تواصل المقاومة الفلسطينية عملياتها بشكل مكثف مع اليوم الـ 24 من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تلك الحرب التي أودت حتى اليوم بحياة أكثر من 8 ألاف شهيدًا، بينهم 3324 طفلاً و2062 امرأة و460 مسناً، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
وكشفت تلك المعركة تحديدًا عن قدرة المقاومة على تطوير تكتيكاتها القتالية بما يتناسب مع المستجدات والمتغيرات التي تفرضها المواجهة مع قوات الاحتلال المدعومة بشكل كبير وغير مسبوق، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، من المعسكر الغربي وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وأعلنت كتائب عز الدين القسام، مساء أمس الأحد 29/10/2023 عن عملية إنزال خلف خطوط تمركز جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب معبر بيت حانون (إيريز)، حيث وقعت اشتباكات مكثفة بين الطرفين، لم يسفر بعد عن نتائجها في ضوء تباين التصريحات وشح المعلومات والتكتم الممارس من قبل جيش الاحتلال.
وتعد تلك الخطوة تطورًا كبيرًا في إدارة المقاومة للمعركة التي نجحت حتى الآن في تغيير معادلتها بشكل كبير مقارنة بما كان عليه في السابق، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات حول تأثير هذا التطور في الاستراتيجيات القتالية في مسار العملية البرية التي أعلنت عنها قوات الاحتلال داخل قطاع غزة منذ أيام ولم تستطع تنفيذها بالشكل المطلوب حتى اليوم.
إنزال في العمق.. تطور تكتيكي
للمرة الثانية خلال يوم واحد فقط، تنجح المقاومة في إنزال قواتها خلف خطوط تمركز جيش الاحتلال قرب معبر بيت حانون، حيث قالت إنها قصفت الموقع بقذاف الهاون والصواريخ، فيما قال مراسل “الجزيرة” إن فصائل المقاومة تخطط للاشتباك مع قوات الاحتلال عند المنطقة صفر بالسياج الأمني وذلك في المناطق التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية وتجيش عتادها من أجل العمية البرية داخل غزة.
واستنادا إلى قاعدة “الهجوم خير وسيلة للدفاع” تحاول المقاومة تقديم مناطق الاشتباك مع قوات الاحتلال ونقل المعركة إلى داخل أراضيه التي يحتلها قبل التوغل داخل القطاع، وهو ما تؤكده كافة التقارير الإعلامية التي تشير إلى أنه كلما تقدمت قوات جيش الكيان بضعة أمتار داخل غزة قوبلت بهجوم مكثف من المقاومة، ما يجبرها على التقهقر للخلف مرة أخرى.
وخاض مقاتلو القسام الذين نجحوا في عملية الإنزال خلف خطوط المحتل اشتباكات ضارية من النقطة صفر وفق موقع المركز الفلسطيني للإعلام التابع لحماس، فيما أكدت قناة “الأقصى” أن المقاومة نجحت في استهداف عدد من الأليات والمدرعات العسكرية والإجهاز على بعض جنود الاحتلال بداخلها، وفي بيان للقسام قالت فيه إنها “دكت موقع إيريز الصهيوني بقذائف الهاون والصواريخ لقطع النجدات عن الآليات المشتعلة المستهدفة في محيط الموقع”.
التوغل تكرر مرة أخرى في بيت لاهيا، شمال القطاع، حيث تصدت المقاومة لقوات الاحتلال المتمركزة هناك، وقالت في بيان رسمي لها إن “مجاهديها اشتبكوا مع القوة الصهيونية المتوغلة واستهدفوا آليات العدو بقذائف (الياسين 105) الترادفية وقذائف الهاون”، ونفذوا عمليات قنص بعدما باغتوا القوات المتوغلة هناك بعد تسللهم خلف خطوطهم، هذا بجانب استهداف تجمع لأليات قوات الاحتلال في منطقة الأمريكية بطائرة الزواري الانتحارية.
ورغم عدم الإفصاح عن الخسائر الفعلية لتلك العمليات إلا أن الاحتلال أقر بإصابة ضابط بجروح خطيرة وجندي خلال الاشتباك مع مقاومين الليلة الماضية، فيما لم يذكر أي شيئ بشان خسائر القصف بالهاون واستهداف الآليات العسكرية التي كان بها العديد من الجنود الإسرائيليين.
استنزاف الاحتلال
بلغة الأرقام ووفق القواعد العسكرية فإن الفارق في الإمكانيات التسليحية والتجيشية بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال لا يمكن مقارنتها، فريق يمتلك جسرًا مفتوحًا من الدعم الغربي دون سقف أو حدود قصوى، بأحدث الأسلحة المتطورة، وأخر يعاني من تضييق الخناق والتشديد عليه، من الأشقاء والعدو في آن واحد.
