لا تزال مصر تخسر القضية تلو الخرى في قضايا التحكيم الدولي لتسوية منازعات الاستثمار إذ بلغ عدد القضايا أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي 29 قضية خلال 19 عامًا منها 19 قضية في الـ5 أعوام التالية لثورة يناير/كانون الثاني 2011 وتقدر القضايا بمليارات الدولارات في وضع صعب تعيشه مصر لا يمكن لها إلا تأجيل الدفع وتقديم التنازلات.
انتكاسات مصرية متتالية
أفاد بيان من شركة كهرباء “إسرائيل” أن الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) والهيئة المصرية العامة للبترول تتحملان المسئولية القانونية لعدم الوفاء بالتزامهما بتزويدها بالغاز الطبيعي لتشغيل محطاتها الكهربائية، إذ أدى توقف الإمدادات للجوء شركة الكهرباء الاسرائيلية إلى زيت الوقود والديزل الأغلى ثمنًا لتشغيل مولداتها وهو ما أدى أيضًا إلى ارتفاع مستويات التلوث وردت مصر حينها على الحكم بتجميد مفاوضات استيراد الغاز الاسرائيلي ووقف الموافقات الاستيرادية.
بدأت القصة عندما كانت مصر تبيع الغاز “لاسرائيل” بموجب اتفاق أجله 20 عامًا في عهد الرئيس حسني مبارك الذي سمح بتصدير الغاز “لإسرائيل” من خلال شركة غاز شرق المتوسط المملوكة لرجل الأعمال حسين سالم، وتضمن الاتفاق تصدير 1.7 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لإسرائيل لمدة 20 عامًا بثمن يتراوح بين سبعين سنتًا و دولار ونصف للمليون وحدة حرارية، بينما وصل سعر التكلفة آنذاك إلى دولارين و65 سنتا. إلا أن الاتفاق انهار في العام 2012 جراء هجمات مسلحين على مدار أشهر على خط أنابيب غاز في شبه جزيرة سيناء كان يضخ الغاز “لإسرائيل” لتخديم شركة الكهرباء الإسرائيلية.
بلغ عدد القضايا أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي 29 قضية خلال 19 عامًا منها 19 قضية في الـ5 أعوام التالية لثورة يناير
وذكرت شركة الغاز الإسرائيلية أن الحكومة المصرية لم تكن قادرة على حماية خط الغاز الطبيعي الذي يربط بين العريش المصرية ومدينة “عسقلان” في إسرائيل، ما نتج عنه تكرر الهجوم على خط الغاز 13 مرة، في الفترة بين بداية فبراير/شباط 2011 حتى 9 مايو/أيار 2012.
وأشار خبراء القانون وشركات المحاماة التي تستيعن بها الحكومة أن تقوم الحكومة بفسخ العقد مع إسرائيل وإلغاء الاتفاقية معها، إلا أن شركة “أمبال” الإسرائيلية لجأت إلى التحكيم الدولي ورفعت أربع قضايا ضد مصر بعدما أعطت مصر الإذن لها للجوء إلى التحكيم متوقعة أنها ستخسر بذريعة أن ما حصل يعد من عوامل الطبيعة وخارج عن قدرة الحكومة المصرية.
شركة “أمبال” هي شركة قابضة تملك حصة 12.5% في شركة غاز شرق المتوسط الأمريكية EMGالتي كانت طرفًا في تعاقد تصدير الغاز المصري إلى شركة الكهرباء الإسرائيلية.
حتى الآن خسرت الحكومة المصرية من إجمالي القضايا المرفوعة من “إسرائيل” بسبب الغاز الطبيعي الحكومة المصرية 3 قضايا دولية وبقيت واحدة سيتم البت بها خلال العام الحالي وحسب الخبير الاقتصادي المصري محمود وهبة أستاذ التنظيم وعميد معهد الدراسات التطبيقية بمركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك سابقًا، بأن مجموع خسائر مصر من وراء تلك القضايا قد يصل إلى 8 مليار دولار.
توصف قضايا التحكيم الدولي بأنها ملزمة وباتة ولا يجوز الطعن عليها وتلتزم الحكومات بدفعها في حال صدورها
ففي ديسمبر/ كانون الأول من العام 2015 حصلت الشركة الإسرائيلية على حكم نهائي من هيئة تحكيم دولي يلزم مصر بدفع 1.76 مليار دولار لشركة الكهرباء تعويضًا لها عن وقف إمدادات الغاز، بالإضافه إلى خسارتها في القضية الثانية مبلغ يتراوح بين 176 و 300 مليون دولار أخرى ليتعدى قيمة التعويض وقتها الـ2 مليار دولار.
علمًا أن الحكومة المصرية كانت اتفقت مع “إسرائيل” على استيراد الغاز الطبيعي منها مقابل شروط وهي إنهاء الخلافات مع الحكومة وقضايا التحكيم الدولي ضد مصر، إلا أن “إسرائيل” عرضت خفض الغرامة إلى النصف، وأن يشكل الاستيراد قيمة مضافة للاقتصاد بجانب الحصول على موافقة مسبقة قبل الاستيراد.
