لا يزال النظام السوري مستمر في استراتجيته العسكرية للسيطرة على حزام دمشق وتأمين العاصمة، وذلك بالسيطرة على الغوطة الشرقية وإخراجها من نقاط الصراع. وغير بعيد عن دمشق وتحديدًا من جهة حيي القابون وبرزة يحاول النظام السوري فصلهما عن بعضهما البعص ومحاولة الاستفراد بكل منهما على حدى، إلى ذلك يحاول النظام أيضًا تهجير أهالي حيي المزة وكفرسوسة بحجج وذرائع يراها النظام قانونية ويراها الأهالي أنها تفريغ ممنهج للمنطقة كما حصل في مناطق أخرى.
الغوطة الشرقية تئن تحت الحصار
لا جديد في الثورة السورية أن الغوطة الشرقية ترزخ تحت الحصار، فالحصار هناك لا يزال قائمًا منذ أربع سنوات، يطبق على أكثر من 350 ألف نسمة ممن تبقى فيها يعيشون في مدن وبلدات الغوطة، ويوجد في الغوطة الشرقية 60 مدينة وبلدة عدد سكان يتجاوز مليوني نسمة حسب إحصائية العام 2010، وتقسم إلى أربعة قطاعات رئيسية معظمها يقع تحت الحصار وأخرى هادنت مع النظام، هي القطاع الشمالي، دوما: أهم مدنه دوما و عدرا والضمير والريحان، والقطاع الأوسط، أهم مدنه حرستا وزملكا وعربين وحمورية، والقطاع الشرقي أو المرج أهم بلداته العتيبة والعبادة وحرّان العواميد والأحمدية، والقطاع الجنوبي، أهم بلداته المليحة وشبعا ودير العصافير وزبدين.
أحكم النظام السوري الحصار على الغوطة الشرقية بإغلاق كافة المعابر والطرق التي تصل الغوطة بما حولها من مناطق، وللتغلب على الحصار عمد ثوار الغوطة إلى حفر الأنفاق لربط الغوطة بالمناطق التي حولها لإدخال المواد الغذائية الناقصة.
في حال نجاح النظام السوري بإرضاخ الغوطة الشرقية تكون الثورة السورية قد دخلت منعطفًا خطيرًا آخر نحو تثبيت الأسد ونظامه في سوريا
ولكن منذ ما يقرب من 40 يوم والنظام السوري يطبق الحصار أكثر على الغوطة وقد تمكن من تدمير العديد من الأنفاق التي تخدم الغوطة وكان آخرها ما أعلنته الفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري من السيطرة على “نفق الرحمة” الواصل بين الغوطة الشرقية وحي القابون بالقرب من دمشق، ووسع النظام سيطرته على المناطق القريبة من الغوطة بالإضافة إلى سيطرته على مناطق واسعة من منطقة المرج التي تعتبر سلة الغوطة بالمواد الغذائية.
ضاعف هذا من أسعار المواد الغذائية بشكل كبير وتحمل المواطن المحاصر هذه الكلفة لوحده، حيث زادت أسعار بعض المواد 20 ضعفًا عن سعرها الطبيعي، إذ وصل سعر ربطة الخبز إلى دولارين وكيلوغرام السكر 8 دولارات وكيلوغرام الأرز 4 دولارات حسب ما أكده ناشطون لمواقع إعلامية، ويتراوح سعر صرف الليرة أمام الدولار عند 530 ليرة.
والمنافذ التي كانت المعارضة تتغذى منها وتخفف من وطأة الحصار هما منفذين الأول هو معبر مخيم الوافدين، والذي كان النظام يسمح بدخول المواد الغذائية عبره إلى الغوطة بأسعار مرتفعة، كما كانت المواد تدخل أيضًا عن طريق تاجر محدد مقابل أتاوات تدفع لقوات النظام، ولكن في 20 آذار/ مارس الماضي، أغلقت قوات النظام معبر مخيم الوافدين وتم منع التاجر الذي يطلق عليه اسم “المنفوش” من إدخال أي سلع إلى الغوطة، بعد إطلاقها حملة عسكرية في 18 شباط/ فبراير الماضي على حيي القابون وبرزة وهما المنفذ الثاني للغوطة، وبإغلاق هذين المنفذين لم يبقى للغوطة أي منفس لها.
تبلغ المساحة المزروعة من أراضي الغوطة حوالي 110 كليومتر مربع من المساحة الإجمالية للغوطة الواقعة تحت سيطرة المعارضة والبالغة 185 كيلومتر مربع، إلا أن هذه المساحة تقلصت بشكل كبير خلال العامين الماضيين بسبب سياسة “القضم” التي اتبعها النظام السوري إزاء الأراضي الزارعية بغرض حرمان الأهالي من الاستفادة منها والضغط عليهم بشكل أكبر للرضوخ لمطالبه.
مراقبون حذروا من كارثة إنسانية وأمور مشابهة للتي حصلت في حلب ومضايا والزبداني ومخيم اليرموك ومناطق أخرى في سوريا كسياسة ممنهجة يقوم بها النظام لتركيع الحاضنة الشعبية وإجبار الفصائل العسكرية للموافقة على ما وافق عليه غيرهم بالتهجير إلى شمال سوريا في سياسة صارت معروفة تمامًا للنظام يقوم بها لتفريغ المنطقة وتغيير معالم المكان برعاية إيرانية وروسية، وقد بدأت حملات مناشدة قامت بها جهات مختلفة لفتح ممرات إنسانية لإدخال مواد عذائية وطبية إلى الغوطة.
