع قنوات تعتمد على الموجات لا الشبكات في نقل الصورة، ودون أن يحصل سكان القطاع على الفرصة لطلب النجدة للإنقاذ في حال تعرضوا لقصف، أو الوصول إلى ما يُطمئن قلوبهم بسلامة أقربائهم.
قطع الاتصال بغزة، كان الخطوة الأخيرة في حصار رقمي يشدده الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، منذ تحريره عام 2005 والانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب منه، حيث لجأ الاحتلال إلى تقويض إمكانية تطوير الشبكة الاتصالية في قطاع غزة، ومعرفة مصير كل سنتيمتر من كابلات الاتصال والمعدات التقنية.
واشتد الحصار الرقمي على غزة والضفة، في ظل واقع سيطرة الاحتلال على الأراضي وحركة النقل والمعابر والحدود، ما يعني عدم التمكن من إقامة الشبكة خارج تبعيّة وسيطرة الاحتلال إن كان في بنيتها التحتية أو السيطرة على جوهر عملية الاتصالات ونقل المعلومات من خلال هذه الشبكة، وحتى المعبر الوحيد في فلسطين الذي لا يملك الاحتلال سلطة عليه وهو معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، أخذت مصر على عاتقها جانب تنفيذ الحصار.
على النقيض: اتفاقية من ورق
منذ عام 1967، تفرض سلطات الاحتلال الإسرائيلي سيطرتها على البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الفلسطينية، ورغم أن “إسرائيل” نقلت بعض السيطرة للسلطة الفلسطينية في الضفة المحتلة باستثناء القدس وقطاع غزة، فإنها احتفظت بالسيطرة على الجوانب الحاسمة لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لتحافظ على تبعية الفلسطينيين التقنية والاتصالية لها، دون السماح لهم بتطوير شبكة مستقلة وبالتالي التمتع بتدفق أكبر للمعلومات.
وعكست المرحلة الثانية من اتفاقية أوسلو “الاتفاق الانتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة – أوسلو 2″، المُوقّع في سبتمبر/أيلول 1995 طبيعة عمل المرافق والشؤون المدنية وانتشار قطاع الاتصالات والإنترنت في فلسطين، ومنح الفلسطينيين حق امتلاك البنية التحتية لنظام اتصالات وإنترنت “مستقل”، وكما باقي بنود الحكم الذاتي في اتفاقية أوسلو، سرعان ما قيّد الاحتلال الاتصالات على أرض الواقع.
وجاءت التقييدات التي وُضعت على بنية الاتصالات والإنترنت الفلسطينية، بحيث اشترطت أن إمكانية تطوير شبكة الاتصالات الفلسطينية مربوط بموافقة الاحتلال على المعدات المدخلة، بعد أن يفحصها ويتأكد من وجهتها، فجاء في نص اتفاقية أوسلو 2: “سوف يُسمح للجانب الفلسطيني باستيراد واستخدام أي من أنواع الهواتف وأجهزة الفاكس وأجهزة الرد ووسائل نقل المعلومات.. وتقر “إسرائيل” وتدرك أنها بهدف بناء شبكة منفصلة، فإن الجانب الفلسطيني يملك الحق في تبنّي معاييره الخاصة واستيراد الأجهزة التي تلبّي هذه المعايير، وسوف تستخدم الأجهزة فقط عند تشغيل الشبكة الفلسطينية المستقلة“.
الحصار على البنية الرقمية
حتى وقتٍ قريب، كانت شركة الاتصالات الفلسطينية، وهي شركة الاتصالات الوحيدة الاحتكارية في الضفة وغزة، تحصل على الإنترنت من خلال شركة “بيزك” الإسرائيلية، حيث تحصل الأخيرة على خدمات الإنترنت من كابلات بحرية لا سلطة للفلسطينيين عليها أو على المياه الإقليمية في قطاع غزة، فكان الاحتلال فعليًا المزود الوحيد والحقيقي للإنترنت للفلسطينيين.
وفي عام 2012، وقعت شركة الاتصالات الفلسطينية وأخرى تركية على إمداد فلسطين بالإنترنت من خلال كابلات بحرية فلسطينية تركية، يطلق عليها اسم اميرز، لكن العائق ذاته في عدم وجود سلطة فلسطينية على المنفذ البحري والمياه الإقليمية، دفع السلطة الفلسطينية إلى إمداد هذه الكابلات إلى الضفة من خلال الداخل المحتل في حيفا وعكا، أي مرورها بإشراف إسرائيلي، ومن ثم إعادتها من شركة الاتصالات في الضفة إلى قطاع غزة، مع الإشارة إلى رفض مصر أن تكون هي نقطة العبور.
