ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال سنة 1992، تم استدعاء عالم الحفريات في متحف التاريخ الطبيعي في سان دييغو، توماس ديميري، فضلا عن العديد من زملائه لفحص مجموعة من العظام التي تم اكتشافها من قبل العمال الذين كانوا بصدد بناء الطريق السريعة 54، جنوب المدينة. واكتشف ديميتري أن هذه العظام تعود إلى البليستوسين أو العصر الحديث الأقرب. في الواقع، كان الموقع غنيّا بالحفريات التي تعود إلى عشرات الآلاف من السنين، بما في ذلك بقايا جمل، وحصان، وذئب رهيب، وكسلان الأرض، لكن الاكتشاف الأكثر إثارة للاهتمام هو بقايا حيوان المستودون.
في الوقت الراهن، تشتمل المنطقة على منازل زراعية ومروج. لكن في ذلك الوقت، كانت المنطقة عبارة على سهول فيضية واسعة مع شريط من الأنهار. وخلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد بالأمس، قال ديميري إنه “مكان جميل ليعاش فيه، أعتقد أنه ليس بعيد جدا عن الساحل”.
في الحقيقة، ما تمّ وصفه في البداية على أنه موقع حفريات يمكن أن يكون موقعا أثريا. إذا كان هذا هو الحال، فإنه سيكون بمثابة دليل يثبت أن الماستودون وجدت في أمريكا الشمالية قبل أشباه البشر التي تعود إلى أكثر من 100 ألف سنة
منذ سنوات عدة، يدرس وديميتري رفقة مساعديه عينات من تلك التي وجدوها في الموقع. وكلما تعمقوا أكثر في البحث، كلما تفاجؤوا بما يجدونه. ففي سنة 2014، أكد عالم الجيولوجيا البحثية في المسح الجيولوجي الأمريكي، جيمس بيسس، أن بقايا الماستودون تعود لما يقارب من 130 ألف سنة. وإلى حد الآن، لا يعد ما تم اكتشافه أمرا مثيرا للدهشة، نظرا لأنه تم إثبات، خلال في دراسة حديثة أجريت على عظام هذا الحيوان، أنه قد تم تحطيمها باستعمال صخرة كبيرة؛ أي تم ضربه وصولا إلى نخاع العظم.
في الحقيقة، ما تمّ وصفه في البداية على أنه موقع حفريات يمكن أن يكون موقعا أثريا. إذا كان هذا هو الحال، فإنه سيكون بمثابة دليل يثبت أن الماستودون وجدت في أمريكا الشمالية قبل أشباه البشر التي تعود إلى أكثر من 100 ألف سنة. وسينشر 11 عالما، من بينهم ديميريوبيسس، نتائج أبحاثهم اليوم في مجلة ناتشر.
صور الأضلع والفقرات غير المحطمة لحيوان المستودون
في هذا الصدد، أفاد عالم الآثار في جامعة ساوثامبتون، جون ماكناب، خلال مكالمة هاتفية أن “علم البحث في أولى الحضارات البشرية التي استوطنت الولايات المتحدة بمثابة ساحة وغى”. وعندما طلبت مجلة نيتشر من ماكناب أن يعلق بشكل مستقل عن الأبحاث والنتائج التي توصل إليها الفريق أجاب قائلا: “في الواقع، مازال الفريق بين أخذ ورد وإلى الآن لم يتوصلوا إلى نتائج نهائية”.
علاوة على ذلك، توقع ماكناب، الذي وصف نفسه بأنه شخص يميل إلي الشك، أن نشر نتائج الأبحاث ستحدث جلبة، وضجة وغضبا وسيتم رفضها “بيد أنه إذا كانت الأبحاث صحيحة، فإنها ستغير كل شيء عن الاستيطان في الأمريكتين وقصة قدوم الناس من إفريقيا”. واعترف ديميري في المؤتمر الصحفي بأن “الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية ليتم إثباتها”.
كما قال ماكناب إن الدراسة “توفر دليلا قاطعا على ما تم اكتشافه هو موقع أثري”. أما الرواسب التي استقرت فيها بقايا العظام، والتي هي عبارة عن حبيبات الغِرْيَن، تم وضعها تدريجيا جراء سيل بطيء. وهو ما يفضي إلى أنها ليست بالقوة الكافية لتتحول إلى حجارة كبيرة أو أن تقدر على إعادة ترتيب عظام الحيوان ضخم بهذا الحجم. من جانب آخر، لا يمكن لحجارة “الكوبل” المكونة من ” هامرستونيس” والأنفيلز” أن تكون قد شقت طريقها نحو الطبقة التي وجد فيها عظام الحيوان طبيعيا.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت العظام والصخور، والشقوق، والندوب، والخدوش، والسحج الناجمة عن الضرب المتكرر لهذا الحيوان بعد أن قارن الباحثون العظام المكتشفة حديثا بعظام من مواقع أخرى أن تكون الأضرار ناجمة عن الضغط المنجر عن الدوس على الموقع أو التهامها من قبل الحيوانات الآكلة للحوم.
