ترجمة وتحرير: نون بوست
إسرائيل تخطط لقطع الصلات بغزة بعد الحرب.. هذا ما جاء في عنوان رئيسي لصحيفة فاينانشيال تايمز في نهاية الأسبوع الماضي، دون ذكر مصدر أو علامات تنصيص. كما لو أن مثل هذه القطيعة يمكن أن تحدث. لكن ما تقوله إسرائيل يُنَفّذ.
هذا يلخّص الكثير من التغطية الإعلامية الغربية لإسرائيل وفلسطين على مدى السنوات الـ 22 الماضية، وخاصة تغطية بي بي سي. ويرجع ذلك إلى أنه منذ الانتفاضة الثانية في سنة 2001، لم تُشرح حقائق وأصول الحملة الإسرائيلية التي استمرت 75 سنة لطرد الفلسطينيين أو إخضاعهم بشكل مناسب.
نادرا ما وُضع التهجير الطويل للأمة الفلسطينية وتقليص حجمها عن طريق الطرد والاستنزاف والاحتواء والعنف في سياقه الصحيح في وسائل إعلامنا. وفي الوقت الراهن، يبدو أن هيئة الإذاعة البريطانية وغيرها تبذل محاولات يائسة لوضع هذا الأمر في نصابه الصحيح من خلال تحليل الخلفيات والبرامج التوضيحية، مثل السلسلة التي بثّتها إذاعة “بي بي سي4” الأسبوع الماضي بعنوان “فهم: إسرائيل والفلسطينيين”. لكن قد فات الأوان الآن.
تمكنت إسرائيل، بعد الهجوم الذي شنه المقاتلون الفلسطينيون في 7 تشرين الأول/أكتوبر، من التمسّك بالموقف الأخلاقي الرفيع وتصوير الاختراق وعمليات القتل على أنها “غير مبررة” بنظر المراسلين الغربيين. وأصبح في نظر الغرب أنه مجرد رد قوي على الهجمات الإرهابية التي استهدفتها.
في صحيفة “فاينانشيال تايمز” ذاتها، نُقل عن إتش إيه هيلير، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث عسكري في لندن، تكرار نقاط لمحللين مثل غريغ فيلو ومايك بيري، في كتابيهما “أخبار سيئة من إسرائيل” و”المزيد من الأخبار السيئة من إسرائيل”، وعني أيضا، في الغارديان وفي أماكن أخرى، تطرقنا لها أثناء الانتفاضة الثانية وبعدها.
قال هيلير: “هناك العشرات من الصحفيين الدوليين في إسرائيل الذين يمكنهم تغطية كل تفاصيل الفظائع. لكن لا يوجد تغطية عميقة مماثلة عندما يتعلق الأمر بالكارثة المدنية المذهلة في غزة”.
وتابع “إن هذا له تأثير حاسم في تجريد الضحايا الفلسطينيين من إنسانيتهم. وهذا يعني… أن الغربيين أكثر حصانة ضد معاناة المدنيين الفلسطينيين من معاناة الإسرائيليين”. لذا، فإن الإسرائيليين هم في الأساس “أشخاص مثلنا”، والفلسطينيون جماعة غير متماسكة ومجهولة.
النفوذ العالمي لهيئة الإذاعة البريطانية
يتعين على الفرق الإخبارية في بي بي سي ومنتجيها ومحرريها أن يخوضوا أيضًا حملة واسعة النطاق وشرسة في كثير من الأحيان ضدهم من قبل المصالح المؤيدة للصهيونية ووسائل الإعلام المطبوعة المؤيدة لإسرائيل بشكل موحد تقريبًا.
تختار الجماعات المؤيّدة لإسرائيل رؤية المآسي في فلسطين وإسرائيل من خلال عدسة الفظائع المرتكبة ضد الإسرائيليين. ولأسباب مختلفة، فإن هذه الجماعات حريصة على إخضاع هيئة الإذاعة البريطانية، وتدميرها إن أمكن، لذا فإن المناقشة حول ما إذا كان ينبغي لهيئة الإذاعة البريطانية أن تطلق على مقاتلي حماس اسم “الإرهابيين” أم لا، كانت على الدوام ذات أهمية أكبر بكثير من المذبحة التي لم يسبق لها مثيل للمدنيين المحاصرين في غزة.
بهذه الطريقة، يُعتقد أن هذه المؤسسة الإعلامية سوف تخضع للأجندة الإسرائيلية تحت وطأة الازدراء العام والسياسي. وغالبا ما يحدث ذلك. تحظى هيئة الإذاعة البريطانية بأهمية بالغة في أي حسابات إعلامية بسبب انتشارها الأوروبي والعالمي وسمعتها في تقديم الأخبار والتحليلات النزيهة والموضوعية.
لقد كنت منتقدًا قويًا وصريحًا لتغطية بي بي سي لإسرائيل وفلسطين لمدة 23 سنة، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، ليس بسبب تقاريرها وإنما بسبب الطريقة التي يتم بها تشكيل التغطية وتقديمها من لندن.
