لم تمض ساعة على إلقاء الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة كلمة في مساء يوم الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023 يقول فيه للاحتلال: “أين أنتم ما زلنا ننتظركم للدخول بريًا؟”، بعد الترويج المكثف للاحتلال أنه بدأ بتوسعة عملياته البرية، حتى خرج رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بمؤتمر صحفي، أعاد التأكيد على أنه سيواصل عمليته في قطاع غزة لتحقيق هدفه في “القضاء على قدرات حماس”.
أكد خطاب نتنياهو نواياه وهدفه في تحويل الصراع بين قوات الاحتلال والمقاومة إلى حرب دينية شاملة، واستخدم فيه مدلولات دينية من التوراة والعقيدة التلمودية الإسرائيلية، وليست المرة الأولى التي يضمّن خطابه بالدلالات الدينية، لكنها المرة التي يدعم فيها رئيس وزراء للاحتلال، بهذا الوضوح، جرائمه ضد الفلسطينيين بدوافع دينية، بعدما كان الأمر متروكًا لحاخامات الاحتلال.
نبوءة إشعياء
أكد نتنياهو في خطابه أنه سيحقق نبوءة إشعياء من خلال الحرب التي يشنها على قطاع غزة، واصفًا الفلسطينيين بأنهم أبناء الظلام، والإسرائيليين أبناء النور، قائلًا: “سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمع بعد، خرابًا في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معًا وسننتصر”.
وتعتبر نبوءة إشعياء واحدة من أبرز النبوءات في الكتاب المقدس، تتألف من 66 إصحاحًا، ويعود تاريخها إلى القرون الأولى قبل الميلاد، وإشعياء – كما في التوراة – كان نبيًا يهوديًا بارزًا في المملكة الجنوبية ليهوذا، ويعتبر أن “شعب مملكة إسرائيل هو شعب الله المختار الذي دخل، منذ تحرره من مصر، في خدمة الله والعيش في ألفته وسيحقق هذا الشعب نصره بإعادة بناء مملكة إسرائيل”.
وتتحدث نبوءة إشعياء عن خراب يطال مصر وسنوات يجف فيها نهر النيل: “وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها. وأهيج مصريين على مصريين، فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه: مدينة مدينة، ومملكة مملكة. وتهراق روح مصر داخلها، وأفني مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين. وأغلق على المصريين في يد مولى قاس، فيتسلط عليهم ملك عزيز، يقول السيد رب الجنود. وتنشف المياه من البحر، ويجف النهر وييبس”، سفر إشعياء 19.
تذكر العماليق
أما الأسطورة الثانية التي تطرق لها بنيامين نتنياهو، ليبرر إبادته الجماعية في القطاع، فهي أسطورة عماليق التي تستمر قيادات الحركة الصهيونية في ترديدها لكيفية التعامل مع الفلسطينيين، وتذكر الأسطورة أن “قوم عماليق سكنوا شبه جزيرة سيناء وجزءًا من أرض كنعان (فلسطين اليوم)، فأكثروا حرب أنبياء بني إسرائيل حتى أمر “يهوه” النبي “موسى” باجتثاث ذكرهم من على الأرض، ومحاربتهم جيلًا بعد جيل، فأتى الأمر بعد ذلك إلى النبي “صموائيل” بإبادة قوم عماليق ودوابهم وكل ما نبض بالحياة في بلادهم”.
ويقول نتنياهو في خطابه: “اذكر ما فعله عماليق بك، يقول كتابنا المقدس” ويشير إلى نص “والآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلًا ورجلًا جميعًا، والمرأة والرضيع، والبقر والغنم، والجمل والحمار” (1 صماوئيل 15: 3).
ويصف جيرالد كرومر أستاذ علم الجريمة بجامعة “بار إيلان” العبرية، أن “عماليق” صاروا تمثيلًا لذروة الشر في التقاليد اليهودية، ولأجل هذا استخدم الحاخامات وغيرهم من العوام مصطلح “عماليق” للتعبير عن الشعوب التي تُهدد الوجود اليهودي، وكانت قد تأسست منظمة صهيونية باسم “مراقبة القاتل” للتحري عن أماكن المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة بهدف إبادتهم، ورفعت المنظمة شعار “تذكَّر عماليق”.
