يرتكز التكوين النفسي للشخصية الصهيونية على دعامتين هما: الأيديولوجية الصهيونية والمؤسسة العسكرية، وقد اهتزت الدعامتان في السابع من أكتوبر، في الواقع، لم تكن ملحمة طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام مجرد هزيمة فادحة لحقت بجيش مجهز بعتاد قوي، بقدر ما كانت ضربة لكبرياء الاحتلال وصدمة هزت الأركان الأساسية للتجمع الإسرائيلي، مسببة له ارتباكًا شديدًا.
لقد امتد تأثير طوفان الأقصى للبعد الاجتماعي والنفسي للشخصية الصهيونية، فقد تزايد الإحساس بالخطر والعزلة والإهانة، وانهارت لدى الإسرائيليين مسلمات عدة تتعلق بالشعور بالأمن وتفوقهم الحاسم وقدرتهم المطلقة، بعبارة أخرى تبدلت الصورة من “إسرائيل القوية القادرة” إلى “إسرائيل الخائفة المهددة”.
لعنه العقد الثامن: التشاؤم والشك
يقوم الفكر الصهيوني في جوهره على الاستيطان، أي جمع اليهود من شتى بقاع الأرض في فلسطين، وصهرهم في بوتقة واحدة تكفل لهم تكوينًا سيكولوجيًا موحدًا، بغض النظر عن اختلاف أصول وتكوينات هؤلاء الأشخاص وتعدد مجتمعاتهم الأصلية.
وما زال الكيان الصهيوني حتى الآن يبذل جهدًا كبيرًا ليس فقط لتوحيد شتات أفواج المستوطنين في سردية وكيان واحد، لكن لإقناع اليهود بالخارج للاستيطان في أنحاء فلسطين، وإبراز التجمع الصهيوني باعتباره وطنًا آمنًا يمتلك كل مقومات الحياة.
ومن المهم الإشارة إلى أن الحرب الأوكرانية أعطت فرصة كبيرة للكيان الصهيوني للدفع بقوة نحو مشروع الاستيطان، إذ خطط لاستقدام 100 ألف يهودي أوكراني لتوطينهم في فلسطين، ومن أول أسبوع لهذه الحرب، عبرت الحكومة الإسرائيلية عن سعادتها بها قائلة: “نحن في إسرائيل على استعداد لاستقدام خمسة آلاف يهودي من أوكرانيا أسبوعيًا”.
وبالفعل ازداد معدل قدوم اليهود الأوكرانيين إلى فلسطين، وهؤلاء المستوطنون الأوكران الذين وزعتهم “إسرائيل” في مستوطنات الضفة الغربية ليسوا في الواقع عالة على الكيان الصهيوني، وإنما لديهم خبرة، فمنهم الأطباء والمهندسون، وبالتالي تستطيع “إسرائيل” أن تستفيد من الخبرة الموجود لديهم، وبالطبع ستقوى أكثر.
لكن في حين أن حياة وازدهار هذه التجمعات الصهيونية رهين بأن يتوافر لها مناخ مستقر من الأمن، فقد جاءت طوفان الأقصى لتهدد التجمع الإسرائيلي، وتخرق الثقة ليس فقط بين المستوطنين والكيان، وإنما في المؤسسات الصهيونية الرسمية، بما في ذلك الجيش والشرطة والهيئات الحكومية.
وبعد أن توهموا أنهم أقاموا ملجأً آمنًا، انكسر الانسجام والثقة النفسية بالتفوق الإسرائيلي على الفلسطينيين، فلأول مرة كثر الحديث عن خيبة الأمل في “إسرائيل” والمستقبل المتشائم للحلم الصهيوني، وحياة الإسرائيليين الصغار في تربة غريبة عنهم، والتشكيك في النبوءات الموروثة والافتراضات التي تم التمسك بها.
والأهم العودة إلى الكابوس الذي لا مفر منه، وهو سؤال: هل لنا مستقبل في هذه المنطقة، وبالتالي لم يعد الأمن والاستيطان يسيران كما هي إستراتيجية “إسرائيل”، وحتى مع اتساع رقعة الأراضي المحتلة، لم يكفل ذلك أمنًا للاحتلال على خلاف ما وعد به قادته.
ونتيجة لصدمة طوفان الأقصى، ارتفعت مستويات الاكتئاب والقلق والتوتر الملحوظ، وبدأ العديد من الصهاينة في العودة إلى البلدان التي جاؤوا منها، رغبة في حياة هادئة بلا تهديد، وحتى هذه اللحظة، ما زالت مشاهد الذعر والفرار والازدحام غير المسبوق تملأ المطارات الإسرائيلية، وهناك بلدان أرسلت بالفعل طائرات لإعادة رعاياها اليهود الذين استوطنوا فلسطين، كما أعلن جيش الاحتلال أن 500 ألف نزحوا داخل “إسرائيل”.