يعتبر هذا التلاعب، الذي يكون في بعض الأحيان مجهولًا وله جذور ثقافية، ولكن غالبًا ما يتم تحت ضغط سياسي كبير – الذي رددته قناة”آي تي إن” وسكاي وبدرجة أقل القناة الرابعة – على نطاق واسع أن العنف في المنطقة هو رد فعل إسرائيلي على الهجوم الفلسطيني. لقد بدأ نقل الأخبار عن هذا التحول الكارثي الأخير في الأحداث بهذه الطريقة، واحتفظت إسرائيل بزمام المبادرة إلى حد كبير. ولكن هل بدأ يتغير؟
بدأت هيئة الإذاعة البريطانية وغيرها من صحفيي التلفزيون والإذاعة الرئيسيين في استجواب المتحدثين الإسرائيليين. أصر مشعل حسين، في برنامج راديو 4 “اليوم” على قناة بي بي سي الذي عرض في 18 تشرين الأول/أكتوبر، على الساعة 08:16، في حديثه مع عقيد إسرائيلي على أن إجراء تحقيق مستقل سيكون أفضل طريقة لمعرفة من المسؤول عن مهاجمة المستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة في 17 تشرين الأول/أكتوبر. (وقد كان غاضبًا).
وقد تحدثت منافذ هيئة الإذاعة البريطانية مع أصوات فلسطينية قوية وعقلانية، مثل مصطفى البرغوثي، من المبادرة الوطنية الفلسطينية؛ والسفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة حسام زملط؛ وغادة الكرمي، الأكاديمية والناشطة البريطانية الفلسطينية التي أُجبرت عندما كانت طفلة على النزوح من القدس الغربية في وقت مبكر من النكبة. أوضحت نور عودة، من رام الله، سبب عدم دفعها إلى إدانة هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، التي تعد من المشاهد المفضلة للمحاورين الغربيين.
الضغط الساحق
إن قصف المستشفى الأهلي مثال صارخ على ما تواجهه هيئة الإذاعة البريطانية من حيث الضغوط الإسرائيلية والصهيونية المحلية الساحقة.
من وجهة نظري، كمراسل سابق لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط اضطر في كثير من الأحيان إلى إصدار أحكام فورية على التقارير الحية بناءً على المعرفة والخبرة والملاحظة، كان مراسل بي بي سي جون دونيسون محقا في تقريره بأن “الإسرائيليين يجرون تحقيقا.. من الصعب أن نرى ماذا يمكن أن يكون هذا [غير ضربة إسرائيلية]… نظراً لحجم الانفجار… عندما رأينا صواريخ تُطلق من غزة، لم نشهد قط انفجارات بهذا الحجم.. ولكن لا يزال يتعين التحقق من الأمر”.
ما قاله يحمل ثقل الأدلة المتاحة وتم التحذير منه بعناية. وجهت هيئة الإذاعة البريطانية انتقادات لاذعة لدونيسون على الفور على خلفية اندلاع احتجاجات صهيونية وحكومية. ولو قال دونيسون إن حماس ربما ضربت المستشفى عن طريق الخطأ، على عكس كل التجارب السابقة، لما تجرّأ أحد على انتقاده. ولا يزال الأمر متأصلًا في الروح الغربية، وهو أن الدولة – في هذه الحالة إسرائيل – هي التي تستفيد من الشك وليس ضحاياها في التحليل النهائي.
حتى أثناء التحقيق على نطاق واسع في التغطية التي بثها برنامج “ذا ميديا شو” على راديو بي بي سي 4 في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، كان تحيز هيئة الإذاعة البريطانية واضحًا. سأل المذيع الصحافية التي تمكنت في الماضي من تصوير حركة حماس في أنفاقها داخل غزة، هل ستفعل الشيء نفسه بعد “أهوال 7 تشرين الأول/أكتوبر”؟ وكان يعني من هذا السؤال بشكل ضمني هو أن حماس هي المصدر الوحيد للرعب. فلماذا لم يسأل فريقه الإخباري، جيريمي بوين على سبيل المثال، عما إذا كان بعد ما ارتكبته إسرائيل مراراً وتكراراً في غزة منذ سنة 2007 ما زال مستعداً لإجراء حوار مع متحدث عسكري إسرائيلي؟
إن تصريحات الحكومة البريطانية والمعارضة بشأن الدعم الثابت لإسرائيل وتصريح رئيس الوزراء ريشي سوناك لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في القدس، أمام الكاميرا: “نريدك أن تفوز”، أعطت وسائل الإعلام المطبوعة اليمينية البريطانية غطاءً في حين ظلت ملتزمة إلى حد كبير بهذا الخط.
بينما كان موقف الصحافة الليبرالية أكثر تذبذبا، نشرتُ مقالا يتحدث عن اعتقاد وزراء الحكومة أن هيئة الإذاعة البريطانية تعمل على تقويض الدبلوماسية في الشرق الأوسط (قصة المستشفى الأهلي).
الذعر متواصل
نشرت صحيفة الغارديان ردود أفعال فلسطينية وتحليلات وتعليقات داعمة، ومثلما فعلت صحيفة فاينانشيال تايمز، نشرت قصصًا مؤثرة عن مراسلات التلفزيون اللاتي سلطنّ الضوء على قصص شعب غزة المنكوب في شاشات قناة الجزيرة ومحطة تلفزيون الحرة الناطقة بالعربية المملوكة للولايات المتحدة رغم الخطر الهائل.
