على بعد 120 كلم غرب العاصمة تونس، تقع مدينة دقة الاثارية على مساحة 70 هكتار فوق هضبة تحيط بها أشجار الزياتين وحقول القمح، شاهدة على عظم الحضارة التي سكنت المنطقة وساهمت في ازدهارها لقرون.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي إلى المدينة الملكية النوميدية القديمة، مدينة “دقة التونسية” التي يمتدّ تاريخها لأكثر من 25 قرنا وتحتوي على أجمل المباني الرومانية التي توحي بثراء المكان حضاريا وتاريخيا فضلا عن ثرائه الطبيعي والجغرافي
معمار وآثار دينية متميزة
قريبا من بلدة تبرسق التابعة لمحافظة باجة، تقابلك مدينة دقة، التي تأسست في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم صارت عاصمة لملوك نوميديا، ومقرا للأمراء المحليين والسكان الأصليين، بمواقعها الأثرية التي تشرف على هضاب مرتفعة وانحدارات ملتوية لتروي تصاميم مدينة رومانية تم ترميمها والمحافظة على معالمها حديثا، وحقول قمح وزيتون ممتدة حول معالمها التاريخية، مشكلة مشاهد طبيعية خلابة.
من مسافات بعيدة، تبدو الآثار ظاهرة للعيان من خلال سواري واجهة “معبد الكابتول” الشامخة التي تذكّر بعظمة الامبراطور أنطونيوس بيوس الذي حكم البلاد، معبد حدّد طبوغرافية الموقع بعد أشغال الترميم التي تمت في بداية القرن الفارط حيث يشرف بارتفاعه على سهول وادي خالد الذي يحيط بالمدينة.
معبد الكابتول
وشُيّد هذا المعبد الذي كان يسكن فيه القيصر الروماني(الحاكم)، ويضم قواعد حجرية فخمة ترتفع بشموخ في بداية النصف الثاني من القرن الثاني ميلادي وتم الانتهاء منه بين 166 و167، ويعتبر هذا المبنى من أجمل المعالم الرومانية في تونس وفي شمال أفريقيا عامة.
وكان هذا المعبد الروماني الذي يعتبر رمز من رموز السيادة والقوة الرومانية وخلودها، مخصصا لعبادة الثالوث الإلهي لمدينة روما (جوبيتر، منيرفا، جونو)، وقد بني على النمط الروماني وبه مدرج يفتح على بوابة بأربع أسوار عند المدخل وساريتين جانبيين (طولها 8,5 م وقطرها 0.85م)، وتوجد في الداخل غرفة “السيلا” “قدس الأقداس” وهي عبارة عن غرفة مستطيلة، في نهايتها توجد ثلاث حنيات ليوضع بداخلها تماثيل الألهة ففي الحنية التي تقع في الوسط يقع تمثال جوبيتر وعلى جانبيه تمثال لجونو وأخر لمنيرفا.
إضافة إلى معبد “الكابتول”، تتميز مدينة “دقة” بعديد الاثار الدينية الأخرى، سواء منها المحلية النوميدية أو الوافدة
وفي الأعلى توجد نقشة بارزة تمثل رجلا محمولا على نسر وهو إشارة لتأليه الامبراطور انطونيوس بيوس الذي حكم فيما بين 138 و161 ميلادي، وأمام معبد الكابتول، يوجد فناء به سلالم للصعود إلى المبنى الذي يقف على منصة (بوديوم) ارتفاعها مترين
إضافة إلى معبد “الكابتول”، تتميز مدينة “دقة” بعديد الاثار الدينية الأخرى، سواء منها المحلية النوميدية أو الوافدة (الفينيقية/ القرطاجية ثم الرومانية)، ويعتبر بقايا معبد بعل حمون، الذي شيّد في القرن الثالث قبل الميلاد من أقدم هذه الأثار، إلى جانبه ضريح “آتيبان بن أبتيمتاح”، هو أمير من أمراء نوميديا، عاش بين القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميلاد، تخليدا له.