رغم أن المجتمع الفلسطيني لم يعرف واقعًا غير المحرقة الصهيونية وأكثر تضررًا بمراحل من التجمع الصهيوني، بل حتى تنعدم المقارنة تمامًا، مع ذلك فإن عملية طوفان الأقصى أوضحت أن الثبات الداخلي للمجتمع الفلسطيني أقوى بكثير من التجمع الصهيوني.
فالأول ثبت في أرضه ولم يبق لديه ما يتمسك به إلا المقاومة والعيش تحت قذائف الموت، بينما الأخير رغم كل ما يملك ورغم البروباغندا التي يرجوها من قدرته على التعايش مع الحرب، أثبت هشاشته وعدم قدرته على تحمل الخسائر التي لا تقارن على الإطلاق بالخسائر الفلسطينية.
الوحشية: الانتقام الدموي
لم يستطيع الكيان الصهيوني مواجهة جمهوره بحقيقة ما جرى في طوفان الأقصى دفعة واحدة، لذا لجأت أجهزة الإعلام الرسمية إلى التباطؤ في إبلاغ الأخبار السيئة مع الحفاظ على الصورة الأسطورية للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والإصرار على رفض تقبل دور المنهزم.
ولإزاحة جو الإحباط والتعتيم على نشر الخسائر الفادحة التي تعرضت لها وحدات الجيش الصهيوني، لجأ الكيان إلى الانتقام المفرط الذي في الحقيقة يعد عنصرًا ثابتًا في النفسية الصهيونية تجاه الفلسطينيين.
لذا يرى الباحث الأمريكي باري بليخمان أنه عندما تعيش “إسرائيل” في جو من الإحباط ولا تقدر على تحمله، فإن الانتقامات تأتي كوسيلة للتنفيس عن هذا الإحباط وإحراز انتصار زائف بارتكاب المذابح، كما أن فترات الإحباط تجعل المستوطنين على اختلاف مشاربهم يتوحدون حول السلطة وتزداد عدوانيتهم تجاه الفلسطينيين.
لكن الملاحظ أن النفسية الإسرائيلية بعد طوفان الأقصى ازدادت توحشًا وكراهيةً، فهي لا تسعى فقط إلى هزيمة المقاومة، وإنما تريد محو شعب كامل من الخريطة، وترك جروح وخسائر تبقى وتوجع الفلسطينيين لسنين، وإحدى الطرق الوصول إلى ذلك الهدف، هي صنع عالم لا قيمة فيه لحياة الفلسطيني التي يمكن طمسها بسهولة، عالم فيه كل أصناف الموت والحصار والإذلال، بجانب تدمير البنية التحتية لغزة، وتعمد استهداف المستشفيات والأطفال من أجل نشر الخوف والريبة في كل مكان.
وفي ثنايا هذا الجو المشبع بروح العدوانية والإرهاب الذي شاهدناه في غزة، تظهر النفسية الصهيونية التي تختزن في داخلها ملامح التعطش للدماء والقسوة حين وقف الرئيس الإسرائيلي الذي يصنف باليساري المعتدل، وأعلن أن المدنيين في قطاع غزة غير أبرياء ويجب قتلهم، لأنهم لم يسقطوا نظام حماس في غزة.
الشعور بالدونية
رغم حالة الشعور بالتميز والتفوق وإبراز صورة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر”، فإن طوفان الأقصى خلقت لدى التجمع الصهيوني حالة من الشعور بالاضطهاد والدونية، وفي معادلة متناقضة، أبرزت القيادة الصهيونية صورتين: الأولى، الشعور بالاضطهاد وتأكيد التهديد الحمساوي الذي يستهدف وجودهم، والثاني الشعور بالاستعلاء وتأكيد التفوق العسكري الإسرائيلي القادر على استئصال المقاومة.
لطالما كانت الحرب كاشفة لتناقضات التجمع الإسرائيلي الممزق من الداخل، لكن من اللافت إيهام العالم الخارجي بمدى الخشية الإسرائيلية من خطر الإبادة الفلسطينية، وتضخيم مشاعر “الاضطهاد اليهودي” عقب طوفان الأقصى، فإلى الآن يتم تكرار – دون ملل – سردية اضطهاد حماس لليهود، وإبراز صورة التجمع الإسرائيلي كمكان يحيط به طوفان من الكراهية الفلسطينية، كذلك تم إحياء صورة اليهودي المعزول، الذي لا يستطيع الاعتماد على نفسه بل على معونة الآخرين.