إضفاء الطابع الديني على الإبادة الجماعية للفلسطينين
يقول الكاتب والباحث في التاريخ القديم والتوراتي أحمد الدبش إن جوهر المشروع الصهيوني استيطاني اجتثاثي إحلالي، فالصهيونية لم تكن تتوخى القتل في استعمارها، بخلاف الكولونيالية الكلاسيكية، فقد ارتكبت الحركة الصهيونية أشكالًا من الإبادة الجماعية في فلسطين، استنادًا إلى الأيديولوجيا الدينية، الكتاب المقدس، لتكون مكونًا أساسيًا من مكوناته الأيديولوجية.
ويضيف الدبش في حديثه لـ”نون بوست” أن الحكومات الصهيونية المتعاقبة في حروبها ومواجهاتها الدائمة للعرب، الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، تستند إلى فلسفة ونظريات الإرهاب الديني المستقاة من التوراة، فثمة غايات دنيوية وسياسية غلّفها كتبة التوراة وكبار الحاخامات، وخرجت ونشرت في أمهات الكتب اليهودية، بعقائد أضفوا عليها صفة الدين، وأصبح أتباعها المؤمنون بها يمارسون الإبادة الجماعية والقتل على أنها طاعة للرب، عبر حقب تاريخية مختلفة.
محسن صالح: حتى ونحن نتعامل مع العلمانيين مثل نتنياهو، فلا بد لنا من الإشارة إلى تشكيلة حكومته واستجابة نتنياهو في خطابه لهذه التشكيلة، التي تضم في جزء كبير منها أتباع الصهيونية الدينية
على سبيل المثال، يستعرض شابيرا، حاخام صهيوني، ما اعتبره عشرات الأدلة من التوراة والتلمود وإرث الحاخامات القدماء، التي تسمح بقتل الأغيار في كتابه “شريعة الملك” أو “تورات هميلخ” بالعبرية، حيث يقول: “اقتلوا كل من يشكل خطرًا على إسرائيل، رجلًا كان أم طفلًا أم امرأة”، ويرى شابيرا أنه يتوجب على الجنود اليهود أن يبادروا لقتل الأغيار حتى دون أن يتلقوا أوامر من قيادتهم بذلك، ولا يفتي شابيرا بقتل غير اليهود فقط، بل يدعو للمس بأولئك اليهود الذين ينتقدون السلوك العنيف ضد الأغيار، حيث ورد في كتابه: “ويتوجب تعقب ومطاردة من يضعف كلامه مملكتنا”.
ويشير الكاتب والباحث في التاريخ القديم والتوراتي الدبش إلى فتاوى تحث على القتل العشوائي للمدنيين، وتدّرس في المدارس الدينية العسكرية، منها فتوى وقّع عليها عدد من كبار الحاخامات اليهود الذين يشكلون ما يعرف بـ”رابطة حاخامات أرض إسرائيل”، برئاسة دوف ليثور، الحاخام الأكبر بمستوطنة “كريات أربع”، الذي يحظى بقبول كبير في أوساط الضباط والجنود المتدينين.
وقد أباحت الفتوى لجيش الاحتلال قصف التجمعات السكانية الفلسطينية دون تمييز، واستند إلى هذه الفتوى عدد من الوزراء الإسرائيليين المتدينين لتبرير دعواتهم للمس بالمدنيين الفلسطينيين في أثناء الحروب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة سواء أواخر عام 2008 أم في صيف 2014، وجاء في هذه الفتوى: “الشريعة اليهودية تبيح قصف التجمعات السكانية المدنية الفلسطينية، والتوراة تجيز إطلاق قذائف على مصدر النيران حتى لو كان يوجد فيه سكان مدنيون”.
لماذا يستخدم نتنياهو مدلولات دينية لقتل الفلسطينيين؟
الكاتب ومدير مركز الزيتونة للدراسات والأبحاث محسن صالح، يقول إن الحركة الصهيونية نفسها تتضمن عناصر دينية، وفكرة إنشاء كيان يهودي في فلسطين والحق التاريخي لهم فيها يقوم على مزاعم دينية “اجمع اليهود في فلسطين” إلى آخره، ويتداخل الفكر الصهيوني العلماني والفكر الديني في هذه الأفكار.