أوردت هيئة الإذاعة البريطانية تقارير حيوية عن تصاعد عمليات القتل والهجمات التي ينفذها المستوطنون والجيش الإسرائيلي على المدنيين في الضفة الغربية، إحداها في قصرة، بالقرب من نابلس، حيث قُتل أربعة فلسطينيين بالرصاص وهوجمت الجنازة اللاحقة. وقد قُتل 75 فلسطينيًا من الضفة الغربية في الأسبوع الذي تلا يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
لكن الخوف لا يزال قائما. وحسب ما ورد، كلفت صحيفة الغارديان المحامي الأمريكي ديلان سابا بنشر مقال حول قمع الصوت الفلسطيني والرقابة عليه في الولايات المتحدة. ولم يتلق سابا أي تفسير. ونُشر المقال بعد ذلك في مجلة “إن بلس وان” الأمريكية.
طلب المعهد الملكي للشؤون الدولية تشاتام هاوس في لندن من ماندي تورنر، أستاذة الصراع والسلام والشؤون الإنسانية في جامعة مانشستر والخبيرة في الشؤون الفلسطينية الإسرائيلية، تحرير مقال يكشف “لماذا تبدد السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟”. (كما لو كان هناك “سلام”.) لكن بسبب عدم رضاها عن التعديلات التي أصر عليها هذا المركز، سحبت تورنر مقالها وفي نهاية المطاف نشرته في منفذ إعلامي آخر.
ثم جاء قرار طرد صحيفة الغارديان لستيف بيل، رسام الكاريكاتير الشهير الذي يعمل معها منذ أكثر من 40 سنة، بسبب رسم كاريكاتيري يظهر نتنياهو وهو يستعد لاستئصال جزء من بطنه جراحياً على شكل قطاع غزة.
عندما رأيت الرسم، قمت بعرض الرسوم الكاريكاتورية لديفيد ليفين سنة 1966 في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس للرئيس الأمريكي آنذاك ليندون جونسون، وهو يعرض ندبة على شكل فيتنام على بطنه. كان هذا الرسم مصدر إلهام بيل، على حد تعبيره. لكن صحيفة الغارديان رأت، أو اختارت تحت الضغط أن ترى، إشارة إلى شيلوك، اليهودي الذي تم السخرية منه كثيرًا في مسرحية شكسبير تاجر البندقية. كيف يمكن أن يُنظر إلى هذا على أنه معاد للسامية هو نقاش طويل لمقال آخر. على أي حال، خسر بيل المعركة فيما يبدو أنها كانت نوبة من الذعر التي انتابت طاقم صحيفة الغارديان.
مؤشرات مشجعة
مما لاشك فيه أن هذه ليست لحظة حاسمة لتلخيص الاتجاهات السائدة في وسائل الإعلام الرئيسية في المملكة المتحدة، ولكن هناك دلائل تشير إلى أن المنطق بدأ يسود على الأقل في بعض الأوساط.
في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، تساءل فيليب ستيفنز (الذي كان عضواً في لجنة محافظي هيئة الإذاعة البريطانية التي قدمت تقريرًا نزيها للغاية عن الحياد في تغطية بي بي سي تجاه القضية الإسرائيلية الفلسطينية في نيسان/ أبريل 2006) في مقال رأي لصحيفة فايننشال تايمز: “متى يتحوّل التصميم على تدمير حماس إلى أعمال عنف عشوائية ضد الفلسطينيين المحاصرين… وعلى عكس المباني في غزة، فإن طموح الفلسطينيين لإقامة دولة لا يمكن سحقه. ويتطلب أمن إسرائيل على المدى الطويل أن تسير مرة أخرى على طريق الحل السياسي”.
في أحد المقالات الافتتاحية، أثارت الصحيفة ذاتها مسألة “الانتهاك الخطير للقانون الدولي” من خلال إبقاء سكان غزة تحت الحصار. وتحدثّت أصوات أخرى رفيعة المستوى عن “العقاب الجماعي” الذي تمارسه إسرائيل على سكان غزة فيما صنّفته على أنه جرائم حرب.
لم تكن هذه الأسئلة في صدارة التغطية الإعلامية البريطانية منذ الانهيار الفعلي لأي فرصة لحل الدولتين قبل 23 سنة. ولم يكن هناك الكثير من التقارير الصادقة حول التجاوزات العديدة للعنف ومحاولات التهجير التي تعرض لها الفلسطينيون على أيدي إسرائيل وداعميها الغربيين منذ سنة 1948.
بالنسبة لوسائل إعلامنا، فإن أمن إسرائيل وتحالفها مع الغرب يفوق دائما حقوق الفلسطينيين في الحرية والعدالة وتقرير المصير. وقد تكون هناك بعض العلامات المشجعة حيث تتساءل وسائل الإعلام البريطانية أخيرا: كيف بدأ هذا؟ ماذا سيأتي بعد؟
الموقع: ميدل إيست آي