الوقوف على حقيقة الأمر وواقعه قبل التسرع بإصدار الأحكام سمة العقلاء في كل عصر ومصر. وقد حقنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم دماءَ بني المصطلقِ من خُزاعةَ حين أمر خالدَ بن الوليد بالتثبت من أمرهم قبل الوثوب عليهم، فامتثل سيفُ الله المسلول أمرَ الصادق الأمين وأرسل عينًا له؛ ليؤكد له أن بني المصطللق لم يخلعوا عنهم رِبقةَ الدين. قبلها بساعاتٍ عاد الوليدُ بن عقبة بن أبي معيط -دون تثبتٍ- ليقول للمصطفى: يا رسول الله! منعَ بنو المصطلق الزكاةَ، وكادوا يقتلونني!
إلا أن التثبتَ والتحقُقَ من مُلابسات الموقفِ وتداعياته تضمنُ سلامة الحُكم وتقنينَ نسبة الأخطاء المحتملة. في حين أن المبالغة والتهويل في تناول الأمر قد تودي بحياة الأبرياء، يستلزم ذلك التزام المنهج الرباني “فتبينوا”.
عام 1956 أنتجت شركة جرونتال الطبية الألمانية مادة فعالة لعلاج غثيان الصباح للسيدات الحوامل والأرق والصداع
في عام 1956 أنتجت شركة جرونتال الطبية الألمانية مادة فعالة لعلاج غثيان الصباح للسيدات الحوامل والأرق والصداع، وتم الترويج لهذه المادة تحت الاسماء التجارية كونترجان، ديستان، وغيرها. الدعاية المصاحبة لهذا العقار اتسمت بالمبالغة الغير مبررة، مما أكسب المنتج رواجًا غير مسبوق، وذاع انتشار العقار في ألمانيا ودول القارة العجوز، ومنها إلى كندا، واستراليا، وإفريقيا، والشرق الأوسط، واليابان، إلا أن فرانسيس كيلسي الموظفة بإدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA رفضت دخول العقار لأمريكا؛ لعدم كفاية الدراسات حول أمان استعمال العقار خلال فترة الحمل على الجنين.
ولأن التضليل لا يدوم طويلاً؛ فقد استيقظ العالم على مقالة كتبها الطبيب الألماني ويدمان نلسن عام 1961 إثر فحصه لحالتين من الأطفال بدون أيدي أو أقدام، ونشرت المقالة في احدى المجلات الطبية المتخصصة، وقد سرد ويدمان في مقالته الأعراض الناجمة عن استخدام الثاليوميد، وأيده الطبيب الاسترالي مكبيرد في أن الثاليوميد له القدرة على اجتياز غشاء المشيمة، ويمنع نمو الأوعية الدموية الجديدة اللازمة لنمو الأيدي والأقدام في الأجنة مما ترتب عليه ظهور جيل بلا أطراف أُطلِق عليه جيل الثاليدوميد. وتم تحريم استعمال الثاليدوميد في العالم عقب هذه الكارثة المؤلمة، وأصبح الثاليدوميد مثالاً تاريخيًا للتشوهات الجينية الناجمة عن تناول الأدوية خلال فترة الحمل.
بلغ عدد الأطفال الذين قضى الثاليدوميد عليهم بالشقاء أبد الدهر 12 ألف طفل حول العالم في 46 دولة
العواقب الوخيمة التي أعقبها تناول السيدات الحوامل للثاليدوميد -على فداحتها- لم تتوقف عند اختزال الأطراف، بل شملت كذلك تشوهات الحبل الشوكي والأوعية الدموية فضلاً عن حالات إجهاض متأخر. وقد بلغ عدد الأطفال الذين قضى الثاليدوميد عليهم بالشقاء أبد الدهر 12 ألف طفل حول العالم في 46 دولة منهم 2000 شخص على قيد الحياة.
كشف التاريخ الوجه القبيح للدعاية الغير أمينة، والتي سعت لجني الأموال دون تجشم عناء التثبت من مأمونية ما يقدمونه للأبرياء، وسواءً أكان ذلك من باب التساهل أو الجهل بعواقب الأمر؛ فإن هذا لن يغير من معاناة جيل الثاليدوميد قيد أنملة.
كما أن التاريخ لا ينسى المواقف العظيمة للشرفاء مهما تغافل عنها الناس؛ فمع ظهور كوارث استعمال الثاليدوميد، قام الرئيس الأمريكي جون كيندي بتكريم كيلسي لموقفها النبيل، ولإصرارها على منع دخول الثاليدوميد للولايات المتحدة الأمريكية بالرغم مما تعرضت له من ضغوط لتمرير ملف العقار.
تذكر هذه النصيحة الربانية “فتبينوا”
فيا كل مسؤول! كن على مستوى المسؤولية، وتذكر هذه النصيحة الربانية “فتبينوا”، واعلم يقينًا بأنك موقوفٌ بين يدي الله عز وجل، وستُسأل: هل أديتَ أم ضيعت؟ فالزم منهج “فتبينوا”، تسلم ويسلم الآخرون. تبين قبل أن تُدلي بتصريح، وقبل أن تَعِدَ أحدهم بوعدٍ قد يبني عليه قصورًا من الآمال، وتبين قبل أن تفتي الناس بغير علم. وأنتم اخوتي الكرام “فتبينوا” يرحكمكم الله!