ومن هنا فإن المواجهة المباشرة لن تكون متكافئة، وعليه تهدف تلك العمليات التي تقوم بها المقاومة خلف خطوط الاحتلال – رغم قلتها- إلى استنزاف قدراته وتعطيلها قدر الإمكان، وتشتيت تحركاته بين البقاء للتصدي لتلك العمليات والتوغل البري داخل القطاع.
ومما يزيد من استنزاف الاحتلال توسيع دوائر المواجهات، فالعمليات من داخل القطاع وخلف خطوطه بجانب المناوشات التي تقوم بها المقاومة في الجنوب اللبناني، سواء من القسام هناك أو حزب الله، وما يُمارس بين الفينة والأخرى من داخل الجولان، كلها تحركات تستهدف تشتيت الاحتلال، وهو الكابوس الذي يؤرقه خلال الأيام الماضية وبسببه تطلق الولايات المتحدة تحذيراتها المتكررة لإيران وحزب الله بعدم الانخراط في المواجهة.
بات من الواضح أن المقاومة كان تضع في اعتباراتها ردة الفعل تلك من قبل قوات الاحتلال، خاصة وأن الضربة كانت موجعة، وعليه كان الاستعداد في ضوء الإمكانيات المتاحة، وتدشين منظومة كاملة من الأنفاق المجهزة للتصدي للمحتل، وهي الأنفاق التي تشكل اليوم نقطة التحول في إبقاء المقاومة على خط المواجهة رغم القصف الإجرامي الشامل الذي دمر الحجر والشجر والبشر معًا
هذا بخلاف ثبات الشعب الفلسطيني وإصراره على التشبث بأرضه، ملقيًا ببيانات وتحذيرات جيش الاحتلال عرض الحائط، حتى لو كان الثمن روحه ودماءه، لكن إيمانه بالقضية مثل حجر زاوية مهم في إفشال مخططات جيش الاحتلال نحو غزو القطاع حتى الآن.
هل تؤثر في سير المعركة؟
في مثل تلك المعارك، طويلة النفس، يكون التقسيم إلى مراحل ومحطات هو الأنجح، والتعامل مع كل مرحلة على حدة هو الاستراتيجية الأكثر حضورًا في تاريخ المواجهات العسكرية من هذا النوع، وهو ما تحاول المقاومة الفلسطينية القيام به حتى الآن.
فالدفع بكل الأوراق مرة واحدة مغامرة قد تأت بنتائج عكسية، لذا كان تقسيم الحرب إلى معارك مستقلة، والتعامل مع كل معركة وفق تطوراتها وأبجدياتها، هو خيار حماس ورفقائها في الميدان، وهي الاستراتيجية التي تفاجأ بها المحتل بين الحين والأخر كلما توهم أن المقاومة على أعتاب رفع الراية البيضاء والاستسلام، فإذ به يرى تطورًا نوعيا في الأداء.
هذا التطور بجانب أنه يربك حسابات جيش الاحتلال عسكريًا فإنه بالموازاة يشكل حربًا نفسيًا على الشارع الإسرائيلي الغاضب بطبيعة الحال بسبب ما يراه فشلا للاستراتيجية التي تتبعها حكومة الاحتلال في إدارة المعركة، خاصة بعد الخسائر الفادحة في الأرواح وعدد الأسرى غير المسبوق الذي سقط بقبضة حماس.
ومن مخرجات هذا التطور الكبير في تكتيكات المقاومة ما صرّح به المتحدث باسم حماس، حازم قاسم، حين أشار إلى أن قوات الاحتلال تراجعت عن تمركزها في بعض مناطق الاشتباك بسبب تصدي المقاومة، لافتا أن لدى الحركة قدرة كبيرة على تنويع أدواتها وتغير استراتيجيتها من أجل التعامل مع كافة المتغيرات، وهو ما يربك حسابات الاحتلال خاصة إذا ما اتسع الحراك ليشمل أكبر قدر مكن من الجبهات بحيث لا يستفرد الاحتلال بقطاع غزة، على حد قوله.
وفق المؤشرات الراهنة بعد 24 يومًا على الحرب على غزة يمكن القول إن المقاومة نجحت حتى الآن في التعامل مع المعركة بأبجديات متغيرة ومتطورة، تعكس نضجها السياسي والعسكري، وذلك في حدود الإمكانيات المتاحة، لكن يبقى السؤال: إلى متى ستراهن الحركة على قدراتها المحدودة في ظل التحشيد غير المسبوق لقوات الاحتلال وحلفاءها الغربيين؟ وإلى أي مدى ستصمد المقاومة في ظل الخذلان العربي والإقليمي الفاضح؟