وبينما وصل العالم إلى تقنيات الجيل الخامس من خدمات الإنترنت، ما زال الفلسطينيون في قطاع غزة يعتمدون على إنترنت الجيل الثاني، حيث يمنع الاحتلال إدخال الأجهزة اللازمة لبناء شبكات الجيل الثالث في غزة، بينما سمح للفلسطينيين في الضفة المحتلة عام 2018، باستخدام تقنية الجيل الثالث على أجهزة المحمول.
وتواصل سلطات الاحتلال فرض القيود على دخول الكابلات والمعدات والأجهزة المستخدمة في مجال الاتصالات وتحظر دخول الأجهزة المتطورة، وفيما منعت سلطات الاحتلال دخول أي مواد خاصة فقد كانت تسمح بدخول بعض المعدات وفق إجراءات وتنسيق خاص، وعادة هذا يستغرق ما بين 6 أشهر إلى عامين، ما يحرم الشركات من مواكبة التطور واقتناء المعدات الحديثة.
وعند السماح بإدخال المعدات، بعد إجراءات طويلة، يكلّف الاحتلال طاقمًا أمميًا للإشراف على تركيب المعدات، واستخدامها جميعًا وفق ما تم التصريح عنه مسبقًا للاحتلال الإسرائيلي، وذلك كسياسية احتلالية لضمان عدم وصول هذه المعدات إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
ويتدخل الاحتلال والاستخبارات والجيش في الرقابة على الشبكة الاتصالية في قطاع غزة وحتى في غلاف غزة، فعلى سبيل المثال، كان هناك أعمال تمديد كابلات إنترنت عالي السرعة على حدود قطاع غزة عام 2012، والتي تم تنسيق عملية تمديدها مع جيش الاحتلال حيث شارك جنود من كتيبة المشاة في هذه العملية، وفي حينها علق الرائد آدم أفيدان من إدارة التنسيق والارتباط الإسرائيلية: “تم معاملة العملية برمتها وتشغيلها كعملية عسكرية”.
لا تطوير، فقط تدمير
إلى جانب الحصار الرقمي، يتعمد الاحتلال تدمير الشبكة الاتصالية خلال عدوانه المتكرر على قطاع غزة، كما حدث خلال العدوان الحاليّ على القطاع، وتسبب في إتلاف العديد من أجزاء البنية التحتية ومقاسم توزيع خدمات الاتصالات والإنترنت في غزة، ما قلّل من كفاءة البنية التحتية المغذية لخدمات الإنترنت والاتصالات داخل القطاع، بالتوازي مع إعاقة عملية إصلاحها وإدخال معدات بديلة.
وفي عدوان 2008 و2014، وقبيل الدخول البري لجيش الاحتلال إلى قطاع غزة، قصفت طائرات الاحتلال مقاسم الاتصالات وتوزيع الإنترنت في هذه المناطق الحدودية وعطلت أي بنية تحتية ممكن أن تتيح عملها، بالإضافة إلى عمليات التشويش والتعطيل التي تتسبب بها الطائرات دون طيار فوق القطاع بشكل شبه دائم.
وفي أغسطس/آب 2011 قطعت جرافات إسرائيلية مجموعة أسلاك على عمق 8 أمتار إلى 20 مترًا تحت الأرض قرب منطقة “ناحل عوز”، تعمل على تزويد أبراج البث في قطاع غزة، ما اضطر شركة الاتصالات إلى تدبير تنسيق أمني لإصلاح هذه الأعطال، والتي تعامل معها الاحتلال بشكل أمني بخلاف نفيه مسؤوليته عن قطعها.
أما في مايو/أيار 2021، خلال معركة “سيف القدس”، فقد استهدف الاحتلال شبكات الاتصالات وكابلاتها الرئيسية وأبراج البث، وتعرض قطاع الاتصالات والإنترنت لخسائر فادحة نتيجة الأضرار المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن تدمير الطرق والشوارع وتدمير الأعمدة والأسلاك بمختلف أنواعها وأحجامها، وقطع الاتصال بين سكان غزة.
في الوقت ذاته، يمارس الاحتلال حصارًا رقميًا من نوعٍ آخر على الفلسطينيين وسكان قطاع غزة، من خلال تقييد قدرتهم على الاتصال مع العالم الخارجي لفضح جرائمه، أو حتى الاتصال الداخلي بين سكان القطاع، إذ يتعاون الاحتلال ومنصات التواصل على ملاحقة الحسابات الفلسطينية، وحجب المحتوى وحذف المؤسسات الإعلامية التي تغطي أحداث القطاع، ورصد مركز “صدى سوشال” للحقوق الرقمية، أكثر من 150 رقمًا عبر تطبيق “واتساب” لمستخدمين في قطاع غزة، حظرهم التطبيق ومنعهم من التواصل والحصول على المعلومات في ظل العدوان.