تم إجراء نفس التجربة على فخذ أحد الفيلة التي توفيت على قارعة الطريق في تنزانيا. وفي مقطع الفيديو الذي تم تصويره للتجربة، مع رجلين من قبيلة الماساي وهما ينظران لرجلين أبيضان ويحملان مطرقة، بدا المقطع المصور كما لو أنه مقتطف من فيلم وثائقي
عموما، يعد استخدام الصخور لكسر العظام الكبيرة، إما للاستفادة من النخاع أو لصنع مواد صلبة منه، خدعة تم استخدامها من قبل أشباه البشر، التي يعود تاريخها إلى مليون سنة على الأقل في أفريقيا. وليثبت ديميري وزملاؤه صحة أبحاثهم، قاموا بإحدى التجارب التي هي عبارة عن ربط صخرة بمقبض خشبي طويل واستخدموها لكسر عظام الفيل الميت الذي عثروا عليه. وفي هذا الصدد، قال ديميري: “كانت الشظايا والكسور التي نتجت عنها متطابقة تقريبا مع ما رأيناه على عظام المستودون في سان دييغو”.
فضلا عن ذلك، تم إجراء نفس التجربة على فخذ أحد الفيلة التي توفيت على قارعة الطريق في تنزانيا. وفي مقطع الفيديو الذي تم تصويره للتجربة، مع رجلين من قبيلة الماساي وهما ينظران لرجلين أبيضان ويحملان مطرقة، بدا المقطع المصور كما لو أنه مقتطف من فيلم وثائقي.
في الحقيقة، سارع العلماء الذين تحدثت إليهم والذين لم يكونوا ضمن الفريق الذي قام بالأبحاث، إلى الثناء على مصداقية الباحثين وجودة أبحاثهم. وفي هذا الصدد، قال ماكناب: “لقد أخذوا أفضل الأدلة واكتشفوها بطريقة منطقية جدا، لقد حاولوا تزوير كل التفسيرات الطبيعية المحتملة، لكنهم توصلوا إلى حد أنهم لا يمكنهم أن يستوعبوا أي تفسير ما عدا استيطان البشر. ولكن السؤال الذي يطرح الآن هو هل قاموا باستبعاد كل شيء أتى بعد ذلك؟”. وأضاف ماكناب أن “شيئا كبيرا مثل هذا، يحتاج إلى أدلة قاطعة، ولقد توصلنا إلى العديد من الدلائل التي تجيب عن الأسئلة التي يتم طرحها”.
في الواقع، وجد الباحثون أنه من الغريب أن “الهامرستونيس” و”أنفيلز” لم تكن مصاحبة بحجارة أصغر حجم وأكثر حدة، على غرار ما وجد في المواقع التي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ. وفي هذا السياق، قال ماكناب إن “نزع ساق فيل ليس بالأمر الهين، لأنك في حال كنت تريد أن تصل إلى العظام، عليك أن تقطع الجلد ومن ثم اللحم”.
وفي شأن ذي صلة، قالت عالمة الآثار في جامعة مونتريال، أريان بورك، أنها عانت من افتقارها لآلة تشذيب الحجارة (في يناير/كانون الثاني، شاركت بورك في تأليف دراسة تشير إلى أن أول الأميركيين الشماليين وصلوا من سيبيريا قبل نحو 24 ألف سنة، أي قبل 10 آلاف سنة من التاريخ المذكور سابقا).
والسؤال الذي يلوح في الأفق، يتمثل في من أو كيف تم قتل هذا المستودون بهذه الطريقة منذ فترة طويلة؟
وأضافت بورك أنها ستكون متحمسة لرؤية الفريق وهو يقارن الأبحاث التي أجريت في موقع ماستودون مع مواقع تعود لنفس الحقبة في أوراسيا، أين تم قتل حيوان الماموث الصوفي من قبل البشر. كما صرّحت بورك قائلة: “ما زلت أجد الموقع محيّرا – يمكنك أن تقول “مثيرا للاهتمام” في حال كنت لا تريد أن تصفه بالمحيّر وذلك لأسباب مختلفة. يتمثل السبب الأول بطبيعة الحال في التاريخ. لا يوجد أي شيء في أمريكا الشمالية يمكن مقارنته بالعظام التي عثرنا عليها والتي تعود لحوالي 130 سنة”.