حصلت الشركة الإسرائيلية على حكم نهائي من هيئة تحكيم دولي يلزم مصر بدفع 1.76 مليار دولار لشركة الكهرباء تعويضًا لها عن وقف إمدادات الغاز
وقعت مصر في 20 مارس/آذار الشهر الماضي من خلال شركة “دولفينز” المصرية للغاز الطبيعي ومجموعة “تمار” الإسرائيلية للغاز، عقدًا بقيمة 20 مليار دولار على مدى 15 عامًا، وسيتم ذلك من خلال مد خط أنابيب جديد للغاز يمتد من حقول تمار إلى مصر بتكلفة حوالي نصف مليار دولار وتفعيل مذكرة التفاهم التي تم توقيعها لشراء خُمس حجم المخزون الاستراتيجي للغاز من حقل تمار الإسرائيلي بحوالي 60 مليار متر مكعب لأكثر من 15 عامًا بكلفة قدرت بين 15 – 20 مليار دولار على مدى عمر المشروع على أن الإمدادات ستتدفق إلى مصر في بداية العام الحالي 2017.
يُذكر أن حقل تمار موجود في مياه البحر المتوسط ويحتوي على ما يقدر بـ10 ترليونات قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وأقرت وزارة الطاقة الإسرائيلية في مارس/آذار من العام 2013 تعليمات إلى الشركاء في حقل تمار بعدم الإمضاء على عقود تصدير إلا بعد تصريح من الحكومة الإسرائيلية.
وقد بدأ حقل تمار الإنتاج في العام 2009 وتوجه معظم الإمدادات للسوق الإسرائيلية، وتفاوض الشركاء على توريد الغاز على مدى 15 عامًا إلى مصر والأردن، وفي اكتوبر من العام 2016 تم التوصل إلى اتفاق يقضي لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا وأن تدشين أنبوب الغاز سيستغرق 3 سنوات على أن يتم إنهااء الاتفاق في الربع الأول من العام الحالي ويكون الأنبوب جاهزًا لنقل الغاز في نهاية العام 2019.
المأزق المصري في قضايا التحكيم الدولي
توصف قضايا التحكيم الدولي بأنها ملزمة وباتة ولا يجوز الطعن عليها وتلتزم الحكومات بدفعها في حال صدورها، وهو ما أكده أستاذة في القانون الدولي أن هذه النوعية من الأحكام التي تواجهها مصر لا يجوز النقض أو الاستئناف وهو يعني أنها واجبة النفاذ.
حقل تمار موجود في مياه البحر المتوسط ويحتوي على ما يقدر بـ10 ترليونات قدم مكعبة من الغاز الطبيعي
وقد ذكر خبراء مصريون أن مصر مجبرة على دفع المبلغ المطلوب وأن المحكمة أضافت الفوائد المستحقة عن فترة التأخير في السداد والتكاليف القضائية والمحاماة وأنه إذا لم تدفع مصر المبلغ المستحق عليها، فستكون أصول مالية وتجارية تعود لمصر في الخارج مهددة للاستحواذ عليها بأمر من تلك المحاكم.
وفي حال تعنت الحكومة المصرية وآثرت عدم دفع المبالغ المترتبة عليها فإن هذا سيضر بتصنيفها الائتماني، وقد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية، مع العلم أن مصر بحاجة ماسة إلى تصنيف إئتمني جيد في هذه الفترة بالذات والذي سيجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد.
يرى مراقبون أن أحد أهم أسباب فشل مصر في قضايا التحكيم الدولي هو حجم الفساد المستشري في مصر بشكل كبير، وهو ما يؤدي إلى إبرام عقود غير سليمة ولا تحقق المصالح القومية للدولة مما يشكل عبئا على الدولة في النهاية. والحل كما يراه الخبير الاقتصادي محمود وهبه هو أنه من الضروري أن تنوع مصر تمثيلها القضائي، وتلجأ إلى عده مكاتب محاماة بدلا من مكتب واحد وخاصة بعد خسارة قضية كبرى لصالح إسرائيل.
الانسحاب من الاتفاقيات الثنائية أو إلغاء انضمام البلاد إلى التحكيم الدولي ليس حلا لأزمة مصر مع التحكيم الدولي
وأشار وهبة أن قضايا التحكيم الدولي تعتمد على ما يسمى بـ”الاتفاقيات الثنائية” بين مصر ودول أخرى يبلغ عددها 1566 دولة، وبناءًا على هذه المعاهدات الدولية فإن من حق أي مستثمر من جنسيه هذه الدول في حالة ICSID أو مزدوج الجنسية في حالة الغرف التجارية أن يرفع قضية ضد مصر لتعويض مالي حقيقي أو متصور.
ولا يعد الانسحاب من تلك الاتفاقيات الثنائية أو إلغاء انضمام البلاد إلى التحكيم الدولي حلا لهذه الأزمة لإن هذا يضر بسمعة البلاد الاستثمارية ويقتل فرص جذب الاستثمارات الأجنبية وهو ما يعود عليها بأثر رجعي. وحسب وهبة فإن الهند قامت بتعديل قد يفيد في حالة المشكلة المصرية، إذ تخلصت من التحكيم السري أو شبه السري تحت إشراف الغرف التجارية مع الحفاظ على الاتفاقات الثنائية .
في الواقع أمام مصر خيارات محدودة جدًا للوقوف ضد هذه القضايا، وهي إنهاء التحكيم تحت قواعد ISDS أو التحكيم تحت إشراف الغرف التجارية والتحكيم السري أو شبه السري، أما فيما يخص القضايا التي البت بها فيجب على الحكومة الوفاء بها، وإذا أرادت الالتفاف على الدفع فإن عليها تقديم تنازلات كبيرة للطرف الإسرائيلي حتى ترضى تخفيض قيمة التعويض على أقل تقدير.