تلعب سردية “الاضطهاد اليهودي” واستدعاء الذكريات القديمة دورًا كبيرًا في بناء فهم نفسي جماعي مشترك لدى الصهاينة، وربما يكون لنشر مثل تلك الصور في الخارج والداخل ضرورات سياسية واقتصادية لكسب المزيد من التعاطف وتدفق المعونات.
لكن إذا نظرنا للأمر من الناحية النفسية للشخصية الصهيونية، فالاضطهاد المتخيل هنا لا يدعم فقط الرواية الأمنية الإسرائيلية باعتبارهم الضحية الرئيسية للصراع، وإنما يشرعن القتل ويبرر المجازر والمذابح التي يرتكبونها ضد الفلسطينيين تحت مسميات اعتداء محتمل أو دفاع عن النفس، وأنهم مجبرون على ذلك ولم يكن ثمة بدائل أخرى.
بجانب عرض الضحايا من الفلسطينيين كمجرمين وإرهابيين وتجريدهم من إنسانيتهم، وفي معظم الأحيان تبرر الشخصية الصهيونية القتل المفرط بفكرة أن حماس هي التي أكرهت الإسرائيليين على قتل الفلسطينيين.
الاحتماء بالدين وبالحضارة الغربية
لا شك أن الديانة اليهودية لعبت دورًا أساسيًا في صناعة التجمع الصهيوني، وتشكل من خلالها وحدة تكوينهم السيكولوجي، كما أن المؤسسات التعليمية والعسكرية بـ”إسرائيل” اعتمدت على الدين كدعامة تكفل الرباط الوثيق بين اليهود، ورغم كل تلك الجهود وفي مجتمع غالبيته من اليهود، فإن %40 يتخذون موقفًا ضد مركزية الدين في الدولة وينجرفون نحو العلمانية، غالبيتهم من الأجيال الشابة.
لكن ملحمة طوفان الأقصى أعادت بشكل كبير الثوب الديني للنفسية الصهيونية، وأيقظت الشعور بأن ثمة تاريخ قديم يربط بين يهود التوراة ويهود “إسرائيل”، ويؤكد ذلك تعليق الصحفي الصهيوني “إيدي كوهين” عما ارتكبه جيشه من فظائع عقب طوفان الأقصى، فيقول: “فنحن أمة اللَّه التي تلقت التوراة على طور سيناء بيد رسول اللَّه موشه (موسى) منذ 3335 سنة من يومنا هذا”.
كذلك حفلت تصريحات معظم المسؤولين الإسرائيليين بتطعيم دعايتهم بالاستشهادات والاقتباسات من التوراة، وتبني النبوءات في أعقاب عملية طوفان الأقصى، مثلما صرح بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية عن رغبته في تحقيق “نبوءة إشعياء”، وتذكيره بما فعله العماليق بالإسرائيليين، بعبارة أخرى، فإنه يعطي الأوامر بإبادة الفلسطينيين استنادًا لفهمه لنصوص التوراة.
أيضًا ركزت النفسية الصهيونية على العلاقة الوثيقة التي تربط “إسرائيل” بالغرب، وإظهار صورتها كدولة تعد امتدادًا للحضارة الأوروبية وتخوض حرب الإنسانية ضد البربرية، إذ تم ربط معركة طوفان الأقصى بتنظيم داعش وهجوم تنظيم القاعدة على أمريكا في 11 سبتمبر/أيلول لدعشنة غزة وإظهار أن “إسرائيل” تواجه نفس الخطر الذي يواجهه الغرب.
وبالتالي فعندما يحرق الصهاينة قطاع غزة وينزعون عن سكانه صفاتهم الإنسانية، فإنهم يقومون بواجبهم في محاربة الإرهاب كما يفعل حلفاؤهم الغربيون.
يبدو أن طوفان الأقصى أدخلت “إسرائيل” في أزمات غير مسبوقة، والأهم أنها عمقت هوة الاغتراب التي بدأ التجمع الصهيوني يدخل فيها، وفي الواقع، فإن عمليات الإبادة الصهيونية الأخيرة تتمحور بشكل كبير حول شعور التجمع الصهيوني بالموقف الضعيف الذي باتوا فيه، لذا حاولوا تعويض الإحساس بالاغتراب والفشل عبر شن حرب إبادة، وتعزيز هوية التجمع الصهيوني، وطرح المعتقدات الأيديولوجية والموقف العقائدي، بجانب تقديم المزيد من سردية الانتماء للحضارة الغربية وإعادة التأكيد مرارًا على الروابط الحميمة مع الولايات المتحدة، أي التأكيد على أنهم خنجر في قلب العالم الإسلامي وقاعدة عسكرية للغرب.