والسؤال الذي يلوح في الأفق، يتمثل في من أو كيف تم قتل هذا المستودون بهذه الطريقة منذ فترة طويلة؟. وفي هذا الشأن، قال ديميري إن “الجواب لهذا السؤال البسيط؛ بالطبع لا نعرف”. وتجدر الإشارة إلى أن الباحثين لم يجدوا أي بقايا بشرية في الموقع. في الحقيقة، تعد نظرية أن الجنس الذي استوطن أمريكا الشمالية هو البشر الحديث؛ أي الإنسان العاقل، الذي قدم عبر جسر بري يربط سيبيريا وألاسكا بين حوالي 27 ألف و11 ألف سنة مضت.
صخرة يعتقد أنها استخدمت من قبل البشر في وقت سابق على غرار صخرة الهامرستون
في المقابل، يعتبر الجسر قابلا للاندثار. ففي الوقت الذي تحطمت فيه عظام المستودون، كان من الممكن أن يكون الجسر قد غُمر بالماء، لأن المناخ الحار يذيب الأنهار الجليدية ويرفع مستوى سطح البحر. في ذلك الوقت، كان البشر لا يزالون “جنسا” جديدا إلى حد ما، ويعتقد أن الإنسان العاقل قد غادر أفريقيا في عدة موجات، كانت الأولى قبل مائة وثلاثين ألف سنة خلت. فقد توجهوا إلى الصين خلال الفترة الممتدة بين 80 ألف و120 ألف سنة مضت، وإلى أستراليا قبل 50 ألف سنة مضت.
أما الموجة الثانية، فقد انطلقت من أفريقيا إلى أوروبا الغربية قبل حوالي 40 سنة مضت. وبالنسبة للبشر، فإن أمريكا الشمالية كانت ستكون جسرا بعيدا وسريعا جدا. ولكن أعضاء سابقين من جنس هومو، بما في ذلك الأنواع التي تطورت في نهاية المطاف لتتحول لإنسان نياندرتال، قد غادروا أفريقيا وسكنوا أوراسيا.
خلال المؤتمر الصحفي، تكهن ديميري بأن الهومو فضلا عن أنواع أخرى قد دخلوا أمريكا الشمالية، إما عن طريق جسر بري أو بواسطة قارب. من جانب آخر، لا تعتقد بورك أن الأدلة الموجودة مقنعة بما فيه الكفاية، خاصة وأنه لا يوجد أي مؤشر جيني يدل على أن نياندرتال قد وصل إلى هذه القارة ولا شيء يشير إلى أنهم كانوا من البحارة. فضلا عن ذلك، ذكر ديميري أيضا الدينيسوفان، وهو نوع من الهومو الذي سكن غرب سيبيريا منذ 60 أو 70 ألف سنة مضت. وردا على ذلك، قالت بورك “من السابق لأوانه التحدث عن الدينيسوفان نظرا لأننا لا نعف بعد الكثير عنهم”.
على ضوء ما ذكر آنفا، قال ديميتري “أود أن أقول أن العديد من الأدلة قد تم التغاضي عنها بسبب الاختلافات الأكاديمية بين علم الآثار وعلم الحفريات”. وثمة احتمال آخر وهو أنه لا يوجد شيء يمكن التوصل إليه. كيف تستطيع أن تثبت أن شيء ما لا وجود له؟
كما أضاف ديميري “إذا شق أحد أشباه البشر طريقه إلى سان دييغو، فما الذي حدث له؟ هل تكبدوا عناء هذه المسافة ليموتوا هناك على غرار العديد من المستعمرين قليلي الحظ؟. في الواقع، يمكن أن نصبح إذا منقرضين محليا”.
وتابع ديميري قوله: “مما لا شك فيه أن هناك العديد من الدلائل التي يجب علينا أن نواصل البحث فيها”. كما شجع ديميتري علماء الآثار لينظروا عن كثب للرواسب القديمة. أما بالنسبة لعلماء الحفريات، فقد دعاهم إلى إعادة البحث في المجموعات الموجودة في المتاحف التي يمكن أن تكون ذات علاقة بأشباه البشر أو بالنشاط البشري.
على ضوء ما ذكر آنفا، قال ديميتري “أود أن أقول أن العديد من الأدلة قد تم التغاضي عنها بسبب الاختلافات الأكاديمية بين علم الآثار وعلم الحفريات”. وثمة احتمال آخر وهو أنه لا يوجد شيء يمكن التوصل إليه. كيف تستطيع أن تثبت أن شيء ما لا وجود له؟. من جهتها، صرحت بروك أن “المؤمنين سيستمرون في الاعتقاد، وسيستمر الكفار في كفرهم، والباقون سيجلسون في الوسط ويقولون “نود أن نشاهد المزيد من المعلومات”.
المصدر: نيويوركر