ويوضح صالح في حديثه لـ”نون بوست” أن الجناح العلماني الصهيوني غير المتدين، والليكود الذي يتزعمه نتنياهو جزء رئيسي فيه يتعامل مع كتابهم المقدس التوراة والتلمود باعتباره يمثل الوعي الجمعي لليهود وحالة الفهم المشترك التي تجمع اليهود، وللتوراة والتلمود مدلولات أساسية في بيئتهم الفكرية العلمانية، والمشروع الصهيوني يلجأ إلى الجوانب الدينية حين يواجه خطرًا، ويصدره كملجأ روحي وللتقوّي به معنويًا.
“حتى ونحن نتعامل مع العلمانيين مثل نتنياهو، فلا بد لنا من الإشارة إلى تشكيلة حكومته واستجابة نتنياهو في خطابه لهذه التشكيلة، التي تضم في جزء كبير منها أتباع الصهيونية الدينية، فهو بذلك يتجاوب مع بيئة الحكومة، ويريد أن ينزل التوراة على الحياة اليومية لليهود، وفيها نوع من الاستناد للبيئة الشعبية التي منحته تفويض تشكيل الحكومة” يشير صالح.
ويؤكد مدير مركز الزيتونة للدراسات والأبحاث أن خطاب نتنياهو الأخير ليس بجديد على لغته، فقد لاحظ المركز من خلال دراسة للوثائق خلال السنوات الماضية، أن نتنياهو يستخدم هذا في خطابه ويتحين فرص إدخال مفاهيم تؤكد بالنسبة له شرعيتهم التاريخية والدينية في الأرض المقدسة، ولكنه لم يكن ظاهرًا كما أصبح اليوم.
وعلى غرار صالح، ينوه الكاتب والمحلل السياسي منير شفيق إلى أن نتنياهو يلجأ للتوراة لدعم موقفه، لأنه ببساطة، لا يستطيع تبرير وجود الكيان الصهيوني بالاستناد إلى واقع تاريخي صحيح ومسلم به علميًا أو مسلم به تاريخيًا، ولا يستطيع الاستناد إلى القانون الدولي أو مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، كما نستطيع نحن الفلسطينيين.
ومن الجدير بالذكر أن بعض العمليات العسكرية الكبرى أخذت مسميات توراتية، بما فيها عملية “السور الواقي” عام 2021، وهي “سيف القدس” بالتسمية الفلسطينية، التي هي نفسها ذات مرجع ديني وتوراتي، وكذلك الأمر في عملية “بيت وحديقة” حين اجتاح الاحتلال مخيم جنين في يوليو/تموز 2023.
لعنة العقد الثامن
في وسط ذلك كله، استعمل الناطق العسكري لكتائب القسام أبو عبيدة، مصطلح “لعنة العقد الثامن” في خطابه ورسالته إلى الاحتلال، حين قال: “زمن انكسار الصهيونية قد بدأ ولعنة العقد الثامن ستحل عليهم وليرجعوا إلى توراتهم وتلمودهم ليقرأوا ذلك جيدًا، ولينتظروا أوان ذلتهم بفارغ الصبر”.
ولعنة العقد الثامن هي ما يقوله العبريون أن “مملكة داود وسليمان”، وهي الدولة الأولى لليهود، لم تصمد أكثر من 80 عامًا، وكذلك “مملكة الحشمونائيم”، وهي الدولة الثانية لهم التي انتهت في عقدها الثامن، “ولعنة العقد الثامن” اليوم هي تخوفات حقيقية في الأوساط العبرية من أن الاحتلال الحاليّ، وهو الكيان الثالث لليهود، اقترب من عقده الثامن، بـ74 عامًا على قيامه إبان النكبة الفلسطينية.
وقد أبدى رئيس وزراء الاحتلال الأسبق إيهود باراك، عام 2022، مخاوفه من قرب زوال “إسرائيل” قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، حيث قال: “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككهما في العقد الثامن”.
والفارق بين نتنياهو وأبو عبيدة في خطابهما واستخدامهما مدلولات دينية، أن الأول لم يجد أوراقًا تسعفه في تبرير إبادته للفلسطينيين، فلجأ إلى أساطير دينية ليطمئن جبهته الداخلية أمام ضغوطات تتكشف يومًا بعد يومٍ لتحميله مسؤولية ما جرى، في حين استخدم أبو عبيدة المدلول الديني في إطار حربه النفسية ضد الاحتلال، بأن يعيد نبش ما يخيفهم حقًا.