حصار الغوطة الشرقية مستمر منذ أربع سنوات ومخاوف من وفوق كارثة إنسانية
وليس بعيدًا عن دمشق يحاول النظام السوري هذه المرة تهجير أهالي المزة وكفر سوسة، بعد طلب النظام السوري للسكان هناك بإخلاء منازلهم بحجة التنظيم عن طريق القانون 66 والذي يصفه النظام بأنه مشروع تنظيمي للعاصمة للقضاء على العشوائيات في حين اعتبره سكان المنطقة بأن الهدف من هذا المشروع هو التهجير، ويرى مراقبون من دمشق النظام استبعد الأحياء التي يسكنها ضباط تابعين له في المزة كما في حي “المزة 86″. وبث ناشطون على مواقع التواصل وسمًا خاصًا لكشف أهداف النظام وما يحيك له في العاصمة ” التجير الصامت بدمشق جريمة حرب”.
يُذكر أن المرسوم 66 الصادر في العام 2012 يتضمن استحداث منطقتين تنظيميتين حول محيط دمشق لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي بحسب الدراسات التنظيمية المخطط لها في محافظة دمشق. المنطقتان التنظيميتان هما تنظيم منطقة جنوب شرق المزة من المنطقتين العقاريتين مزة، كفرسوسة. والمنطقة الثانية؛ تنظيم جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية مزة كفرسوسة قنوات بساتين داريا قدم.
مخطط الإخلاء هذا ينذر بكارثة حقيقية ستحل بآلاف العائلات التي باتت تعرف مصيرها من تجارب المدن المهجرة الأخرى التي واجهت المصر نفسه، ولفت ناشطون أن هذا المشروع يهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للعاصمة ولحزام العاصمة، بينما يشير آخرون أن هذا المشروع هو انتقام للنظام ضد أهالي المزة الذين خرجوا في مظاهرات حاشدة في العام 2012 في تشييع قتلى سقطوا في اشتباكات مع النظام السوري.
مخاوف من ضربة كيميائية
انتشرت في الأيام الماضية أخبار تفيد أن النظام السوري يمهد لضربة كيميائية جديدة في الغوطة الشرقية، وقد حذر منها ناشطون إعلاميون في الداخل والخارج إلى جانب مجلس محافظة ريف دمشق، الذي وجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أونطونيو غوتيريس، أشار فيها إلى رسالة مندوب النظام لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري والتي ذكر فيها أن هناك من يحضر لاستخدام مواد كيميائية في الغوطة الشرقية.
وحذر مجلس المحافظة أن النظام السوري هو من يقوم بالضربة الكيميائية في سوريا، في إشارة إلى الهجوم الكيميائي الأخير في خان شيخون في إدلب والذي أودى بحياة أكثر من 100 شخص أغلبهم من النساء والأطفال. يُذكر أن الغوطة الشرقية عاشت أسوأ أيامها بعد المجزرة الكيميائية في العام 2013 والتي ذهب ضحيتها نحو 1466 شخص جلهم من النساء والأطفال.
إلى ذلك شنت فصائل المعارضة العاملة في الغوطة هجومًا واسعًا على قوات النظام السوري حسبما أعلن جيش الإسلام على حسابه الرسمي في تويتر، ذاكرًا أن الهدف من العملية العسكرية هو استعادة السيطرة على جميع المواقع التي تقدم إليها النظام السوري في الفترة الأخيرة.
النظام السوري يمهد لضربة كيميائية جديدة في الغوطة الشرقية
ولكن هناك أمر آخر يعكر صفو الغوطة الشرقية وهو الاقتتال بين فصائلها والذي دام لفترة طويلة بين أطراف عديدة، وقد عادت الاشتباكات بين الفصائل في الغوطة من جديد وتحديدًا بين جيش الإسلام وهيئة تحرير الشام وسط اتهامات كل طرف يكيلها للآخر، وتزامنًا مع هذا الاقتتال تمكنت قوات النظام السوري اليوم الجمعة من تحقيق تقدم في حي القابون في ضواحي دمشق.
تمر الغوطة الشرقية بظروف حالكة في هذه الأيام على المستوى العسكري والإنساني، فبعد سنوات كثيرة من الحصار لا يزال الوضع يزداد ترديًا والطوق يشتد عليها، مع التذكير أن الغوطة تحتاج شهريًا لحوالي ما يقرب من 100 ألف سلة غذائية، وحوالي 3 آلاف طنِ من مادة الطحين، كما تحتاج الغوطة إلى حوالي 160 ألف لتر من المازوت والبنزين يوميًا، أما عسكريًا فقد أرهقتها الخلافات البينية بين الفصائل نفسها التي تؤخر أي تقدم على المسار العسكري وتعطي أفضلية لقوات النظام لاختراق ثغرات واستعادة مناطق من المعارضة.
وفي ظل سكوت دول العالم عن سياسة التهجير والتجويع التي يمارسها النظام السوري جهارًا نهارًا، ومساعدة أنظمة إقليمية ودولية للنظام كروسيا والصين وإيران فإن النظام ماض بثبات نحو تطبيق استراتيجيته للتغيير الديمغرافي في الغوطة الشرقية، ومناطق أخرى، وفي حال نجاح النظام السوري بإرضاخ الغوطة الشرقية تكون الثورة السورية قد دخلت منعطفًا خطيرًا آخر نحو تثبيت الأسد ونظامه في سوريا وإجبار المعارضة السورية للرضوخ للأمر الواقع، على الرغم من كل التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية والتنديد الأوروبي التي لا يمكن تشبيهها إلا بالمثل القائل “أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا”.