ضريح “آتيبان بن أبتيمتاح”
بالإضافة إلى معبد ساتيرن الذي بني في فترة حكم الإمبراطور الإفريقي سبتيموس سيفيروس ومعبد ماركير في نهاية القرن الثاني، ومعبد ” جونان كلاستيس” المحاط بأشكال نصف دائرية أين تقام الطقوس والتراتيل القدسية للآلهة القرطاجنية تانيت، ومعابد النصر التي شيّدت في بداية القرن الثالث في عهد الإمبراطور كركلا، ومقبرة فيها مذبح صخري للقرابين، كان مُخصّصاً لـ “بعل حمون”، إله الخصوبة والمحاصيل في ديانات شمال أفريقيا.
دقة مدينة الاثار
لا تختلف عمارة مدينة “دقة التونسية” عن عمارة المدينة الرومانية التقليدية، مثل مدينة بومبي في إيطاليا وجرش في الأردن، فالطراز المعماري الروماني يبدو واضحا وجليا فيها، فإلى جانب الأثار والمعالم الدينية، تحتوي مدينة دقة التي حولتها تونس إلى أحد أهم المواقع الأثرية في بلادها ووضعتها اليونسكو ضمن التراث العالمي، على عدد كبير من أجمل المعالم الأثرية، من ذلك المسرح الروماني الذي يتسع إلى أكثر 3500 شخص.
مسرح المدينة
ويعتبر المسرج الروماني بدقة من أجمل معالم المدينة التي تم اكتشافها بداية القرن السابع عشر مع بداية الحفريات الأثرية سنة 1890، ويقع المسرح في مدخل المدينة الأثرية حيث كانت تقام فيه المسرحيات والطقوس الدينية، ويشمل المسرح ثلاث أجزاء، المدارج، الأركسترا وخشبة المسرح، كما توجد بعض المدارج للأغنياء. وأصبح هذا المسرح اليوم، مكانا تقام فيه الحفلات والمهرجانات الفنية.
في وسط المدينة، توجد الساحة الكبيرة التي كانت مقرا للاجتماعات، وبجانبها السوق والممرات، والحمامات الساخنة
غير بعيد من المسرح الروماني، يطالع زائر المدينة، العديد من الأصنام الصخرية التي تعبر كل واحدة منها عن ملامح الأشخاص الذين عاشوا في تلك المدينة، التي تضم التاريخ النوميدي والفينيقي والعمارة الرومانية. وتتميز هذه الأصنام بكبر حجمها وبالرداء الفاتح الذي كان يرتديه الملوك ورجال المدينة، حسب عديد المؤرخين، وتنتشر الأصنام مقطوعة الرأس واقفة بين ثنايا القصر الروماني.
أثار متناثرة على جوانب المدينة
وفي وسط المدينة، توجد الساحة الكبيرة التي كانت مقرا للاجتماعات، وبجانبها السوق والممرات، والحمامات الساخنة، والمنازل التي ميّزتها أرضيتها المفروشة بلوحات فسيفسائية كبيرة الحجم وملونة، وتقول اليونيسكو إنه رغم عدم المعرفة الجيدة بتاريخ المدينة قبل العصر الروماني؛ فإن الاكتشافات الحالية في الموقع أحدثت ثورة في التصور الذي كان موجوداً عن هذه الفترة.
مناظر طبيعية خلابة
جمال دقة لا ينتهي عند أثارها المنتشرة على كامل أرجائها، بل يمتدّ أيضا إلى غابات شجر الزيتون وحقول القمح وعيون المياه العذبة المتدفقة التي لا تنضب مما جعل هذه المدينة مركزا للخيرات منذ القدم فهي تقع في منطقة الشمال الغربي الأكثر خضرة في تونس الذي كان قديما يزود روما بالقمح. وزادت هذه المناظر الطبيعية والسهول الممتدة والهضاب المرتفعة المدينة، جمالا على جمالها الذي استمدّته من أثارها ومعالمها التاريخ.